* الحسبة على الأسواق
فصلت كتب الحسبة التي وصلت إلينا ما يجب أن تكون عليه الأسواق في المدن الإسلامية، وهو ما سوف نفصله في النقاط التالية:
التوزيع المكاني للأسواق
هناك اعتبارات عديدة تحكم توزيع الأسواق على مختلف مناطق المدينة الإسلامية، ابتداء من مركزها وحتى أطرافها، كما تحكم نوعية المنشآت التجارية التي يمكن أن توجد بجوار بعضها بعضا.. وأهم هـذه الاعتبارات ما يلي:
1 - حاجات السكان المتكررة والضرورية لبعض السلع تتطلب وجود أسواق معينة في جميع قطاعات المدينة دون استثناء، مع تركز لها في قلب المدينة، ولهذا نجد تركز حوانيت الخبازين، وأصحاب الحلوى، وأسواق العطارين، والصاغة، وأهل البز
>[1] ، والعطر، وأسواق الوراقين، في المنطقة المركزية من المدينة، وعلى امتداد شارعها الأعظم والشوارع الفرعية المجاورة لها.
2 - بعض الحرف تقتضي طبيعتها أن تكون أماكن وجودها خارج المدينة، أو على أطرافها، بالقرب من أبواب أسوار المدينة،
[ ص: 98 ] كالقصابين الذين ارتبط وجودهم بأطراف المدينة، لأن هـؤلاء لا بد لهم من المذبح الذي يوجد في الغالب خارج المدينة، فاستدعى ذلك وجود حوانيت القصابين على أطراف المدينة، لسهولة نقل اللحم من المذبح إلى هـذه الحوانيت، دون الحاجة إلى عبور المدينة باتجاه المركز.
وكذلك الحال في جلابي الحطب والتبن والحلفا، وأصحاب صناعة الفخار، وجميع هـؤلاء ترتبط تجارتهم بأطراف المدينة، ويمكن أن يقال نفس الشيء عن أسواق الحبوب والمواد الثقيلة الوزن والكبيرة الحجم، والتي يؤثر نقلها إلى داخل المدينة على حركة المرور فيها، ويعيق الحركة في شوارعها العامة.
ومن هـنا ارتبط التوزيع المكاني لأسواق المواد السابقة بأطراف المدينة والمناطق القريبة من أبواب الأسوار الخارجية فيها
>[2] .
وقد صنفت الحوانيت في الأسواق تصنيفا يمكن المحتسب من مراقبة السوق، ويسهل على المشتري الوصول إلى حاجته، ويدفع إلى التنافس
>[3] ، وذلك على النحو التالي:
[ ص: 99 ] التخصص
لقد صنفت التجارات في الأسواق تصنيفا يعتمد على التخصص، إذ يحدد لأصحاب كل حرفة جانب من السوق، سواء على امتداد الشارع الأعظم أو الشوارع الجانبية المتفرعة منه، على هـيئة حوانيت متراصة، تضم أصحاب كل حرفة أو تجارة.. لقد كان التوجيه، أن يكون لأهل كل صنعة سوق تختص بهم وتعرض صناعتهم فيها، فإن ذلك لقصادهم أرفق، ولصناعتهم أنفق، وذلك مما يدفع إلى التنافس في المعروض من التجارات، كما يسهل وصول المشتري إلى حاجته بيسر وسهولة
>[4] .
وانعكس هـذا التخصص على مسميات الأحياء، فقد سميت أسواق المدن الإسلامية بأسماء منتجاتها، فوجدت أحياء القصابين، والخبازين، والعطارين، والنحاسين، والصاغة، وغير ذلك من المسميات المرتبطة بالحرفة ذاتها، وانعكس ذلك على جميع المدن الإسلامية بلا استثناء.
[ ص: 100 ] التجاور
وفي ضوء التخصص الذي قامت عليه الأسواق، واختصاص كل سوق بسلعة معينة، ظهر مفهوم التجاور في السلع المتشابهة أو السلع التي يكمل بعضها بعضا.. لقد أصبح من الطبيعي أن تتجاور أسواق المطعومات في محيط عمراني واحد أو متقارب، وكذلك الملبوسات والمصنوعات المخصصة لغرض معين، كالحال في مستلزمات الخيل التي توجد في أسواق متجاورة يسهل أمر الحصول عليها
>[5] .
