تقديم بقلم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أورثنا النبوة والكتاب، وجعل الرسالة الإسلامية هـي خاتمة الرسالات، واللبنة الأخيرة في البناء النبوي، فكان عندها الاكتمال وفيها الكمال،
قال تعالى:
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3) ،
وناط بالأمة المسلمة، حاملة الرسالة الخاتمة، الشهادة على الناس والقيادة لهم، إلى يوم الدين، وأهلها لذلك بما تمتلك من الخطاب الإلهي السليم والبيان النبوي المعصوم، اللذين يشكلان المعيارية التي تمكن من الشهادة، ويمنحان الخصائص التي تؤهل للقيادة، وإلحاق الرحمة بالعالمين،
قال تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) .
وقال:
( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحـج:78) .
وقـال تعالى:
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48) .
لقد استحقت الأمة المسلمة هـذا الموقع، بما تمتلك من قيم سماوية سليمة، وبما أوقفها الله عليه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتجارب الدعوة إلى الله تاريخيا، ومراحل وأقدار التدين هـبوطا وصعودا، وخطأ وصوابا، وانحرافا وتوبة، وما لحق بالتدين وأتباع النبوات السابقة من علل وإصابات في تدينهم، لتكون على بينة من أمرها، ودراية لواقعها، ووقاية لمستقبلها.. ولم يكن
[ ص: 9 ] القصص القرآني من باب سرد التاريخ والحكايات الغابرة، بعيدا عن بيان الأسباب والسنن الاجتماعية، وإنما كان صورة بشرية كاملة الأبعاد لتعامل الإنسان مع التكليف السماوي في حالاته المتعددة، والسنن التي تحكم هـذه المسيرة البشرية، أو القوانين والأقدار التي يخضع لها الفعل التاريخي، الذي يعتبر دليل صدقية هـذه السنن ومختبرها، بعيدا عن الأماني والرغبات.. فالأمة المسلمة بذلك، تقف على قمة التجربة البشرية، بمواقعها المختلفة وحالاتها المتعددة، الأمر الذي يبين خطورة الأمانة وعظيم المسئولية، ويمنحها القدرة على التجدد والتجديد الذاتي.
والصلاة والسلام على النبي القدوة، الذي تمثلت في شخصيته كمالات الأنبياء، وانتهت إلى رسالته أصول الرسالات السماوية، وجمعت في أمته الشعوب والقبائل والأقوام، وتحققت النقلة النوعية من دولة اللون والجنس والأرض، إلى أمة ودولة الفكر والعقيدة، حيث أصبح الكسب والاختيار هـما معيار التفاضل وتحقيق كرامة وإنسانية الإنسان، القائل صلى الله عليه وسلم :
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (رواه
أبو داود ) .
وبعـد :
فهذا كتاب الأمة السابع والخمسون: (الشيخ عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية) ، للأستاذ مصطفى محمد حميداتو، في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة التشكيل الثقافي والوعي الحضاري، ذلك أن الحال التي نحن عليها بحاجة إلى الكثير من المراجعة، والتفاكر، والتشاور، والفحص، والاختبار، وإعادة المعايرة بقيم الكتاب والسنة، والإفادة
[ ص: 10 ] من تجارب النبوة، والتعرف بدقة على علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي أصبحت تتسلل إلينا ونعاني الكثير منها، ومحاولة اكتشاف الأسباب التي أورثتنا هـذا الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن عدم المراجعة والفحص والاختبار لأفكارنا المطروحة ووسائلنا، يعني فيما يعني -إلى جانب العجز والتخاذل- القبول بهذا الواقع تحت الشعار المميت للفاعلية والتطلع صوب المستقبل: (ليس في الإمكان أفضل مما كان) .. وهذا لا يتحصل ما لم نتعرف إلى قدراتنا وإمكاناتنا، أو بتعبير آخر: التعرف إلى استطاعاتنا، ومن ثم تربية الإرادة القادرة على وضع هـذه القدرات في مواقعها الصحيحة.
ولعل من أخص خصائص التفكير الاستراتيجي: استشراف الماضي، والتوغل في العمق التاريخي، واستيعاب التجارب، واكتشاف العلل الحضارية أو علل التدين، وجوانب القوة والنهوض، وأسباب الضعف والسقوط، وتحديد السنن الاجتماعية الفاعلة في الحياة والأحياء، والإحاطة بالقضايا المطروحة، وتحليل جوانبها المتعددة، وسننها أو قوانينها، والنظر في نتائج هـذا الماضي، المتمثلة في الحاضر بكل معاناته، ومحاولة وضع هـذا الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة الأمة، وبناء الخطة المستقبلية بحيث تكون واضحة الأهداف الاستراتيجية والأهداف المرحلية، ودراسة الاحتمالات والتداعيات الممكنة، لأخذها بالاعتبار والاستعداد لها، والتعرف إلى الأولويات، واعتماد سنة التدرج وعنصر الزمن كوعاء حركة وقيمة إنجاز في الوقت نفسه، والتعامل مع المتاح، وعدم خلط الأهداف بالوسائل، والإمكانات بالأمنيات، والحماس بالاختصاص، والإحساس بالإدراك، وتجنب عثرات دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، والتخلص من حالة الانطفاء الثقافي، الذي يبعثر القدرة،
[ ص: 11 ] ويعطل الإرادة، مستعينين بالله في كل أحوالنا -اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام - من العجز الذي يشل القدرة، والكسل الذي يميت الإرادة، حيث كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم المأثور والدائم:
( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل. ) (متفق عليه) .
وقد يكون من القضايا الأساسية المطلوب أن نعرض لها، ونحن بسبيل الكلام عن رائد من رواد الحصانة الحضارية والثقافية والتحضير للإصلاح والتغيير، أن نلقي بعض الأضواء على قضية ملامح دعوات الإصلاح والتغيير بشكل عام، لأنها من أهم القضايا، فيما نرى، وتكاد تكتسب أهميتها أكثر فأكثر من خلال معاناتنا، وعجزنا عن الإفادة من تجاربنا، والاقتصار على مدحها والافتخار بها فقط، دون القدرة على تمثلها وتحليلها، وبيان صوابها وخطئها، لستر عجزنا ومعالجة مركب النقص في نفوسنا.
وأية دراسة تقويمية في هـذا الميدان، لا بد لها من الإحاطة الكاملة بدعوات الإصلاح والتغيير، ودراسة ظروفها وطروحاتها ووسائلها، وما واجهها من عقبات، وما أصابها من عثرات، وما لحقها من تداعيات، في ضوء منهج واضح ومدروس.
ولعل من أهم القضايا المطلوبة في هـذا الإطار، دراسة الظروف التي عملت فيها تلك الدعوات، ومناقشتها بجرأة وأمانة، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة والتطبيق، وإلى أي مدى خرجت من داخل الأمة، وتشكلت في رحمها، وتجاوبت مع معادلتها الاجتماعية ؟ وقد يكون المطلوب كذلك عدم الاقتصار على دراسة دعوات التغيير والإصلاح والتجديد، التي خرجت من الداخل الإسلامي، وإنما أيضا دراسة تيارات التغريب والاستلاب الحضاري، ورصد تأثيرها وأثرها، وكيفيات التعامل معها، وتحديد موطن الصواب والخطأ.
