الفصل الثاني المدينة والخبرة التراكمية
أدت التطورات التي صاحبت حركة الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى تأسيس عدد من المدن أو القواعد العسكرية، التي تحولت فيما بعد إلى مدن، وكان لتأسيس هـذه القواعد أثره في تطور عمارة المدن الإسلامية، وأول هـذه المدن هـي البصرة التي أسسها عقبة بن غزوان سنة (12هـ/633م) ، والكوفة التي أسسها
سعد ابن أبي وقاص سنة (17هـ/638م) ،
والفسطاط التي أسسها
عمرو بن العاص سنة (21هـ/642م) ،
والقيروان التي أسسها
عقبة بن نافع (45 هـ/665م) .
وكان لتأسيس هـذه المدن أثر هـام في تثبيت أركان الدولة الإسلامية الناشئة، ويمثل تأسيس كل مدينة نهاية مرحلة، وبداية مرحلة أخرى من حركة الفتوحات الإسلامية، فبتأسيس الفسطاط انتهت مرحلة فتح مصر وبدأت مرحلة فتح المغرب الأدنى ثم الأوسط، وبتأسيس القيروان بدأت مرحلة إتمام فتح المغرب الأوسط والأقصى، وانفصال ولاية المغرب عن
مصر .
[ ص: 59 ]
ويتشابه تخطيط هـذه المدن إلى حد كبير.. ونلمح في هـذا التشابه آثارا لخطط المدينة المنورة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يشير إلى مدى استفادة المسلمين من الخبرة المتراكمة في تطوير تخطيط مدنهم، والتي بلغت مرحلة متقدمة في تخطيط
مدينة الفسطاط .
* خطط الفسطاط
بدأ
عمرو بن العاص أولى خطواته لتخطيط المدينة، بتشييد مسجده الجامع، والذي سمي في بعض الأحيان بالجامع العتيق،
وبجامع عمرو بن العاص ، ورغم صغر حجم الجامع، البالغ مساحته (25x 15م) ، إلا أنه كان أساس التنظيم العمراني للمدينة.. ففي شرق الجامع شيد عمرو دار الإمارة، والتي عرفت بدار عمرو الكبرى، وإلى جوارها بنى
عبد الله بن عمرو دارا له، عرفت بدار عمرو الصغرى، وترك عمرو أمام داره فضاء أي ميدانا واسعا لموقف دواب الجند، من خيل وجمال وحمير
>[1] ، وأحاطت الأسواق بالمسجد.
ولما وجد عمرو بن العاص أن القبائل تتنافس على المواضع المحيطة بالمسجد، اختار أربعة من قواده يمثلون القبائل الكبرى للفصل بين المتنافسين، وتقسيم الخطط بينهم، حتى لا تنشب نزاعات..
[ ص: 60 ] وهؤلاء الأربعة الذين أسندت إليهم هـذه المهمة هـم:
معاوية بن حديج التجيبي ، وشريك بن سمي الغطيفي، وعمرو بن قحزم الخولاني، وحيويل بن ناشر المعافري، وباشر هـؤلاء الأربعة توزيع القبائل على الخطط
>[2] ، فأنزلوا الناس، وفصلوا بين القبائل.
وعند هـذا الحد ينتهي دور السلطات الإدارية بالمدينة، حيث يقف عند التخطيط العام والإشراف على المناطق الرئيسة، وقد تولت كل قبيلة بعد ذلك تقسيم خطتها بين أعضائها.
بلغ عدد القبائل التي اختطت بالفسطاط نحو ست عشرة ومائة خطة، ما بين قبائل وبطون، ما يلي:
- ثمان عشرة قبيلة وبطن من عدنان (عرب الشمال) .
- ست وثمانون قبيلة وبطن من قحطان (عرب الجنوب) .
- سبع قبائل من غير العرب.
- خمس قبائل خاصة.
[ ص: 61 ]
ومن الملاحظ على مواضع هـذه الخطط، أن القبائل العدنانية اختطت جميعها إلى شمال الفسطاط، ومعظم القبائل القحطانية اختطت إلى جنوب الفسطاط، مما يرجح بأن هـذه القبائل راعت في اختيار مواقعها بالفسطاط أن تكون متفقة مع موقع إقامتهم في بلادهم الأصلية بالجزيرة العربية
>[3] .