قواعد التجاور
إن تجاور الأسواق المتخصصة، التي يحوي كل سوق منها سلعة بذاتها، أو تجاور الأسواق مع المناطق السكنية تحكمه قواعد شرعية مستمدة من أصول التشريع الإسلامي، ويأتي في مقدمة هـذه القواعد، القاعدة الشرعية المعروفة: لا ضرر ولا ضرار.
أ- من هـذا المنطلق، لا يتجاور العطارون وبائعو البز مع الخبازين أو الحدادين، لعدم المجانسة بينهم من جهة، وحصول الإضرار من تجاورهم من جهة أخرى، وكذلك لا يجاور محل الخباز محلات باعة
[ ص: 101 ] السمك أو أصحاب الحجامة
>[6] ، نظرا لإمكانية التلوث.. ومن هـذا المنطلق أيضا، يجب أن يكون مكان بائعي الأسماك بمعزل عن السوق، تجنبا للروائح.
وقد أبرز
ابن عقيل هـذه الحقائق في وصفه لبغداد، حيث يقول: وكانت أسواق الكرخ، وباب الطاق، لا يختلط فيها العطارون بأرباب الزهائم
>[7] ، والروائح المنكرة، ولا أرباب الأنماط
>[8] ، بأرباب الأسقاط
>[9] ،
>[10] ب- هـناك ترتيبات معينة تخص المنشآت التجارية والصناعية، التي تتسبب في حدوث الدخان أو الروائح الكريهة، أو الصوت المزعج، والتي تمثل ضررا واضحا إذا زادت حدتها.. ولذلك يراعى عند إنشاء مثل هـذه المؤسسات، أن توضع في أمكنة، أو يختار لها مواضع، يمكن معها تجنب ما قد ينشأ عنها من أضرار.
ويحدث في العادة مع نمو المدينة وزيادة رقعتها، أن تتأثر المناطق الجديدة
[ ص: 102 ] بهذه النوعية من المنشآت، وهنا يتدخل المحتسب للتحكم في ثبات مصدر الضرر لمنع زيادته بالتوسع والإضافة، لأن مثل ذلك يعد إحداثا للضرر، غير أن وجود هـذا الضرر قديم ولا سبيل إلى إزالته، ولأن المنشآت الجديدة كان يعرف أصحابها بوجود هـذه الأضرار مسبقا، فيقتصر عمل المحتسب على إثبات مصدر الضرر وعدم توسعة امتداده، لأنه لا سبيل إلى إزالته نهائيا
>[11] .
ج- ويدخل التعرض للخصوصية وكشف الحرمات، في إطار الضرر. ذلك أن الأسواق بما فيها من محال تجارية، تمثل أقصى درجات الضرر من حيث الخصوصية (Privacy ) ، لأنها تمثل مركز خدمة عامة، يتجه إليه جميع الناس.. ووجود المحلات التجارية في مواجهة منزل، يعرض أهل هـذا المنزل لعيون المتعاملين مع هـذه المحلات والعاملين فيها بصفة مستمرة، وتجنبا للتعرض للكشف، قامت الأسواق على طول الشوارع الرئيسة المتسعة، دون الشوارع الفرعية الضيقة، لما توفره من تأمين للنساء أثناء وجودهن في الأسواق، بينما تكثفت الحوانيت في مناطق تجارية وأسواق موازية ومحيطة بالشارع الأعظم وتفرعاته الجانبية، مكونة منطقة تجارية متكاملة على هـيئة مربعات أو تربيعات، تكررت نماذجها في المدن الإسلامية
[ ص: 103 ] على هـيئة كتلة معمارية تضم مجموعة من الحوانيت ظهورها إلى الداخل، وتطل جميعها على الشوارع التي تحيط بها، مقابلة أيضا صفوفا من الحوانيت على الجوانب الأخرى لهذه الشوارع.
وهذا التصميم، يحقق مبدأ الخصوصية للسكان في المناطق المحيطة بالأسواق، ويساعد على تجنب التعرض للكشف ولا شك أن هـذا يبرز التأثير الإسلامي على هـذه النوعية من المنشآت، التي تشكلت معماريا وفق حاجات المجتمع الإسلامي، في إطار المبادئ الإسلامية التي تحقق النفع وتمنع الضرر
>[12] .