[ ص: 12 ]
وأعتقد أن المنهج المعتمد في دراسة دعوات الإصلاح والتغيير في الداخل الإسلامي، لا بد أن يكون من عطاء النبوة، ومنطلقا من معرفة الوحي الخاتم، التي وفرت لها جميع التجارب التاريخية، وأوقفت عليها وقدمت لها النماذج المتعددة، لاختصار التجربة والبدء من حيث انتهى الآخرون، وعدم السقوط بالحفر نفسها، حتى
( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) .. فالرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه خيار من خيار من خيار، من حيث المؤهلات والمزايا الشخصية، وأنه محل الرسالة الخاتمة -والله أعلم حيث يجعل رسالته- وأنه معصوم، مسدد بالوحي ومؤيد به، قدمت له النماذج والتجارب النبوية، التي سارت وفق السنن، وطلب إليه أن يتعرف على هـذه التجارب، ويقتدي بالجوانب الإيجابية، ويحذر ويحذر أمته من علل التدين التي كانت سبب السقوط الحضاري،
قال تعالى:
( أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90)
والمنهج النبوي أكد على أن عمليات الإصلاح ومحاولات التغيير، تبدأ من تحرير الإرادة، وتحرر الضمير.. تبدأ من داخل النفس.. ذلك أن القيام بأي عمل مؤثر في الواقع الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي، غير ممكن قبل تحرير الإرادة وانعتاق الضمير من رواسب ذلك الواقع وتأثيراته، الأمر الذي يمكن من إعادة صياغة الإنسان، وإعادة تشكيله، باعتباره أداة التغيير وهدفه في وقت واحد، وعلى الرغم من أن الإنسان نفسه يتأثر بالواقع، لكنه في ذات الوقت يؤثر به.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى إرادة الإنسان هـي مفتاح التغيير والإصلاح،
فقال تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ،
وكأن سياق الآية -وكل شيء عند الله بقدر- جعل إحداث التغيير من الله
[ ص: 13 ] منوط بإرادة التغيير من الناس.. فهو بقدره أراد لهم أن يريدوا ذلك، لإحداث التفاعل والوصول إلى الأهداف.
وإرادة التغيير، لا تنافي القدر -ولا تصادمه- الذي بات يشكل تكأة ومسوغا للقاعدين والمنسحبين وأصحاب المذاهب الإرجائية، ومن ينتسبون إلى القدر، ويدعون الإيمان به، بل هـي من القدر، حيث إن الله هـو الذي أراد لنا أن نريد -كما أسلفنا- وأن ندفع الأقدار بأقدار أحب إلى الله منها، كما يقـول
ابن القيم رحمه الله، بفهمه الدقيق ورؤيته الذكية: ليس المسلم الحق هـو الذي يستسلم للقدر (والاستسلام غير الرضا) ، وإنما هـو الذي يدفع القدر بقدر أحب إلى الله منه.
وهذه المدافعة للأقدار بالأقدار، التي هـي من أمر الله أيضا، لا تتأتى إلا بإدراك سنن الله الاجتماعية في الأنفس، وسننه الكونية في الآفاق.. فهي ليست أمنية عائمة بمقدار ما هـي إيمان بصير، وإرادة ومعرفة بالإمكان، وعلم بالسنن الفاعلة، يمنح القدرة على إدراكها وفاعليتها، ومن ثم المداخلة في مسارها وتسخيرها.
ولعلنا نقول هـنا: بأن الارتكاز إلى معرفة الوحي (قيم الكتاب والسنة) ، هـو وحده الذي يحقق الانتشال الحقيقي للإنسان من تحكم العادات والتقاليد والإرث الآبائي في التشكيل الثقافي وإرادة التغيير، وهو الذي يشكل معايير التغيير والإصلاح، ويمنح الاطمئنان وقوة العزيمة على الانعتاق من البيئة المتحكمة، والبدء بإصلاحها.
وعمليـة التغييـر والإصـلاح -كما هـو معروف- لا بد أن تسبق باكتشـاف الواقـع، والإدراك الكـامـل له، وتحليـلـه، والمفارقـة بينـه وبين
[ ص: 14 ] ما يجب أن يكون، ومن ثم التفكير في الكيفيات والمناهج والبرامج التي تعيد مسيرة هـذا الواقع إلى الجادة الصحيحة، في ضوء السنن التي تأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، والميراث الثقافي والحضاري، وعقيدة الأمة، ومعادلتها الاجتماعية، وحالتها الثقافية.
ذلك أن أية دراسة لدعوات الإصلاح، أو للواقع الذي تريد تغييره، تتطلب عملية نقدية جريئة، لأنها ضرورة لأية دعوة إصلاحية تغييرية، تريد أن تقوم على خطة استراتيجية ومنهج ونظام يسعى إلى تحقيق أهداف معينة، وإلى تسجيل غايات كبرى في الواقع التاريخي، وتنبيه الأذهان إلى العيوب المنهجية في دعوات الإصلاح السابقة، التي أدت إلى الإحباط والفشل رغم توفر الطاقات المادية والإمكانات النفسية.
وعملية النقد للدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يمكن أبدا أن تصنف في خانة الحط من قدرها أو بخسها حقها، وإنما تعني تقديرها والعناية الكاملة بها، ومحاولة الإفادة منها، وذلك بامتلاك القدرة على استصحابها وحسن الإفادة منها، وإضافة رصيدها من الصواب، والخطأ الذي تقود معرفته إلى الصواب، لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة أو المأمولة.
والمحزن حقا أن أغلب من كتب ويكتب في تاريخ الدعوات الإصلاحية والتغييرية، لا يحاول أبدا أن يوجه نقدا، أو يقدم تقويما، وإنما يسلك منهجا أقل ما يوصف به بأنه عاطفي يغلب عليه التبسيط وأحيانا التسطيح، قد يتجاهل الداء أو يخفيه، ظنا منه أن النقد يرادف التجريح والغيبة المنهي عنها، الأمر الذي يسمح للداء بالتكرار والامتداد ويزيده تمكنا.. ذلك أن جوهر
[ ص: 15 ] التغيير والإصلاح النفسي والخلقي والاجتماعي والسياسي، يقوم على أساس النقد والتقويم، واستشعار التناقض بين الواقع الذي نعيشه، والمثال الذي نسعى إليه.
ولعل من المهم أن نشير إلى أن مبدأ النقد أو منهج النقد له أصوله وأخلاقه وآدابه، فلا يجوز أن يتعرض للأشخاص وشئونهم الذاتية إلا بالأقدار الضرورية التي تخدم الموضوع، لأنه بذلك يتحول عن غايته الإصلاحية ويصبح عامل هـدم وجلد، وتشهير وإساءة، وإنما يتوجه صوب الأعمال والمسالك التي تمس شئون الحياة العامة، اقتداء في ذلك بمنهج النبوة:
( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) ، بلا بخس ولا تطفيف.. مع مراعاة أن النقد لجانب من جوانب دعوات الإصلاح، لا يعني الإلغاء لإنجازاتها وفضلها وكسبها الطيب، واختزال تاريخها في عمل خاطئ أو موقف عاجز متخاذل، والحكم عليها من خلاله، وإنما يعني التوازن، وضبط النسب، وإعطاء كل شيء حقه من الحكم، صوابا أو خطأ، في ضوء معايير معرفة الوحي، بعيدا عن الذاتية والنرجسية والمعايير الشخصية، وتقديم هـذا الرصيد من تقويم الخطأ والصواب للقادمين على الطريق.