وأغلب الظن أن الخطط لم تكن متساوية في مساحتها، وأن كلا منها لم يكن حيا واسعا، بل قسمت الأرض حسب الظروف والحاجة، وعلى سبيل المثال: خطة عبد الرحمن بن ملجم التي أعطيت له بأمر من
الخليفة عمر بن الخطاب ، كانت دارا واحدة كبيرة، اتخذها ليعلم الناس فيها القرآن، في حين نجد خطة المعافرين تكاد تكون قد شغلت أغلب الجهة الشرقية من الفسطاط، بينما أخذت خطط الحمراوات ما يقرب من نصف مساحة الفسطاط جميعها أو أقل قليلا.
وعلى ما يبدو فإن هـندسة الخطة (أو شكلها) كانت أول الأمر بسيطة
>[4] ، حيث تقيم القبيلة منازل لأفرادها على حدود خطتها، وتترك ما يدور عليه فضاء، وقد أخذ هـذا الفضاء يضيق شيئا فشيئا.
[ ص: 62 ] ونتيجة الهجرات المتصلة التي كانت تتوافد على القبائل المتمركزة، تحولت الفضاءات إلى تجمعات من المباني تتخللها الدروب والأزقة.
وكانت كل خطة تحتوي على مرافقها الخاصة، بصورة مصغرة، وأول هـذه المرافق مساجد الخطط. والمعروف أن أول ما بني بالفسطاط هـو المسجد الجامع، وهو المسجد الرئيس الذي يجتمع فيه المسلمون جميعا، ويؤدون فيه فريضة الجمعة، ولكن كان إلى جانب هـذا المسجد مساجد أخرى صغيرة خاصة بالقبائل، وتقع في داخل خطط تلك القبائل. ذلك أن عمر بن الخطاب لما فتح البلدان كتب إلى ولاة البصرة والكوفة ومصر يأمر كلا منهم أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة
>[5] .. فكان لكل قبيلة مسجدها الخاص في خططها، وربما أكثر من مسجد، وقد احتفظت المصادر بذكر العديد من مساجد قبائل الفسطاط، ومنها مسجد لخم
>[6] ، ومسجد عنزة بن ربيعة
>[7] ، ومسجد مهرة
>[8] ، والمسجد الأبيض
>[9] ... الخ.
[ ص: 63 ]
وأصبحت هـذه المساجد تعرف فيما بعد باسم مساجد الصلوات الخمس، ومن المعروف أن مسلمة بن مخلد أصدر أوامره عام (53هـ/672م) ، إلى القبائل بأن تبني كل منها منارة لمسجدها
>[10] .
وقامت مساجد الخطط بدور كبير في حياة المدينة، لا سيما في العصور الإسلامية الأولى، فلم يكن المسجد مكان عبادة فحسب، وإنما كان مكان اجتماع ومدرسة علم، ومجلس حكم، ولذلك كان لكل قبيلة مجلس وربما مجلسان، مجلس في مسجد الخطة، وثان في المسجد الجامع. ومن هـنا يفهم أن المجلس كان مرفقا حيويا للخطة، ففيه كان أبناؤها يجتمعون، وعلماؤها يعلمون، وقضاتها يحكمون، وربما عن طريق هـذه المجالس كانت تبلغ التعليمات الرسمية وقرارات الوالي إلى القبائل
>[11] ، كما كان في كل خطة منسوبة إلى قبيلة، ديوان أو سجل بالمقيدين في الجند الرسمي من أهلها، وفي دار الإمارة كان يوجد السجل العام أو الديوان، وهو إدارة إحصائية صغيرة تقوم بتسجيل العرب المشتركين في الجيش.
وبالإضافة إلى مساجد القبائل الخاصة، كانت الخطط تحتوي على الأسواق الخاصة بها، وعلى المطاحن والأفران، بحيث تتوفر فيها
[ ص: 64 ] الخدمات الخاصة بالحياة اليومية لسكانها، واحتوت بعض الخطط كذلك على حمامات عامة
>[12] .
واتجه
عمرو بن العاص منذ البداية إلى استكمال مرافق وخدمات المدينة، فأسرع في تخصيص مكان لدفن موتى المسلمين، كما فطن إلى أهمية حفر القناة القديمة التي كانت تصل النيل بالبحر الأحمر، ولما كان هـذا الخليج قد طمس في كثير من أجزائه عند فتح المسلمين لمصر، فقد استأذن عمرو
الخليفة عمر في إعادة شقه، فسمح له، وسمي بخليج أمير المؤمنين، وجرت فيه السفن، ووصلت إلى الحجاز محملة بالغلال والعروض وأنواع الطعام
>[13] .