مواصفات المحلات التجارية
لم يكن هـناك نسق معين للحوانيت التجارية، ولم يكن لها مساحة ثابتة، فقد اختلفت أشكال الحوانيت ومساحاتها تبعا للأغراض التي تستعمل فيها، وارتبط ذلك بظروف إنشاء الحوانيت وأغراض التجارة فيها، لكن مما تجب الإشارة إليه هـو أن هـناك من الحوانيت ما اشترط فيه أن يكون بمواصفات بنائية معينة، كحانوت القصاب الذي يذبح في حانوته، فيشترط في حانوته أن يتسع
[ ص: 104 ] لوجود مذبح صغير، حتى لا يضر بالطريق والعامة
>[13] ، وكذلك حانوت الخباز الذي يشترط فيه ارتفاع السقف والتهوية اللازمة لإخراج الدخان
>[14] .
وقد تتطلب بعض الحرف توزيع حوانيتها على المدينة بما يضمن سهولة حصول المشترين على حاجاتهم منها، كالفرانين الذين يفرقهم المحتسب على الدروب والمحال وأطراف البلد، لما فيهم من المرافق وعظم حاجة الناس إليهم
>[15] .
مراقبة الفراغات
ومن الوظائف التي دخلت ضمن اختصاص المحتسب ، مراقبة الحالة العامة لفراغات السوق، وسلوك استخدامه بما يضمن حرية وصحة وسلامة المستخدمين والممتلكات ففيما يتعلق بحرية وسهولة الحركة عند استخدام السوق، كان المحتسب يمنع إخراج مصطبة الدكان عن سمت أركان السقف، لئلا يتضرر المارة
>[16] .
[ ص: 105 ]
كما كان يأمر الفخارين بإزالة ما يضعونه من حوائجهم في الطرق خيفة أن تفسد عليهم، لتضييقهم الطريق بها، فتكون داعية للشر والخصومة.. كذلك كان يمنع الناس من دخول الأسواق على ظهور الدواب، أو توقيفها في الطرق الضيقة أو إرسالها من غير ممسك لها
>[17] .. ويضيف السنامي إلى ذلك: منع من يجلس في الطريق لبيع السلعة، إذا كان للناس فيه ضرر
>[18] .
أما فيما يتعلق بسلامة مستخدمي السوق، فقد كان المحتسب يأمر الحداد أن يتخذ بين الطريق وبين دكانه حاجزا لئلا يتطاير الشرر إلى الطريق كذلك يضمن مسئولية الذي يرش الماء لتسكين الغبار، بألا يزيد عن الحد حتى لا يتضرر منه المارة
>[19] .
ويمنع المحتسب الفرانين والزجاجين عن جعل الأحطاب على مقربة من النار، ويمنع الحطابين من إدخال أحمال الحطب والتبن إلى السوق، لما فيه من الضرر
>[20] .
[ ص: 106 ]
ويرى
ابن خلدون في مقدمته، أن من مهام المحتسب، حمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضاربة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة
>[21] .
وفيما يتعلق بصحة مستخدمي السوق، فقد كان المحتسب يمنع طرح النفايات والجيف في الأسواق والطرقات، كما يمنع الخضارين وغيرهم عن طرح أزبالهم في الطرق
>[22] .. بل لقد كان يمنع الخبازين عن غربلة القمح في الأسواق.
وإضافة إلى ما سبق، كان المحتسب يهتم بتلوث البيئة عموما، فقد كان يتخذ مكانا لبائعي الأسماك بمعزل عن السوق
>[23] .
وللشيزري فقرة أثبت فيها جملة من وظائف المحتسب ، تبين دوره في المدينة الإسلامية، حيث يقول: ينبغي أن تكون الأسواق في الارتفاع والاتساع على ما وضعه
الروم قديما، ويكون من جانبي السوق
[ ص: 107 ] إفريزان يمشي عليهما الناس في زمن الشتاء، إذا لم يكن السوق مبلطا.. ولا يجوز لأحد من السوقة إخراج مصطبة دكانه عن سمت أركان السقائف إلى الممر الأصلي، لأنه عدوان على المارة، يجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله، لما في ذلك من لحوق الضرر بالناس.. ويجعل لأهل كل صنعة منهم سوقا يختص بهم، وتعرض صناعتهم فيه، فإن ذلك لقصادهم أرفق، ولصنائعهم أنفق.. ومن كانت صناعته تحتاج إلى وقود نار، كالخباز والطباخ والحداد، فالمستحب أن يبعد حوانيتهم عن العطارين والبزازين، لعدم المجانسة وحصول الأضرار
>[24] .