وقد يكون من المحزن أيضا، ضمور وانكماش الأدبيات النقدية لدعوات الإصلاح والتغيير الحديثة والمعاصرة، على الرغم من الشكوى المرة من أنها جميعا تكرر التجارب نفسها ولا تفيد من أخطائها أو أخطاء من سبقها.
ومن اللافت للنظر حقا أنه على الرغم من الإخفاقات الكبيرة والخيبات الكثيرة، والورطات الغريبة التي دفعت لها بعض الحركات الإسلامية، التي تمت تصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدمائها، لم نقف منها على اعتراف واحد بالخطأ أو التقصير أو سوء التدبير، وكأن كل ممارساتنا كانت محض صواب،
[ ص: 16 ] وكأن غيرنا من الأمم والحضارات وحركات ودعوات الإصلاح والتغيير الأخرى، أولى بهذا الاعتراف بالخطأ، وهذه الشجاعة في العودة إلى الحق منا، لذلك جاءت النتيجة: أن تتراكم المعرفة والخبرة عندهم، وتتكدس الأخطاء وتتكرر عندنا، وتسلمنا هـزيمة إلى هـزيمة، على الرغم من امتلاكنا القيم السليمة والتجربة الأنموذج، التي وضعناها في خانة التبرك والعزلة عن الحياة.
والملاحظ أن الكثير من الكتابات المتوفرة حول دعوات الإصلاح والتغيير، إما أنها تذهب كليا للمديح والفخر بالإنجاز، وإما أنها تقدم دراسات وصفية سردية تفسيرية، بعيدا عن أي تحليل ودراسة موضوعية خاضعة لمنهج واضح في التناول والمعايرة، للوصول إلى نتائج يمكن أن تفيد في متابعة الطريق.. لذلك فمعظمها كتابات هـي أقرب للتكديس والتكرار والتلقين، منها إلى إثارة التفكير والملاحظة والاستنتاج والتعرف إلى جوانب الخطأ والصواب.
ولا أدري كيف يمكن أن نستفيد من أخطاء من سبقنا وصوابه، إذا لم نمتلك الجرأة الكافية في بيان الصواب والخطأ، والكشف عن أسباب الإصابات، ذلك أن الكثير من الدعوات الإصلاحية والتغييرية للواقع، لم تبلغ أهدافها، كما هـو معروف، وإن حققت بعضها، ولا يمكن بحال أن نعزو ذلك كله إلى العامل الخارجي الذي كان ولايزال مستمرا وقائما، ليشكل لنا ذلك مهربا ومبررا ومشجبا نعلق عليه أخطاءنا، لأننا لو سلمنا بذلك فلا بد أن نعترف بما هـو أدهى وأمر: بأننا قيادات قاصرة وعاجزة عن التفكير الاستراتيجي، ودون سوية العصر، والتعامل مع الظروف المحيطة في ضوء الإمكانات المتوفرة.. وأكثر من ذلك، ومصرة على الادعاء بعدم التقصير والخطأ.. لذلك قد يصبح من أعدى أعدائها، أولئك الذين يقدمون لها المناصحة، ويكشفون لها بعض
[ ص: 17 ] جوانب التقصير، ويبصرون الأجيال ببعض الإصابات لتجنبها، وكأن قيادات بعض دعوات الإصلاح والتغيير، فوق مراتب الأنبياء المؤيدين بالوحي والمسددين به، الذين عاتبهم الله على بعض أعمالهم، وبين الوحي خطأ بعض اجتهادهم، وغفر الله لهم ذنوبهم التي وقعوا بها بطبيعتهم البشرية، ليعلموا الناس أن المناصحة والتقويم والنقد والمراجعة، هـي سبيل الطريق الصحيح والسبيل القويم لصواب العمل وبلوغه أهدافه.
أو كأنهم فوق مرتبة الصحابة الذين بين القرآن خطأهم، وهم في أعلى مراتب الجهاد، وأخطر المآزق العسكرية، وأشد مراحل الهزيمة في أحد ، والنصر في بدر ، وكشف عن طوايا نفوسهم، ونشرها على الدنيا، إلى يوم الدين، في آيات تتلى ويتعبد بتلاوتها، وتصوب المسيرة بتدبرها، وتهدى الأجيال بها،
إلى يوم القيامة:
( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) ..
( منكم من يريد الدنيا ) (آل عمران:152) ..
( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) (الأنفال:17) ..
( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) (الأنفال:1) ..
( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (الأنفال:68) ...إلخ.
إضافة إلى أنه لولا النقد والتقويم والمراجعة والجرح والتعديل، لاختلط الصحيح بالموضوع، والغث بالسمين في ميراثنا الثقافي، والتبست معرفة الوحي بكلام الناس.. تلك العمليات النقدية، هـي التي نتميز بها ونفخر، وتشكل لنا في كل عصر إمكانية النهوض.
إن غياب منهج النقد والتقويم والجرح والتعديل، عن الواقع المتحرك لدعوات الإصلاح والتغيير، أوقعها بالكثير من الحفر، وفوت عليها الكثير من الأهداف..
[ ص: 18 ] وليس ذلك فقط، وإنما ساهم ولايزال بتضليل الأجيال عن البصيرة الصحيحة، والتفكير بالعواقب والمآلات، والإعداد لها بالقدر نفسه للتفكير بالوسائل، وتقديم التضحيات والاقتصار عليها.. ولا أعتقد أن المباهاة والتفاخر بامتلاكنا لمناهج متقدمة للنقد وميراثنا المتميز من الجرح والتعديل، وإعلانه على المنابر فقط، يغير من الأمر شيئا، حيث إن واقعنا يشكل شاهد إدانة على ذلك.
إن أخطاءنا هـي التي تحيط بنا، وتدمرنا، وتقضي على أهدافنا وطموحاتنا، وتمكن للعامل الخارجي أن يمتد في داخلنا، ويعمل فينا عمله الذي نراه.. والادعاء بأن النقد والتصويب يشوش الصفوف ويخلخلها، ويبصر العدو بمواطن الضعـف ليتسلل منها، مـردود بأن الصفـوف التي لا تحتمل النقد، لا ثقة بها للقيام بأي عمل، وأن العدو -كما هـو ملاحظ- أعرف بنا وبأخطائنا منا، وقد يكون وراء صناعة الأخطاء وتكريسها، والإغراء بالتستر عليها، ليحاصرنا ويشل حركتنا.. وما أعتقد بأنه كان -في تاريخنا- أسوأ من هـزيمة أحد للمسلمين، وانتفاخ عدوهم، ومحاولته إعلاء الوثنية على الإيمان، ومع ذلك عوتبوا وخطئوا على الملأ، وما ادعى أحد بأن ذلك كان سبيل الأعداء إليهم، لأنهم كانوا يدركون أن ذلك سبيلهم إلى الأعداء في الجولات القادمة.