لم يفكر عمرو وصحبه في إحاطة عاصمتهم الجديدة بسور، ولم يتخذوا من حصن بابليون مركزا للدفاع كما كان الحال أيام
البيزنطيين ، إذ تحول الحصن بمرور الوقت إلى خطة من خطط الفسطاط، وقد اكتفى عمرو بن العاص باختيار موقع محصن تحصينا طبيعيا لتأسيس الفسطاط، إذ تحميه التلال من الشرق والجنوب، ويحميه مجرى مائي طبيعي هـو نهر النيل، الذي كان في الوقت نفسه يصل بين الشمال والجنوب، ولم يبق من
الفسطاط غير جانب واحد مفتوح،
[ ص: 65 ] هو الجانب الشمالي، ولم يهتم عمرو بتحصين هـذا الجانب، وربما كان السبب في ذلك أن عمرا لم يخش تعرضه للأخطار من هـذا الجانب، نظرا إلى أن الطريق إليه يمر بأقطار يحكمها العرب، كما أن هـذا الجانب كان المجال الطبيعي لامتداد المدينة ونموها فيما بعد.
وسمح عمرو بن العاص
لبني وهدان ومن والاهم أن يقيموا على الضفة الغربية من النيل، حيث بنى لهم حصنا في الجيزة يعتصمون به عند الخطر، وشرع في بناء الحصن سنة (21هـ/642م) ، وأتمه سنة (22هـ/643م) ، ومن المحتمل أن عمرا كان يهدف من وراء ذلك إلى زيادة تأمين الجانب الغربي من مدينة الفسطاط
>[14] .
وقد أشارت المصادر التاريخية إلى نوع من المنشآت في الفسطاط أطلقت عليه اسم " المحارس " ، ومنها محرس عمار، ومحرس بنانة، ومحرس الحريص، ومحرس النخل، ومحرس قسطنطين.. ويرجح أن هـذه المحارس كانت عبارة عن مبان بسيطة في وسط خطط القبائل أو على حدودها، ويعمل بها رجال يتولون حراسة خطة كل قبيلة، أو أنها كانت نقاط متفرقة في المدينة لغرض إقامة الجند،
[ ص: 66 ] ولكنها لم تكن حصونا أو قلاعا كبيرة.. وأرى أن هـذه المحارس تطورت وأصبحت بوابات على رأس كل خطة أو زقاق، عليها حارس طوال الليل، وهو ما شاع في العديد من المدن الإسلامية ومنها
القاهرة .
ويتبقى لنا من مرافق المدينة الإسلامية " بيت المال " -باعتباره من أهم مرافق الدولة- حيث تتجمع فيه أموال الزكاة والجزية والخراج ، وغيرها من الضرائب التي تفرضها الدولة لتمول بها مشروعاتها، وتسد بها نفقاتها المختلفة، كان هـذا " البيت " في معظم الأحيان يقام بجوار المسجد الجامع، وأحيانا أخرى ملاصقا له من ناحية جدار القبلة، حتى يكون في مأمن من الطامعين وأيدي العابثين.
تذكر النصوص التاريخية أنه عندما بلغ عمر بن الخطاب، أن بيت مال المسلمين في
الكوفة امتدت إليه أيدي بعض الناس ونقبوا على ما فيه، كتب إلى أميرها
سعد بن أبي وقاص يأمره أن يعيد بناءه قويا متينا، ويجلعه ملاصقا لمسجدها وقال: " اجعل الدار قبلته، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل، وفيها حصن لمالهم "
>[15] .
[ ص: 67 ]
وكانت هـيئة السوق في المدن الإسلامية المبكرة بسيطة، فكانت عبارة عن مساحة فضاء بجوار المسجد، يعرض فيها كل تاجر بضاعته وسلعه على الأرض، وفي المكان الذي يصل إليه قربا أو بعدا عن المسجد، لأنها منطقة خالية من المباني، فلم تكن الخلافة في هـذا الوقت المبكر تسمح بإقامة أية مبان في هـذه المساحة الفضاء، ولا أن يحتكر النزول في مكان محدد منها تاجر معين، ولكن المنطقة كلها مفتوحة أمام جميع التجار، كل حسب جهده وأسبقية وصوله إلى الموضع الذي يريد، تنفيذا لرغبة
عمر بن الخطاب الذي كان يرى أن " الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه "
>[16] .