وتدل هـذه الفقرة على أن الإسلام لم يمنع الاستفادة مما وصلت إليه الأمم السابقة في مجال التنظيم والعمران، لأن هـذه الاستفادة دافعة لتقدم الأمة إلى الأمام، وهي هـنا استفادة في جانب مادي حضاري بحت وليس في جانب فكري يمس العقيدة.
وفيما يلي توضيح للحرف والخدمات التي كانت منتشرة في أسواق المدن الإسلامية، ومدى تكاملها لتقدم كل ما تحتاجه المدن من متطلبات الحياة اليومية لسكانها
>[25] .
[ ص: 108 ]
1. بائعي الحبوب
2. الجزارين
3. الشوايين
4. الطباخين
5. الحلوانيين
6. الصيادلة
7. العطارين
8. السمانين
9. البزازين
10. الخياطين
11. الأساكفة
12. الصيارفة
13. الحدادين
14. الصاغة
15. المنادين والدلالين
16. الصباغين
17. البياطرة
18. الأطباء والمجبرين
19. مؤدبي الصبيان
[ ص: 109 ] الحسبة على الحمامات
للحمام أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية في المدن الإسلامية، فقد عد من المرافق الحيوية بها وفضلا عن وظيفة الحمام الصحية والترفيهية، فقد كان للحمام غرضه الديني -كما هـو الحال في جميع مرافق المدن الإسلامية- ومن ثم فقد خضعت الحمامات لإشراف المحتسب الذي كان يتفقد الحمامات مرارا في اليوم، ويأمر أصحابها بإصلاح الحمامات ونضح مائها، وبغسل الحمام وكنسه وتنظيفه بالماء الطاهر، وأن يفعلوا ذلك مرارا في اليوم
>[26] .
وللحفاظ على الخصوصية في المجتمع المسلم، فقد خصصت حمامات للنساء، وفي بعض الأحيان أوقات معينة ترد فيها النساء على الحمامات، وقد كان المحتسب يتفقد أبواب حمامات النساء
>[27] .
ومن الناحية الاقتصادية، فقد كانت الحمامات من أفضل العقارات التي تقتنى داخل المدن، وقد وضع
الدمشقي >[28] .
لأفضلها مواصفات، منها:
- أن تتوسط المدينة.
[ ص: 110 ]
- وأن تكون مصارف الماء فيها واسعة مستقلة، ليؤمن عليها من الاختناق.
- وأن بيوتها متوسطة مكتنزة ليعمل فيها الوقود.
- وأن يكون مخلعها وقيمنها واسعين، ليمكن إدخال الكثير من الوقود لها.
- وإن كان ماؤها بدولاب، فما قل عمق بئرها فهي أفضل، وإن كان ماؤها جاريا فما قرب من جهة الماء ومعظمه.
ويدخل في مجال المفاضلة بين الحمامات، تفضيل ما كان قديم البناء
>[29] ، كثير الأضواء، مرتفع السقوف، واسع البيوت، عذب الماء طيب الرائحة، وأن تكون حرارته بقدر مزاج الداخل إليه، وأن يكون الفناء متسعا، لأن أبخرة الحمام رديئة وكثيرة، فإن ذلك معين على تقليل حر أبخرتها
>[30] .
[ ص: 111 ]
كل هـذه الاشتراطات، إن دلت على شيء، فإنما تدل على مدى حرص المسلمين على أن تكون حمامتهم على أحسن وضع، ومستوفية لكافة الشروط المطلوبة في مثل هـذا المرفق الهام من مرافق المدن.
أما عن تخطيط الحمامات، فقد شيدت على نظام يضمن للمستحم عدم تعرضه للإيذاء بالانتقال السريع من البرد إلى الحر أو العكس، فقد كانت تشتمل على عدة بيوت، الأول منها مبرد مرطب، والبيت الثاني مسخن مرخ، والبيت الثالث مسخن مجفف
>[31] .. وفوق ذلك، فالانتقال بينها يكون تدريجيا
>[32] .
الحسبة على مواد البناء
وإذا كان المحتسب قد نيط به الاهتمام بالأشكال الخارجية للعمارة الظاهرة للعيان، فإن واضعي كتب الحسبة من الفقهاء قد شددوا على أهمية قيام المحتسب بمراعاة جودة مواد البناء ومتابعته لصناعها، وهو أمر يمس جوهر البنيان، ويساعد في الحفاظ على أموال المسلمين وأرواحهم، ويدل على مدى ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية
[ ص: 112 ] من رقي في مجال المتابعة لكل ما يتعلق بشئون المسلمين.