وفي تقديري أن شيوع الروح الحزبية المتعصبة، والانغلاق على الذات وعن الآخر، وحماية الضعف والعجز والتخاذل، وراء الأسوار الحزبية السميكة، هـو الذي سمح بوصول بعض الناس من غير المؤهلين إلى مواقع القيادة، وجعل مهمة الحفاظ على استمرارهم هـو الهدف، بعيدا عن الامتحان والاختبار، وكان ذلك أهم سبب في تكريس الخطأ ومطاردة ومحاصرة أي توجه نقدي أو إصلاحي.. ونخشى أن تتحول الأمور إلى ضروب من الجاهلية، مغلفة بشعارات إسلامية.
[ ص: 19 ]
ومن المفيد أن نذكر هـنا أن خطورة الحضارة القائمة الغالبة وامتدادها، يكمن في قدرتها على اكتشاف أمراضها وأخطائها، ومعالجة نفسها بنفسها، حتى نرى أن خصومها من أمثالنا، الذين يعيشون في غرف الانتظار ويتمنون سقوطها، يبرهنون على فسادها بالعلل والأمراض التي كشفتها هـي، واستنفرت للتحذير من خطورتها، والعمل على علاجها.. حتى العلل لا نستطيع إدراكها إلا من خلال دراساتهم وإحصاءاتهم!! أما نحن فلا علل ولا أخطاء لنا، على الرغم من واقعنا المتردي، وكأننا فوق مرتبة البشر!!
وهنا قضية قد تكون جديرة بالملاحظة والانتباه، ونحن بصدد إلقاء بعض الأضواء على دعوات ومحاولات الإصلاح والتغيير والتجديد، في الداخل الإسلامي، وهي أن دعوات الإصلاح والتجديد التي نبتت في التربة الإسلامية، وعلى الرغم مما أدركها من الخطأ والنقص والتقصير، الأمر الذي حال دون بلوغها أهدافها كاملة، إلا أنها تركت رصيدا طيبا في ضمير الأمة، وجددت ذاكرتها تجاه واقعها الأليم، وبصرتها بأعدائها الذين كادوا يلبسون عليها، ومكنتها من الاحتفاظ بقيمها، والاستشعار بأن القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، هـي سبيل الخروج وسفينة النجاة، وإن لم تستطع أن تفلح بشكل كامل في تقديم الأوعية المطلوبة لحركة الأمة في اتجاه عودتها للإسلام، وتحويل المبادئ إلى برامج والسياسات إلى خطط وممارسات.
لقد نجحت هـذه الدعوات في أن تعزل الفساد ومؤسساته عن ضمير الأمة، وتحد من استشراء الشر، وتترك بصماتها في العمق التاريخي لمسيرة الأمة، وتجديد ذاكرتها تجاه عدوها.
[ ص: 20 ]
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن دعوات التغيير وادعاء الإصلاح والثورة على التقاليد والواقع الاجتماعي، التي جاءت من خارج الأمة، وحاولت أن تفرض نفسها وأفكارها وتغري بها، بالمال والسلطان والإعلام، والإكراه، ومساندة الاستعمار بكل أنواعه، عاشت على هـامش ضمير الأمة، وإن أوقعت بعض الضحايا لتضليلها الفكري وعمالتها الثقافية، وتحولت لتصبح شاهد إدانة تاريخي على محاولات النيل من عقيدة هـذه الأمة وتفتيتها وتضليلها، باسم إصلاحها والنهوض بها، بل لعلها كانت من عوامل النجاح لدعوات الإصلاح الإسلامية بصورة أو بأخرى، بسبب استفزازها وتحديها.
وقد يكون السبب الأساس في ذلك، أن أية محاولة أو دعوة للإصلاح والتغيير، تأتي من خارج الأمة وعقيدتها ومعاناتها ومشكلاتها ومخزونها الثقافي وتقاليدها الاجتماعية السليمة، سوف تبوء بالفشل، لأنها دخيلة، وأقل ما يقال فيها: إنها تحاول التجديد لواقع أمة ومعايرته من خلال أصول حضارية وثقافية ودينية غير أصولها وحضارتها وثقافتها ودينها.
ولعل الكثير من الارتكاسات والصراعات وصور العنف، التي تعاني منها مواقع كثيرة في العالم العربي والإسلامي، في مرحلة ما بعد الاستعمار، إنما هـي بسبب عدم قدرة دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير على الامتداد بدعوتها، والحفاظ على إنجازاتها، وتنميتها وحمايتها، وتحقيق أهدافها، الأمر الذي مكن الآخر من السطو ومحاولة العبث، وسوء التعامل، والتنكر للأهداف، في مراحل ما بعد الاستقلال.. تلك الأهداف التي دفعت الأمة ثمنها غاليا من دمائها وأوقاتها، وبات من الصعب جدا التنازل عنها، لذا يتحول بأس الأمة الشديد إلى ما بينها،
[ ص: 21 ] وتبدأ مرحلة التآكل والتناكر والتنافر والخلاف والدخول في الأنفاق المظلمة، التي يسودها عمى الألوان، وممارسة البطش في الاتجاهات كلها، ومن الجهات كلها، وتبدأ لغة القوة والعنف تفرض نفسها، وتستدعي مزيدا من السلاح نفسه لجميع أطراف النزاع، ويسود شعار: الخوف على الديمقراطية من الديمقراطية !!
وبعد هـذه الملامح الرئيسة لدعوات الإصلاح والتغيير والتجديد، نعرض لبعض جوانب النجاح التي أصابها
الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، رائد الإصلاح والتجديد والتغيير، ورئيس جمعية العلماء المسلمين في
الجزائر ، ونسارع إلى القول: بأن الشيخ -وإلى حد بعيد- حاول أن يستوعب الواقع بكل مكوناته، سواء في ذلك الداخل الإسلامي (واقع الشعب الجزائري) ، أو على مستوى المحاولات الاستعمارية في طمس الهوية وممارسة عملية التذويب، عن طريق الثقافة والسياسة والتربية والتعليم، وتشكيل الطابور الخامس الملحق بفرنسا والمروج لها، سياسة وثقافة وحضارة.. كما أنه لم ينس الأساليب السياسية والثقافية المستمرة في السيطرة على العالم الإسلامي، المتمثلة بسياسة: (اقطع الشجرة بأحد جذوعها) ، وذلك باحتواء واختراق بعض الفئات والتجمعات التي ترفع الشعارات الإسلامية، لتصبح ظهيرة للاستعمار بأنواعه المتعددة، ولتوهم بأن فرنسا ليست ضد الإسلام كدين، وإنما ضد بعض الأنشطة الإسلامية، ولعل هـذا أوضح ما يكون في تاريخ الجزائر، ابتداءا من التحضير للثورة وقيام القيادات الشعبية الإسلامية.. ولا نرى أنفسنا بحاجة إلى ذكر بعض الأسماء والعناوين، وإشاعة الفهوم المعوجة والتدين المغشوش، الذي مارسته بعض الجماعات الصوفية المنحرفة، صنيعة الاستعمار، لدرجة وصلت محاولاتها إلى التفكير في اغتيال زعماء الإصلاح والتغيير والتحرير.