وقد نشأ عن ذلك في فقه العمارة الإسلامية، باب عرف بحق الاختصاص، وهو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وتدخل تحت ذلك صور متعددة، منها: مرافق الأسواق المتسعة التي يجوز البيع والشراء فيها، كالدكاكين المباحة ونحوها، فالسابق إليها أحق بها ...
وفي مجموع الفتاوى: " ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة، بالقعود للبيع والشراء ...
[ ص: 68 ] فإن من سبق إليه فهو أحق به،
( لقوله صلى الله عليه وسلم : منى مناخ من سبق ) (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح) ، وله أن يظلل بما لا يضر المارة " .
وهذا الحق، حق الاختصاص، تبلور ليقنن وضع أرباب المقاعد في أسواق المدن الإسلامية
>[17] .
. ومما سبق نستطيع أن نستخلص العديد من النقاط التي أثرت في عمارة المدن الإسلامية في الفترات الزمنية التالية وهي:
1- أن تدخل السلطات في الشئون الإدارية للمدينة، يقف عند حد الخطة المركزية لها، والتي تشتمل على المسجد الجامع، ودار الإمارة، وبيت المال، والسوق، والشوارع الرئيسة.
2- أن تقسيم الأحياء من الداخل يتعلق بالقاطنين فيها، وفي ذلك يتحمل المجتمع داخل الحي إدارة نفسه بنفسه.
3- أصبح توفير المرافق بكل حي مسئولية القاطنين فيه، فإدارة المدينة بنت المسجد الجامع، والقاطنين في الخطة أو الحي بنوا مسجد خطتهم، وكان لهم مجلس يجتمع كبراؤهم فيه؛ للبت فيما يتعلق بشئون الحي.
وفي ذلك توزيع للمسئولية، مسئولية إدارة المدينة بصفة عامة،
[ ص: 69 ] فالإدارة العامة تقع على عاتق والي المدينة، وإدارة شئون الأحياء تقع على عاتق القاطنين فيها، ومثل هـذا النوع من توزيع المسئولية، يولد تفاعلا بين الناس وبيئتهم العمرانية، تفتقده المدن المعاصرة، ويعمق الإحساس بالمسئولية لدى كافة أفراد المجتمع وقد اشتق توزيع المسئوليات هـذا من
( قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. ) متفق عليه.
وتأثرت المدن القديمة التي فتحها المسلمون بهذا المنهج، وخاصة بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عند دخوله المدينة المنورة، وكيفية تعامله مع عمران المدينة، فترك ما لا يخالف الشرع على حاله، وبنى منشآت جديدة تتلاءم مع وظيفة المدينة كمدينة إسلامية، كما واءم المنشآت القديمة كي تستجيب لهذه الوظائف.
وتبلور من هـذا كله رؤية واضحة في الفكر العمراني الإسلامي لدى علماء السياسة الشرعية، فتحدثوا عن الضوابط الواجب مراعاتها عند اتخاذ المدن والحواضر وإنشائها وفقا لشروط دقيقة، فمثلا يرى
ابن خلدون أن من شروط اختيار مواقع المدن ما يأتي:
- أن تحاط بسور يدفع المضار.
- أن تحتل موضعا متمنعا من الأمكنة، على هـضبة أو على نهر، أو باستدارة بحر ... إلخ وهذا ما فعله
عمرو بن العاص حين اختار موضع الفسطاط.
[ ص: 70 ] - مراعاة اتخاذ الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء، للسلامة من الأمراض.
- جلب الماء، بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائه عيون عذبة.
- طيب المراعي لسائمتهم.
- مراعاة المزارع، فإن الزروع هـي الأقوات
>[18] .
ويفصل
ابن الأزرق ما تحدث عنه
ابن خلدون ، فيشير إلى أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن، أصلان مهمان: دفع المضار، وجلب المنافع.. ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية: " ودفعها بإدارة سياج الأسوار على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هـضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر كما رأينا في الفسطاط، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة، فيصعب منالها على العدو ويتضاعف تحصينها " .
والنوع الثاني من المضار سماوي، ودفعه باختيار المواضع الطيبة الهواء، لأن ما خبث منه بركود، أو تعفن بمجاورته لمياه فاسدة، أو مناقع متعفنة، أو مروج خبيثة، يسرع المرض للحي وان الكائن فيه لا محالة، كما هـو مشاهد بكثرة.