وتعتبر صناعة البناء من فروض الكفاية.. متى ما لم يقم بها من يحسنها، صارت فرض عين، لذلك يلزم الأمة توفير من يكفي للقيام بها، ولهذا قال غير واحد من الفقهاء،
كأبي حامد الغزالي ،
وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما: إن هـذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها
>[33] .
ولعل هـذا مادفع
ابن عبدون وغيره من واضعي كتب الحسبة، إلى التشديد في شروط مواد البناء، فيقول ابن عبدون: أما البنيان، فهي الأكنان لمأوى الأنفس والمهج والأبدان، فيجب تحصينها وحفظها، لأنها مواضع حفظ الأموال والمهج.. فمن الواجب أن ينظر -يقصد المحتسب- في كل ما يحتاج إليه من العدد، ومن ذلك أن ينظر أولا في الحيطان، وتقريب الخشب الوافر الغليظ القوي للبنية، وهي التي تحمل الأثقال، وتمسك البنيان.. يجب أن تكون جهة ألواح البنيان في عرضها شبرين ونصف لا أقل من ذلك، ويحدد ذلك القاضي والمحتسب للصناع والبنائين، ولا يصنع حائط يحمل ثقلا أقل من ذلك.
[ ص: 113 ]
ويجب أن تكون الآجر وافرة، معدة لهذا المقدار من عرض الحائط.. يجب أن يكون عند المحتسب ، أو معلق في الجامع، قالب في غلظ الآجر، وسعة القرمدة، وعرض الجائزة وغلظها، وغلظ الخشبة، وغلظ لوح الفرش، هـذه القوالب مصنوعة من خشب صلب لا يستاس، معلقة في مسامير في أعلى حائط الجامع، يحافظ عليها كي يرجع إليها متى ما نقص منها أو زيد فيها ويكون عند الصناع آخر لعملهم، وهذا من أحسن شيء ينظر فيه وأوكده.
وعن مكان صنع مواد البناء يقول: ويجب أن تصنع القراميد والآجر خارج أبواب المدينة لأن تلك المواضع أوسع، فقد ضاق في المدينة المتسع، ويجب أن يجيد طبخ الآجر والقراميد.. ويجب أن يحدد لهم -أي المحتسب- أن يصنعوا أنواعا من شكل الآجر.. حتى إذا طلب شيء يحتاج إليه وجد
>[34] .
وامتدت هـذه العناية إلى الجيارين والجباسين، وما يقومون به من أعمال
>[35] .
[ ص: 114 ]
ومن أجل حفظ أموال المسلمين وخصوصياتهم، امتدت رقابة المحتسب إلى نجاري الضبب، فيذكر كل من
ابن الأخوة وابن بسام : أنه ينبغي أن يعرف -أي المحتسب- عليهم عريفا ثقة عارفا بمعيشتهم، بصيرا بهذه الصناعة، وينشر جواسيسها، وهو باب جليل يحتاج إلى ضبطه، لأن فيه حفظ أموال الناس، وصيانة حريمهم، فينبغي أن يراعى.. ويحلفون بحضرة عريفهم، بما لا كفارة لهم منه، أن لا يعملوا لرجل، ولا لامرأة، مفتاحا على مفتاح، إلا أن يكونا شريكين مشهورين، ويأخذ منهم المحتسب الضمانات الكافية، لضمان أن لا يعمل مفتاحا على مفتاح، مع رقابته المشددة عليهم، ومن خالف ذلك كان المحتسب يؤدبه
>[36] .
وبعد: فهذا لون من الفكر العمراني المتميز عند المسلمين، بحيث جاءت أنماط البناء، وما يحقق من حقوق الارتفاق والتنظيم، انعكاسا للعقيدة الإسلامية، وإحكام الستر، والحلال والحرام، وتحقيق صور التعاون والتآلف، وتمتين أواصر صلة الأرحام والأقارب، وحماية حقوق الطرقات والجوار، وعدم التعسف في استعمال الحق بما يحمل الأذى للجوار، سواء في نظام البناء أو في تحقيق الارتفاق منه.
[ ص: 115 ] [ ص: 116 ]