[ ص: 22 ]
لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي والمجتمع في القرن التاسع عشر سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية، وعدد المريدين أو الإخوان 295.000 مريدا.. والفقهاء الذي عرفوا بمعارضتهم الصوفية، أصبحوا بدورهم (طرقيين) ، فساد الظلام، وخيم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر، بمفهومهم المتواكـل، وأصبحـوا إذا سئل أحدهـم عن حاله، أجاب: (نأكل القوت ونستنى الموت) .. وهذه الظاهرة الاجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر، وشل جميع الطاقات الاجتماعية الأخرى
>[1] ولقد لخص الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ذلك بقوله: أما ابن باديس، فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية، وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ويرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد قام بتلك الثورة الفكريـة على أحسن وجـه، وبدد ما كـان مخيما على الجزائر من تقاليد ثقيلة تتمثـل في تلك الطـرق الجامـدة المخـدرة للشعب
>[2] وقد يكون من المفيد أن نثبت رؤية الأستاذ الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله للواقع الذي بدأ العمل فيه الشيخ ابن باديس وجمعية العلماء، يقول واصفا الحال التي عليها الناس: (فهذا يرنوا إلى المذهب الكمالي... وذاك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر إلى مذهب المادة... ونرى من بين هـؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح تدلنا على منهاج آخر، يقوم على عقيدة صحيحة،
[ ص: 23 ] ورجـوع إلى السلف الصالح، وتغييـر ما بالنفـس من آثـار الانحطـاط) .
>[3] ويجعل حركة العلماء المسلمين أقرب الحركات والقيادات إلى النفوس ولكنها -حسب رأيه- ما لبثت أن انحرفت منهجيا عن أهدافها، وأعطت القيادة للانتهازيين السياسيين في سنة 1936م في المؤتمر الجزائري الإسلامي، فأخفق المؤتمر ودب الشقاق في صفوف الجمعية، كأن مركب النقص هـو الذي جعلهم يسلمون الزعامة لرجل اللغة الأجنبية، فسايروا قادة السياسة في تلك الفترة، ظنا منهم أنهم سيحمونهم ويدفعون عنهم شر الحكومة الفرنسية، باعتبار أن التغيير الاجتماعي الذي يبدأ في تغيير النفس هـو الأساس في المشكلة لا الذهاب إلى باريس، والتعلق بسراب ووعود الجبهة الشعبية، وهذا ما تأكد لهم فيما بعد، حيث عبر ابن باديس عن ذلك بوجوب الاعتماد على أنفسنا والاتكال على الله
>[4] ويوجه مالك من ناحية أخرى نقدا للحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي بشكل عام، التي وإن أخذت بفكرة الإصلاح الديني، الذي يعتبر نقطة انطلاق في كل تغيير اجتماعي، إلا أنها ابتدأت بمرحلة علم الكلام، وتخطت المرحلة الأخلاقية التي تؤدي إلى أول تغيير للقيم الاجتماعية، فهذا يعتبر مزلقة لا تؤدي إلى الوعي بقدر ما تؤدي إلى علم الجدليات، لكنه يستثني حركة الإصلاح في الجزائر، ويعود الفضل في ذلك إلى شخصية
الشيخ ابن باديس في بداية الأمر، حيث كانت الحركة تنطوي على جذوة روحيـة، لكـن ما لبثت أن أضحت تكـون متخصصين بارعين أكثـر مما تعمل على تكوين دعاة مخلصين
>[5] [ ص: 24 ]
وأعتقد أن مثل هـذه النظرات النقدية القويمة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا حول بعض جوانبها، تمثل ظاهرة صحة، وتشكل علامات مضيئة على الطريق، حتى لا نقع بالخطأ نفسه، فنستفيد من الخطأ لنتجنبه، كما نستفيد من الصواب فنتلمسه، خاصة وأن أخطاءنا تتكرر اليوم على الجغرافيا نفسها.
نعود إلى القول: بأن الشيخ ابن باديس رحمه الله وأجزل ثوابه، استطاع أن يدرك جوانب الإصابة والخلل في المجتمع الجزائري الواقع تحت الاحتلال، والأسباب التي ألحقت به هـذه الإصابات، وبدأ التفكير بمعالجة جذور الأزمة، أو السبب العميق الذي يكمن وراءها، ولم يقتصر في ذلك على معالجة الآثار، على الرغم من أهميتها، ولم يغب عنه ولا لحظة واحدة أن صلاح هـذه الأمة مرهون بالمنهج الذي صلح به أولها، واختبر ذلك في نفسه وما تحقق له من نقلة ثقافية فتحت بصيرته بسبب صلته بالقرآن وانضباطه بمنهجه، وأدرك أن البعث والإحياء إنما ينطلق من مجموعة مرتكزات وجهت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى:
( هـو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) .
فالبعث والإحياء للواقع الإسلامي الراكد، الذي يسوده التقليد والجمود على مستوى الداخل، ومحاولات التغريب والخروج عن منظومته المعرفية وأصوله الحضارية على مستوى الوافد، لا يكون ولن يكون إلا بالعودة إلى الرسالة (قيم الكتاب والسنة) ، ومعايرة الواقع بها، بحيث ينظر إلى الواقع من خلالها، وتستوحى الحلول لمعاناة الواقع ومشكلاته في هـديها، وأن ينطلق دعاة الإصلاح من داخل الأمة، بكل ظروفها ومعاناتها وميراثها الثقافي ومعادلتها الاجتماعية:
( رسولا منهم ) ، والتأكد من أن أية طروحات وافدة من خارج الأمة،
[ ص: 25 ] محكوم عليها بالفشل.. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى الأدلة على أن ينطلق الإصلاح من تلاوة القرآن وتدبر آياته:
( يتلو عليهم آياته ) ..
وأن تؤسس مناهج التربية والتزكية وتحرير الضمائر وتطهير النفوس
( ويزكيهم ) ،
على قيم الكتاب والسنة .. وأن تتمحور مناهج بناء المرجعية في أنظمة التعليم على قيم الكتاب والسنة:
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ،
فيصبح الكتاب والسنة، مصدري المعرفة والتربية والثقافة والأخلاق، كما هـما مصدرا التشريع.
فلقد كرس الشيخ ربع قرن من حياته للقرآن، بعد أن حفظه، فالقرآن صاغ نفسه وهز كيانه، واستولى على قلبه، فاستوحاه في رسم منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره، يستلهمه ويسترشده ويتأمل فيه، فيعب منه، ويستمد علاج أمراض القلوب وأدواء النفوس، ويذيب نفسه ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية، منبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري، وكان هـمه أن يكون رجالا قرآنيين يوجهون التاريخ، ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل، قال: فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم)
>[6] وقد وصف معاناته من نظام تعليم القرآن السائد بقوله: (وذلك أني كنت متبرما بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكان على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله وكتاب الله، فذاكرت يوما الشيخ محمد النخلي (أستاذه المدرس بجامع الزيتونة) ،
[ ص: 26 ] فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح، فوالله لفد فتح بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقا واسعة لا عهد له بها)
>[7] ولم يقتصر الشيخ ابن باديس رحمه الله على نقد مناهج التعليم والتربية في المدارس التي أنشأتها فرنسا، القائمة على إلغاء الهوية العربية الإسلامية وتذويب الشعب الجزائري، والعمل على تقديم البدائل من المدارس والمعاهد الخاصة، وكتاتيب تحفيظ القرآن، وإنما عانى من واقع المدارس والمعاهد ومؤسسات التعليم الشرعي القائمة، التي أصيبت بالعجز والعقم، وتحولت من إدراك المقاصد وتحقيق الأهداف، إلى استنزاف الطاقة في علوم الآلة (الوسائل) ، دون استخدامها، فأضاعت بذلك الأجر والعمر، وانعزلت عن ضمير الأمة، وبعث نهضتها، وسمحت بامتداد الآخر من خلال مناهج التعليم الاستعماري المتطورة، وكان يلمس ذلك في نفسه أثناء دراسته في جامع الزيتونة، لذلك تعرض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة، وبين أنها ليست وسيلة تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكون ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سني الدراسة.