[ ص: 71 ]
ويكشف عن أن هـناك علاقة طردية بين كثرة ساكني البلد وحركة الهواء فيها، ويضرب لذلك مثلا
بقابس ، التي كانت عند استبحار العمران بإفريقية كثيرة السكان، فكان ذلك معينا على تموج الهواء وتخفيف الأذى عنه، فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض، وعندما خف ساكنوها ركد هـواؤها المتعفن، بفساد مياهها، فكثر العفن والمرض وبين ابن رضوان الطبيب أثر ركود هـواء الفسطاط على أهلها وطباعهم، التي اتسمت بالجبن وقلة الكرم
>[19] .
والأصل الثاني عند ابن الأزرق؛ وهو جلب المنافع، إنما يكون بمراعاة أمور منها:
- توفر الماء، كأن يكون البلد على نهر، أو بإزائه عيون عذبة، لأن وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه، وهي ضرورية.
- طيب المرعى للسائمة وقربه، إذ لا بد لذي قرار من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ومتى كان المرعى الضروري لهذا كذلك، كان أوفق من معاناة المشقة في بعده.
- قرب المزارع الطيبة، لأن الزرع هـو القوت، وكونها أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله، والشجر للحطب والخشب، فالحطب وقود للنيران، والخشب للمباني.
[ ص: 72 ]
- وقربه من البحر لتسهيل الحاجة القصية من البلاد النائية.. ولا خفاء في أن هـذه الأمور تتفاوت بحسب الحاجة، وما تدعو إليه ضرورة الساكن
>[20] .
وإذا كانت هـذه الشروط واجبة الاعتبار بالنسبة لاختيار مواقع المدن بصفة عامة، فقد أشار الفكر العمراني الإسلامي إلى اعتبارات خاصة تجب مراعاتها بالنسبة لاختيار مواقع المدن الساحلية، منها: " أن تكون في جبل، وبين أمة موفورة العدد، ومتى لم تكن كذلك، طرقها العدو البحري في أي وقت أراد، لأمنه إجابة الصريخ لها، وعدم غناء حضرها على الدعة في الدفاع " . ويضرب
ابن خلدون مثلا لذلك
بالإسكندرية في المشرق،
وطرابلس وبرقة وسلا في
المغرب ، ثم يشير إلى أن المدينة البحرية إذا كانت متوعرة المسالك وحولها القبائل بحيث يبلغهم الصريخ، تمنعت بذلك من العدو، ويئس من طروقها كما في سبتة وبجاية.. وفي ضوء هـذا الاعتبار يفسر لنا تسميته الإسكندرية " الثغر " ، في عهد الدولة العباسية،
[ ص: 73 ] وهي التسمية التي تطلق على البلاد التي على الحدود، رغم أن الدعوة كانت من ورائها
لبرقة وإفريقية ، اعتبارا للمخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها، الذي أغرى الأعداء بمهاجمتها هـي وطرابلس عدة مرات
>[21] .
لقد نضجت كتابات علماء السياسة الشرعية في مجال عمران المدن، وحددوا الأسس التي يجب أن يراعيها الحاكم عند إنشاء أية مدينة، ومن هـذه الأسس ما ذكره
ابن أبي الربيع في مؤلفه الشهير " سلوك المالك في تدبير الممالك " ، وهي:
أحدها: أن يسوق إليها الماء العذب للشرب، حتى يسهل تناوله من غير عسف.
الثاني: أن يقدر طرقها وشوارعها، حتى تتناسب ولا تضيق.
الثالث: أن يبني فيها جامعا للصلاة في وسطها، ليقرب على جميع أهلها.
الرابع: أن يقدر أسواقها بكفايتها، لينال سكانها حوائجهم من قرب.
الخامس: أن يميز قبائل ساكنيها، بأن لا يجمع أضدادا مختلفة متباينة.
[ ص: 74 ]
السادس: إن أراد سكناها فليسكن أفسح أطرافها، وأن يجعل خواصه كنفا له من سائر جهاته.
السابع: أن يحوطها بسور، خوف اغتيال الأعداء، لأنها بجملتها دار واحدة.
الثامن: أن ينقل إليها من أهل الصنائع بقدر الحاجة لسكانها
>[22] .
