مقدمـة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بعثه الله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، هـاديا إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعـد:
فإن الدارس للتاريخ الإسلامي، والمطلع على أسراره، يدرك بوضوح العـداوة المستمـرة لهذا الـدين، يقـول تعـالـى:
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة:217) . فالصراع معهم مستمر، وقديم قدم هـذا الدين.
فمنذ أن أشرقت أنوار الحق في ربوع الجزيرة العربية، انطلق هـذا المسلسل في حلقات مازالت تلاحقنا إلى اليوم، ورغم سماحة الإسلام وحسن معاملته لأهل الذمة، إلا أن هـولاء ما فتئوا يتربصون به الدوائر.
فقد غدر اليهود بالمسلمين في المدينة المنورة
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:21) .
وازداد هـذا الصراع ضراوة حين بدأ الإسلام يتجاوز حدود الجزيرة العربية،
[ ص: 39 ] فحاول
الفرس والروم ضربه وإيقاف مده، فتحطمت قوتهم على صخرة الحق المبين، ولم يهدأ أعداء الإسلام من الكيد له، وكلما أرادوا به شرا قيض الله لهم من عباده الصالحين من يشرد بهم، لتبقى كلمة الله هـي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وما الحـروب الصليبيـة المتعاقبـة، إلا لون من ذلك الصراع المتواصل بين الحق والباطل.
وفي كل مرة يبعث الله من يجدد أمر هـذا الدين، الذي قضى بخلوده. وما حدث للشعب الجزائري -الذي ابتلي بأعتى استعمار- دليل على ذلك.
والمتتبع لتاريخ الجزائر القريب، تظهر أمامه بجلاء مكانة الدين في نفوس أهلها، وقد عضوا عليه بالنواجذ، كما تظهر كذلك في مخططات الاستعمار الفرنسي، الذي عقد العزم على إنهاء مهمة الإسلام في تلك الربوع.
وقد أدى إصرار الصليبيين الفرنسيين على إزالة الإسلام من أمامهم، إلى إصرار المسلمين الجزائريين على دينهم وعقيدتهم.. وتظهر روح الحقد الدفين على الإسلام، في الكلمات التي قالها سكرتيـر الجنرال بيجو Bugeaud
>[1] حاكم الجزائر: (إن أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هـذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك بأي حال من الأحوال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد)
>[2] .
[ ص: 40 ]
وقد انتهجت فرنسا تجاه الجزائر سياسة لو تحققت لربما كان تاريخ الجزائر قد كتب على نحو آخر.
فقد تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية للمجتمع الجزائري، فحلت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية، وحوصر الدين في أضيق نطاق، وما بقي منه عبث به أصحاب الطرق الصوفية المنحرفة، الذين خدروا الشعب بنشر الخرافات والبدع بما لهم من سلطان على الأرواح والأبدان.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يقيض لهذا الشعب من يجدد له أمر دينه، ويعود به إلى المنابع الأصيلة لهذا الدين الحنيف، فظهر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس، رائدا للحركة الإسلامية الحديثة في الجزائر، فكان نعمة من الله بها على هـذا الشعب المسلم في عسره وشدائده، وشعلة من نور أضاءت طريقه خلال حوالك الظلمات. فانطلق رحمه الله، معتمدا على الله، مستنيرا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم جيلا كادت تغمره ظلمات الجاهلية، ويربي أمة أراد الاستعمار أن ينصرها، فأبت إلا أن تكون إسلامية، ويكافح أمية ألقت على الشعب أوحالا من التبعية، ويعالج أمراضا اجتماعية يغذيها استعمار طال ليله.
من هـنا ندرك ثقل الأمانة التي تصدى ابن باديس لحملها، والغاية التي ضحى من أجلها، فكان رحمه الله قدوة لأهل العلم، ونارا على المستعمر وأتباعه، وخزيا لأهل البدع والأهواء.
ويعتبر الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس علما من أعلام الإسلام وأحد كبار المصلحين في القرن العشرين، وآثاره مازالت زادا علميا وثقافة لطلاب العلم والمعرفة.
[ ص: 41 ]
وإن إبراز جهوده في المحافظة على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، ومنهجه في تربية تلك الأجيال التي صارعت المستعمر، مسؤولية كبرى تقع على عاتق الباحثين من أجل التعريف بهذا العالم الجليل.
وهذه الدراسة تهدف إلى إبراز الجهود، واستخلاص الآراء التربوية للإمام ابن باديس، من خلال ما جمع من آثاره، كما تهدف أيضا إلى إبراز محاسن آرائنا التربوية، وإظهار أصالتنا الإسلامية في هـذا المجال.
ولا شك أن للإمام عبد الحميد بن باديس جهودا فكرية في مجالات شتى، لكننا نقتصر في بحثنا هـذا على جهوده في مجال التربية والتعليم، راجين من المولى العلي القدير أن يوفق ويعين.
هذا وقد حاولت طيلة البحث التزام الدقة فيما أوردته، والموضوعية فيما ذهبت إليه، مدعما ذلك كله بالأمثلة والشواهد من آثار ابن باديس.
وقد اعتمدت في استخراج الآراء التربوية على مصادر رئيسة، منها:
1- آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (الجزأين الأول والثاني) .
2- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، وأرمز إليه بـ: (مجالس التذكير - التفسير) .
3- مجالس التذكير من حديث البشير النذير، وأرمز إليه بـ (مجالس التذكير - الحديث) .
وذلك لأنها تمثل المنهج الحقيقي لابن باديس، ولاحتوائها على أهم عناصر البحث.
[ ص: 42 ]