ويذكر ابن باديس، أن الطالب كان يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلا، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد، التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف
[ ص: 27 ] عن حقيقة التفسير شيئا، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يدرس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام، وهذا يعتبره الشيخ ابن باديس هـجر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن
>[8] وكان يرى أن هـذا يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي، الذي يتمثل في إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أنزل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالا حيا دافعا للعمل.
لقد كان منهج الشيخ ابن باديس رحمه الله للبعث والإحياء والتغيير والإصلاح، ينطلق -كما أسلفنا- من القرآن الكريم، وبيانه النبوي،
مستلهما قوله تعالى:
( هـو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ) (الجمعة:2) .
وقوله تعالى:
( رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128) ،
فتوجه صوب التربية والتعليم لرفع المعاناة وتحرير الضمير، وإعادة بناء الرسالة القرآنية في نفوس الشعب، وإشاعة اللغة العربية في لسانه وحياته الثقافية، وإحداث التفاعل مع القرآن من جديد، بحيث تزال الحواجز اللفظية الجدلية والنفسية بين القرآن والإنسان، فكانت حلقاته ودروسه القرآنية والحديثية، في المساجد (مجالس التذكير) .
فأحيا بهذه المجالس معاني القرآن، وبين أهمية المجاهدة به في إحياء النفوس بعد مواتها، واسترد رسالة المسجد في التعليم الجماهيري العام، أو الثقافة الجماهيرية -إن صح التعبير- واعتبر تعليم الجماهير في المسجد هـو صنو الصلاة،
[ ص: 28 ] من حيث أثره وانعكاساته على الواقع الاجتماعي والتربوي، ذلك أن الثقافة الجماهيرية والتشكيل الثقافي، يبقى محلها المسجد، إلى جانب التعليم المنهجي الذي مكانه المعاهد والمدارس والجامعات، حيث يتأكد دور المسجد في التعليم والتربية والتثقيف أكثر فأكثر، في ظروف الاستعمار وعهود ما بعد الاستعمار، وما يرافقها من محاولات الارتهان الثقافي والتربوي.
ولم يقتصر على دور المسجد في عملية التعليم والتثقيف الجماهيري، وإنما أدرك أن هـناك شرائح من المجتمع لا بد أن تخاطب بوسائل إعلامية أخرى، فدخل ميدان الصحافة، و (أنشأ صحافة عربية كانت منبرا رحبا، يعلن في عزم وثقة أن الحركة الإصلاحية الجزائرية، حركة شعبية أصيلة، تعمل لإحياء التراث الثقافي للأمة، وتنقيته من الشوائب التي علقت به، وتنشر الوعي الديني والاجتماعي والوطني، وهكذا أصدر جريدة (المنتقد) عام 1925م، ثم صحيفة (الشهاب الأسبوعي) ، التي حولها إلى مجلة الشهاب الشهرية، منذ فبراير 1939م، ومجلات أخرى منها (الشريعة) ، و (السنة) ، و (الصراط) ، و (البصائر) .. وقد قامت هـذه الصحافة بعمل إيجابي ضخم في مجال اليقظة الفكرية والوعي الوطني، والإصلاح الديني، وإحياء اللغة العربية، محبطا بذلك كله مخططات الاستعمار الرامية إلى تشويه الشخصية الجزائرية في كل ميدان)
>[9] وعلى الرغم من عناية
ابن باديس رحمه الله بالثقافة الجماهيرية، وإدراكه لأهميتها، إلا أنه ركز أيضا على بناء النخبة التي تمثل عقل الأمة ومرجعيتها وقيادتها، لذلك عمد إلى فتح المدارس والمعاهد، واهتم بوضع المناهج والأنظمة التربوية والتعليمية.
[ ص: 29 ]
ولقد تنبه الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى إلى خطورة دور المرأة في النهوض والتحرير، وأهميتها في التربية والبناء الثقافي، وأهمية تعليمها، حتى تقوم برسالتها كما شرع الله، وتحسن القيام بوظيفتها في المجتمع، حيث لا بد من الاعتراف أن المرأة كانت أحد معابر الغزو الثقافي أو أحد الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، في أكثر من بلد إسلامي، وحتى عند بعض حركات الوعي واليقظة الإسلامية، لأنها حكمت بالتقاليد الجاهلية، بعيدا عن التعاليم الإسلامية، وحرمت مما أعطاها الله من حقوق وواجبات، فكانت مجالا مفتوحا لامتداد شياطين الإنس والجن.. حرمت من التعليم باسم حمياتها من الفساد، وكأن الجهل خير من العلم، وكأن التعليم نقيض التدين، والعلم ضد الإيمان، لذلك اختلت المعادلة الاجتماعية، واهتزت الوظيفة التربوية، وسبق الآخرون بإرسال الإناث إلى المدارس، ومن ثم جئن معلمات ومرشدات لبنات المسلمين، لإفساد دينهن وعقلهن، ومحاولة إقناعهن أن تعلمهن إنما هـو بسبب الابتعاد عن الدين، لإغراء بنات المسلمين بالانسلاخ عن دينهن، وحصلت خسائر كبيرة قبل إدراك المسلمين الذي جاء متأخرا بأهمية تعليم المرأة.
لذلك أدرك الشيخ ابن باديس رحمه الله ببصيرة نافذة، منطلقا من الكتاب والسنة، ما للمرأة من دور ووظيفة، فأوجب تعليمها، وإنقاذها مما هـي فيه من الجهالة العمياء، ونصح بتكوينها تكوينا يقوم على أساس العفة وحسن تدبير المنزل والشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، كما أنه حمل مسئولية جهل المرأة أولياءها والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلموا الأمة رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثما كبيرا، إذا فرطوا في هـذا الواجب واستدل
[ ص: 30 ] إلى جانب الآيات والأحاديث، بما استفاض في تاريخ الأمة المسلمة من وجود العالمات والكاتبات الكثيرات.
ولعل القضية الأهم التي تمحور حولها نشاط ابن باديس التعليمي والإعلامي، واعتبرها من قسمات الشخصية الجزائرية، ومرتكزات الهوية الوطنية، وحصن الثقافة الذاتية، ومقومات إعادة بناء الأمة، وسبيل إدراكها لعقيدتها وشريعتها ودينها، هـي اللغة العربية، لأنها من الدين، ولغة الدين، على الرغم من أنه كان ينحدر من أصول بربرية، وأنه كان يحسن قراءة الفرنسية وفهمها، إلا أنه كان يترفع عن الكلام بها لغير ضرورة.
واللغة عنده ليست وسيلة تعبير وأداة تفاهم فقط، كما يحلو لبعضهم أن يشيع، لتمرير وتسويغ التعليم والمحادثة بغير العربية، وبذلك تصبح اللغة إحدى معابر الغزو الفكري، وبدل أن نترجم تراثنا وعقيدتنا إلى لغة الآخرين، نترجم تراث الآخرين إلى لغتنا، ونقبل بالموقع الأدنى.