يتضح من كلام ابن أبي الربيع، المتوفى سنة 272هـ، مدى الفهم المقرون بالتحليل المنطقي في أسس إنشاء المدن، ففي سوق المياه للمدينة للشرب، لتسهيل مهمة الحصول عليه " دون عسف " ، دليل على وصول المخطط الحضري إلى مرحلة الحرية في اختيار الموقع المدني، متخطيا ما يسمى بالحتمية الطبيعية (Determinism ) ، التي تحتم على المخطط أن يبني مدنه بالقرب من وديان الأنهار، والمواقع ذات الثروات الطبيعية
>[23] .
فابن أبي الربيع يشترط على الحاكم لعمارة المدينة، التي قد يكون موقعها بعيدا عن مصادر المياه، أن يجلب الماء إليها، وهو ما حدث فعلا في العديد من المدن الإسلامية، فقد جلب المسلمون
[ ص: 75 ] الماء إلى
مدينة مدريد من تلال بها مياه جوفية، تبعد عن المدينة بما يتراوح بين سبعة واثني عشر كيلو مترات، وذلك في قنوات تجري بها المياه في انحدار متدرج، يسمح بجريان الماء إلى المدينة. ويتراوح الفرق بن سطح الأرض عند الآبار الأولى التي توجد فيها القنوات الجوفية، وسطحها في وسط المدينة، بين ثمانين ومائة متر.. لذا لم يكن من الغريب أن يطلق الأندلسيون على مدينتهم الجديدة لفظا مثل: (مجريط) ، وهو مركب من كلمة (مجرى) العربية، ومن تلك النهاية اللاتينية الدارجة ( ... يط) ، التي تدل على التكثير، فمعنى الكلمة إذن (المدينة التي تكثر فيها المجاري) ، والإشارة هـنا إلى المجاري أو القنوات المائية الجوفية، التي كانت تحمل الماء إلى سكان المدينة.
واستخدمت في
مراكش هـذه الفكرة على يد مهندس أندلسي يدعى
عبد الله بن يونس .
والواقع أن المتأمل في كتب الرحلات الجغرافية، يعجب كثيرا مما توصف به مراكش من التمدن والعمران، واتساع الزروع وكثرة الماء والشجر والثمر فيها، فهي مدينة لا تقع على نهر كبير، ولا تكاد السماء تمطر فيها إلا قليلا، ومع ذلك فقد كانت أشبه بواحة خضراء في وسط صحراء جرداء مقفرة.
[ ص: 76 ]
ولكن
الإدريسي استطاع أن يكشف لنا عن سر هـذه المدينة، التي مازالت تعد من أجمل مدن المغرب وأكثرها إشراقا ونضرة.. ويكمن السر في هـذا الماء، الذي عرف المهندس ابن يونس كيف يولده من باطن الأرض، ومازالت هـذه الشبكة الواسعة من القنوات الجوفية باقية في مدينة مراكش، ويبلغ عددها 350 قناة، يصل طول كل منها إلى نحو خمسة كيلو مترات، على أن الإهمال قد لحقها وبطل استعمال عدد منها
>[24] .
- أما الشوارع، فيرى ابن أبي الربيع، أن تقدر بصورة تناسب الاستخدام البشري، ووسائل النقل المتاحة آنذاك، والتي كانت إما دوابا، أو بواسطة الإنسان نفسه، ولذا فإن من درسوا المدن الإسلامية وعابوا عليها ضيق شوارعها، درسوها من منظور المتطلبات المعاصرة لحركة النقل، ولم يراعوا طبيعة العصور التي شيدت فيها هـذه المدن.. ثم إن العلاقة بين الشارع أو الحارة أو الزقاق والقاطنين فيه، علاقة ترابطية تراحمية، فالشارع في المدينة الإسلامية، مرتبط بالعقار ومالكيه، على عكس ما عليه الحال في المدن المعاصرة، حيث إن الشارع مسئولية السلطة المركزية , وبالتالى لا علاقة بين الشارع والقاطنين فيه ,
[ ص: 77 ] والقاطنين فيه، فالعلاقة هـنا تفكيكية، وليس ترابطية تراحمية، إذا لا رابط بين الوحدة السكنية والشارع، وبالتالي لا علاقة بين ساكني الشارع الواحد.
- أما اشتراط المركزية في مواقع المساجد، فهذا غاية في اختيار الموقع المناسب لمرفق يستخدمه الناس خمس مرات في اليوم..
