الفصل الثالث: ابن باديس والعمل الجماعي
المبحث الأول : العمل الجماعي في نظر ابن باديس
إن ما وصلت إليه أوضاع الأمة الجزائرية من تدهور وتردي في ظل الاستعمار الفرنسي الغاشم، لم يترك للإمام ابن باديس من خيار سوى الانطلاق في دعوته، ولو بصفة فردية.
فقد اتخذ من الجامع الأخضر معهدا لنشاطه العلمي والتعليمي والتربوي، معتقدا بأن العلم هـو وحده الإمام المتبع في الحياة، في الأقوال والأفعال والمعتقدات
>[1] ، ورغم الجهود الفردية المتواصلة التي كان يقوم بها ابن باديس في تلك الفترة، إلا أنه كان يؤمن بوجوب العمل الجماعي، وإنشاء حركة منظمة تتولى انتشال هـذه الأمة من وهدة الجهل والتنصير والفرنسة.
وقد انسابت أشعة الفجر الجديد من تلك اللقاءات المباركة، التي جمعته بالأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة، في موسم الحج سنة 1913م، حين وضعا البذور الأولى للنهضة، التي ما لبثت أن
[ ص: 87 ] أيقظت الأصوات بعد سكوتها.. وحركت الهمم بعد سكونها، يصف لنـا الشيـخ الإبراهيمـي تلك اللقـاءات المباركـة التي جمعتـه بالشيـخ ابن باديس، فيقول: (وكانت تلك الأسمار المتواصلة كلها، تدابير للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة، التي كانت كلها صورا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة.
وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية، هـي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز للوجود إلا في عام 1931م)
>[2] فتطابقت أفكار الرجلين على وجوب إنشاء حركة إصلاحية في الجزائر، فرسما لها منهاجا بحكمة ومهارة.
وعلى الرغم من الحصار الذي فرضه المستعمر على معاهد التعليم الإسلامي والكتاتيب القرآنية، إلا أن هـذه الروح الجديدة والنفثات الهادئة، جعلتها تستمر في أداء رسالتها ومواصلة عطائها.
يصف لنا الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، تلك اليقظة فيقول: (لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة مباركة)
>[3] [ ص: 88 ]
ولم تنقطع نداءات ابن باديس لجمع الطاقات وتوحيد الصفوف، وتكاتف الجهود، معتمدا في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين هـما الأساس لكل نهضة تتطلع لها الأمة، وفي هـذا يقول: (إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكر وتدبر، وتتشاور وتتآزر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكرة وعزيمة)
>[4] ورغم ما للأعمال الفردية من منافع ومزايا، إلا أنه لا ينهض بالأمم والشعوب من العمل إلا ما كان منه منظما، تتضافر فيه الجهود وتتآزر.
وبعد عشر سنوات من شروعه في التعليم وظهور نتائج ذلك في النشء العلمي الذي كونه، حاول ابن باديس أن يعلن الدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح.
ففي سنة 1924م، تدارس مع الأستاذ البشير الإبراهيمي فكرة تأسيس جمعية تكون نواة للعمل الجماعي، تحت اسم: (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة، وتوجه جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وتكون صلة تعارف بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء...)
>[5] ثم حدثت حوادث عطلت المشروع الذي كان لابد له من زمن أوسع، حتى يتخمر وتأنس إليه النفوس التي ألفت التفرقة..
[ ص: 89 ] بعدها انصرف ابن باديس إلى تأسيس الصحافة الإصلاحية، فكانت (المنتقد) ثم (الشهاب)
>[6] ، التي كان لها في سنتها الثانية والثالثة دعوة إلى مثل تلك الجمعية، وكان كتاب (الشهاب) إذ ذاك قد كتبوا في ذلك الموضوع، وكانت تلك الأفكار والأقوال تمهيدا للعمل
>[7] .
وتمهيدا لجمع شمل العلماء في الجزائر تحت لواء التنظيم المنشود، بادر ابن باديس إلى تأسيس: (جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة) .