فاللغة -إضافة لما أسلفنا- هـي أداة تعبير وتفاهم، ووعاء تفكير، وسبيل تغيير وبناء ثقافي، حيث لا ينكر دور وطبيعة الألفاظ والمفردات في التأثير والتحريك والتغيير، سواء في مجال الوجدان والمشاعر، أو في مجال التفكير وتخصيب الخيال أو تجمده ومحاصرته.. فعجمة اللسـان تدعـو إلى عجمـة العقل والقلب.
ولا نريد هـنا الإطالة حول هـذه النقطة، ولا نحب أن يفهم منها أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية والإفادة منها بالقدر المطلوب، والسن المناسب لذلك، وموقع ذلك ومرحلته العمرية من بناء المرجعية اللغوية والفكرية، وحسبنا أن نقول:
[ ص: 31 ] لقد اتضح من أبحاث علم النفس المعرفي أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب الخارجي فقط، بل هـي النظام الأساس الذي يستخدمه الإنسان في التفكير أو الكلام النفسي.
وقد يكون من الأمور اللافتة للنظر حقا والدالة على أهمية اللغة -في صياغة التفكير، والمساهمة في التشكيل الثقافي، والارتباط بالجذور، وتحقيق النقل الثقافي، وأهم من هـذا وذلك كونها لغة التنزيل، ومفتاح فهمه، وإدراك مقاصده، والصلة بين الأمة وأجيالها- الهجمة الاستعمارية المتركزة على عزل اللغة وتهميشها، وإشاعة اللهجات العامية والمحلية، وتقطيع أوصال الأمة، وبعث اللغات العرقية، ليس كوسيلة تفاهم محلي، وإنما كبديل حضاري وثقافي، ومعبر من معابر الغزو الفكري، الذي يؤدي إلى التفتيت والتبعثر وتمزيق النسيج المعرفي.. ومن هـنا ندرك دور العربية في الاحتفاظ بهوية الجزائر وعروبتها وإسلامها، وندرك إصرار الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد الإصلاح والتجديد، على إشاعة العربية والتكلم بها، وجعلها لغة التعليم والتعلم، والارتكاز حول حفظ وتلاوة القرآن، حفاظا على وحدة الأمة، ولغتها، وعاء تفكيرها، ومصنع أحاسيسها ومشاعرها، ومخزن تراثها، مع أنه بربري الأصل وعلى معرفة بالفرنسية.
ولا يفوتنا أن نبين هـنا، أن مصطلح العروبة في بلاد المغرب العربي الإسلامي، يرادف في مدلوله الإسلام تماما، ولا يعني فلسفة بديلة عنه، أو توجها مقابلا له، كما هـو الحال عند ملاحدة المشرق من العرب، وبعض الأقليات الدينية المتعصبة الحاقدة على حضارة الإسلام.. لذلك لا بد من إدراك هـذه الحقيقة بوضوح، حتى لا تختلط الأوراق.
[ ص: 32 ]
ومن القضايا القديمة الجديدة، الجديرة بالتوقف والمزيد من التأمل، والتي أدرك الاستعمار ورصيده الباقي في عالم المسلمين، دورها وأثرها في البناء الثقافي والحفاظ على هـوية الأمة وتقديم المدد لمؤسسات التعليم الوطني والإسلامي، وتحقيق التكافل الاجتماعي: المؤسسات الوقفية في الجزائر، التي كانت وراء التعليم الخاص الخارج عن السيطرة الاستعمارية، والتي حاولت أن تبني النخب والخمائر الاجتماعية للمستقبل.. لذلك عمد الاستعمار إلى الإشراف عليها، لشل حركتها وتعطيلها -تجفيفا للمنابع- كما هـو الحال اليوم في الكثير من مجتمعات ما بعد الاستعمار، ومجتمعات الارتهان السياسي والثقافي، فحاول الجزائريون تأمين بدائل مالية، لتأمين استمرار التعليم الخاص الخارج عن ربقة الاستعمـار والارتهـان الثقافي، مـن خـلال التجـار والـزراع والمواطنين من كـل المستويات، مما مكن من الاستمـرار في بناء جيـل التحريـر وجيش التحـرير وتضحيات التحرير.
ولنـا أن نقـول: إن من أبـرز القضايـا وأجـرأها، التي طرحهـا الشيـخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، إلى جانب جهوده التربوية والتعليمية والدعوية، وحماية الشخصية الجزائرية من الذوبان، تحريم التجنس بجنسية المحتل، الذي كان يحاول الإتيان على كل ما هـو عربي مسلم، على مستوى الأرض والإنسان معا.. وقد يكون من المفيد أن نثبت نص الفتوى بتحريم التجنس قبل إلقاء بعض الأضواء عليها.
يقول ابن باديس: (التجنس بجنسية غير إسلامية، يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكما واحدا من أحكام الإسلام عد مرتدا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع) .
[ ص: 33 ]
ولا أريد ابتداء أن أشير إلى دور هـذه الفتوى، وكيف أنها كانت في حينها أمضى من أسلحة جيش كامل العتاد، وما كان لها من الأثر البالغ في حماية الذات والهوية، والاعتزاز بالثقافة العربية والإسلامية وربط الشعب بالقيم الإسلامية في الجزائر، في مرحلة المواجهة والتذويب.. كما أني لست بسبيل المقارنة بين هـذه الفتوى وموقعها من النفس، ودورها في الصمود والمواجهة، وبين مئات الفتاوى التي أصبح ديدن أصحابها العبث والتلاعب بالأحكام الشرعية، وتفصيلها حسب الطلب، بل لقد وصل التهافت مع الأسف إلى درجة السؤال عن المطلوب قبل الفتوى، حتى تتم (فبركة) الفتوى من أجله، فهي تحل اليوم ما حرمته البارحة، وتحرم غدا ما أحلته اليوم.. وبعض السياسيين، لا مانع عندهم من توظيف الدين لخدمتهم، في الوقت الذي يحاولون فيه فصل قيم الدين عن حكم الحياة.. ونحمد الله سبحانه وتعالى أن أصبحت الأمة على إدراك كامل لطبيعة مثل هـذه الفتاوى، التي تلهث وراء السياسة، وتصنع لها المسوغات، والتي لا تتجاوز إقناع حتى أصحابها.. كما نحمد الله أنه لا يوجد في الإسلام كهانات تتحدث باسم الله إلى الناس، مهما كانت مواقعها ووظائفها.
وأعتقد أنه لا بد أن نتوقف قليلا عند هـذه الفتوى، التي شكلت عمقا ثقافيا لا يجوز تجاوزه في ضمير الأمة، وبعدا تاريخيا وسياسيا لا يمكن طمسه وإغفاله، ذلك أن لهذه الفتوى ظروفها المحيطة، ومرحلتها الدقيقة، وأسبابها ومسوغاتها، وقد شكلت إحدى الأسلحة الماضية في المعركة، والفتوى كما يقال على حسب حال المستفتي، فقد جاءت بوقتها محكومة بمجموعة شرائط،
[ ص: 34 ] وبالتالي لا يمكـن النظـر إليهـا مـن خـارج ظروفهـا، أو وضعهـا خـارج إطارهـا، وإغفال مقاصدها.