فالمركزية تسهل الوصول إليه من جميع الأماكن المحيطة، بمسافات متقاربة نوعا ما.. ولعل اختيار قلب المدينة ليكون مسجدها، يعود كذلك إلى المكانة التي يحتلها الإيمان في قلب كل مسلم.. وأن المسجد الجامع كذلك يمثل العلاقة الترابطية بين كافة أنحاء المدينة المسلمة، فكما تحتل الكعبة مركز العالم الإسلامي، ويتوجه إليها المسلمون خمس مرات في اليوم لأداء الصلاة، فإن المسلمين يتوجهون إلى المسجد الجامع في قلب اليوم لأداء الصلاة، فإن المسلمين يتوجهون إلى المسجد الجامع في قلب المدينة لأداء الصلاة.. ولعل الفارق بين المسجد الجامع ومساجد الصلوات الخمس يعود إلى أن المسجد الرئيس هـو الجامع لشمل المدينة كل يوم جمعة، في خطبة أمير المدينة التي عادة ما تحمل مغزى سياسيا واجتماعيا.
- أما شرط تقدير الأسواق بكفايتها، فيدل على أمور كثيرة، منها: ألا تزيد عن حاجة السكان، فتنهار الأسعار، وتبور البضائع وألا تقل أيضا عن الحاجة فترتفع أسعارها.. كما أن في ذلك إشارة
[ ص: 78 ] لتحديد الحجم المناسب للأسواق، بصورة تناسب حجم السكان.
- أما شرط تمييز قبائل ساكنيها، وخطورة خلطة الأضداد في القطاع السكني في المدينة، فهذا غاية العبقرية في التخطيط الإسكاني، المبني على الفهم الدقيق للأجناس البشرية.. بمعنى آخر: هـو يحرص على إيجاد ما يسمى بالانسجام العرقي الحضري، ونبذ التضاد العرقي الحضرى، لأنه سيؤدي بالتالي إلى التكتل وتحويل المدينة إلى بقاع عرقية موزعة توزيعا غير منسجم.. وهذا الانسجام، وجد في خطط الفسطاط، عند توزيع الخطط بين القبائل العدنانية والقحطانية، كما وجد أيضا في
الكوفة والبصرة .. وفي الواقع أن الكثير من المخططين المعاصرين، لم يعيروا هـذه الظاهرة اهتماما كبيرا في خططهم المدينة، مما أدى بالتالي إلى عودة السكان مرة أخرى إلى الهجرات الداخلية وراء القرابة العرقية والعائلية، وبالتالي فشل الخطط الإسكانية.
- أما شرط إحاطة المدينة بسور فهذا من خصائص المدن قبل الثورة الصناعية، كيف كانت تؤدي وظيفتين رئيستين، الأولى: حفظ المجتمع الداخلي كأسرة واحدة، وهذا مصداق قول ابن أبي الربيع: " لأنها بجملتها دار واحدة " .. والوظيفة الأخرى: الحماية، وذلك نظرا لمحدودية السلاح آنذاك، وكثرة الحروب، وخاصة
[ ص: 79 ] في المدن المنشأة في البلاد التي تم فتحها قريبا، وكان يتوقع الهجوم عليها في أي وقت، كما في مدن الأندلس.
- ومن الشروط الهامة التي ذكرها ابن أبي الربيع، الشرط المتعلق بالصنائع، حيث اشترط أن ينقل إلى المدينة بقدر ما تحتاجه من هـذه الصنائع، ويفهم من هـذا، أن تناسب مع الحاجة إليها، وأيضا حتى لا تقل فتؤدي إلى البطالة
>[25] والخلاصة: أن ابن أبي الربيع في شروطه الموجبة لإنشاء المدن بين مقدار إحاطته بتركيب المدينة السكاني والتجاري والصناعي، ومن ثم صاغها في خطوط عامة، يمكن أن تنطبق على أكثر المدن - إن لم نقل جميعها - حتى في وقتنا الحاضر.
أما
الماوردي ، الذي جاء بعد
ابن أبي الربيع بحوالي قرن من الزمان، فقد انتقل إلى مرحلة جديدة في تاريخ التمدن والتخطيط الحضري. فقد صنف وظائف المدن، وميز بينها حسب كل وظيفة، فتكلم عن تركيبها الداخلي، وشروط اختيار مواقعها ومميزاتها، بصورة تتلائم مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية السائدة آنذاك
>[26] .
[ ص: 80 ]