كما لا يمكن تعميمها على كل الحالات والظروف المختلفة اليوم، وقد انتهى حال الكثير من بلدان العالم الإسلامي إلى ما نعلم جميعا، فهناك الكثير من الأقليات المسلمة في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وسائر بلاد العالم، سواء كانت مهاجرة أو اعتنقت الإسلام هـناك، تحمل جنسيات البلاد التي تقيم فيها، وتؤمن لها هـذه الجنسيات الكثير من الحقوق، وتمنحها الكثير من حرية الحركة والممارسة، وفي مقدمتها حرية العقيدة والعبادة واختيار الانتماء الثقافي، كما تمكنها من الاندماج -وليس الذوبان- في تلك المجتمعات، الأمر الذي يتيح لها نشر عقيدتها، والإغراء بها، وإثارة الاقتداء.
والحقيقة أن هـذه الحالات وهذا الواقع الديمغرافي الجديد، يحتاج إلى فقه دقيق، وفهم عميق، يحيط بالقضايا من جميع جوانبها، ويحسن تقدير المصلحة الإسلامية المؤقتة والدائمة، في ضوء ظروف تلك الأقليات وظروف العالم الإسلامي، وهذا لا يعني الدعوة إلى التنازل عن الهوية، فجنسية المسلم عقيدته، وليست الأرض التي يعيش عليها، وإن كانت الأرض كلها لله. لذلك فالمسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب، ولا عقدة الأوراق التي يحملها، لأنها تشكل في النهاية جوازات مرور، وتحقيق مصالح، وتأمين حقوق، وأوضاع شرعية، قد تكون مفقودة في بعض بلدان العالم الإسلامي.
ونستطيع أن نقول اليوم: إن الجغرافيا السياسية بدأت تتراجع إلى حد ما،
[ ص: 35 ] أمام الجغرافيا الثقافية، والحدود السياسية بدأت تذوب أمام الضخ الإعلامي والثقافي، والأمور تقدر بقدرها.. وسيبقى فقه هـذه الأقليات الإسلامية مطلبا ملحا، بحيث يشكل حماية للمسلمين، بقدر ما يشكل دليل تعامل مع المجتمعات التي يعيشون فيها.
أما إذا تعارض التجنس مع الدين، وكان من شروطه التنازل عن العقيدة والعبادة، والتنكر لقيم الإسلام والإنكار لها، فهذا له شأن آخر وفتوى أخرى، قد تحكمها الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، بلا بغي ولا عدوان.
والمطلوب أن نأخذ حذرنا، ونستشرف مستقبلنا، ونطرح السؤال الدائم: إلى أي مدى يمكن أن يؤدي منح هـذه الجنسيات إلى التذويب المستقبلي للأجيال، أو يحقق ويسهل بعض الحقوق والمواقع الإيجابية لنشر الإسلام، والإغراء باعتناقه، وإثارة الاقتداء بأهله، بحيث لا تبقى الأقليات المسلمة جسما غريبا ا وأعتقد أن مثل هـذه القضية، لا يمكن أن تحكمها فتوى عامة، وإنما لكل حالة حكمها، ولكل واقع ظروفه.. والخشية كل الخشية أن تتحول هـذه الجنسيات إلى معابر غزو إلى مجتمعات الإسلام والمسلمين لإلحاق الضرر بأهلها، واستلابهم ثقافيا. والقضية أولا وأخيرا مرتبطة بالمسلم نفسه، ومدى إدراكه لرسالته ومجتمعه، وكونه في مستوى إسلامه وعصره معا، وبذلك يصبح قادرا وفاعلا في كل الظروف، وليس كلا على نفسه ومجتمعه وأمته وانتمائه.. ويتأكد دور المسلم وفاعليته أكثر فأكثر في مرحلة تحول العالم من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الثقافية -كما أسلفنا- والتوجه نحو العولمة
[ ص: 36 ] وصراع الثقافات أو حوار الثقافات، وما يمكن أن يكون من دور للأقليات المسلمة كمواقع متقدمة في الثقافات والحضارات الأخرى، تحمل لها الخير، وتلحق بها الرحمة، وتقنع أهلها أن الإسلام أصلا ليس دينا عرقيا أو طائفيا، وإنما هـو دين الإنسانية جمعاء.
وبعـد :
فلا شك أن دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، تمنحنا الحس النقدي، وتمكنا من تحديد أسباب القصور ومواطن التقصير، وإعادة تقويم الواقع بقيم الكتاب والسنة، كما تمنحنا القلق السوي الذي يعتبر بمثابة المحرض الحضاري، والحس بالتناقض بين الواقع القائم والمثال الغائب، كما تحقق لنا -في إطار كيفيات التعامل والنهوض- الاطلاع على التجارب السابقة التي خضعت للاختبار التاريخي، فنضيف عقولا إلى عقلنا، وتجارب إلى تجاربنا، وتبصرنا بمدى سلامة وسائلنا وجدواها، وتحقق لنا العبرة والعظة، وتمنحنا الوقاية، حتى لا نلدغ من جحر مرتين.
ولا تعني دراستنا لدعوات الإصلاح والتجديد والتغيير، حصر أنفسنا في إطار الزمان والمكان والمشكلات التي كانت مطروحة في ذلك الزمان، والتي تتغير وتتبدل، وإنما تعني التعرف على المنهج وطريقة التعامل وردود الأفعال، واكتناز الخبرات التي صقلها التاريخ.
ولا بد أن ندرك أن صوابية وسائل بعض دعوات الإصلاح، وصلاحها لعصر ماض، لا يعني بالضرورة صوابيتها وصلاحها لكل عصر،
[ ص: 37 ] فلكل زمان مشكلاته وقضاياه ومتغيراته، التي لا بد أن تستدعي تغيير الوسائل كلها، التي لم تعد تنفع لمواجهة المتغيرات، بما في ذلك الأشكال التنظيمية والإدارية نفسها، إذا اقتضى الأمر ذلك، والتي جاء تكوينها طبقا لرؤية ظرفية معينة.
وهذا الكتاب: يقدم ملامح رئيسة ومحطات بارزة عن منهجية وتجربة في الإصلاح، تعتبر من أغنى تجارب دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير في العصر الحديث، كان لها الدور الأهم في الاحتفاظ بعروبة الجزائر وإسلامها، أو بعبارة أدق: بهويتها، وبناء جيل التحرير وجيش التحرير.. تلك التجربة التي شكلت عمقا تاريخيا في الضمير الجزائري والإسلامي، وتركت بصماتها التي لاتزال مستمرة على الشخصية الجزائرية، والتي تشكل رؤية لا بد منها، لفهم الكثير من الخلفيات والتداعيات التي تمر بها حركات الإصلاح والتجديد في مغرب العالم الإسلامي ومشرقه على السواء.
وتبقى تجارب الإصلاح والتجديد تجارب بشرية غير معصومة، يجري عليها الخطأ والصواب، تحقق لنا العظة والعبرة، وتمنحنا الوقاية، وتبصرنا بمحاولات تنزيل القيم الإسلامية على الواقع المعيش، بكل ظروفه ومشكلاته.. لكن لا بد من التنبه إلى أن فترة السيرة المسددة بالوحي، تبقى هـي النموذج والمعيار ودليل الاهتداء لكل السائرين على الطريق، في كل زمان ومكان.
والحمد لله من قبل ومن بعد.
[ ص: 38 ]