الفصل الثاني :
نشأة التدوين التاريخي والمنظور الحضاري
مقدمة
ذكرنا في الفصل الأول أن هـناك شيئا من الوعي والإحساس التاريخيين عند العرب في الجزيرة العربية وأطرافها في
الشام والعراق ، غير أنهما لم يكونا من النضج والوضوح بحيث يتمخض عنهما نتاج كبير في التأليف والتدوين التاريخيين.
كانت أكثر مظاهر هـذا الوعي بادية للعيان في
نجد والحجاز ، وقد تمثلت في اتجاهين، هـما (الأيام) و (الأنساب) .
فبينما يكون (النسب) المحور الذي تقوم عليه القبيلة، كوحدة اجتماعية سياسية في نجد والحجاز، كانت (الأيام) التي فرضتها طبيعة الحياة العربية القبلية قبل الإسلام الوعاء الذي تحفظ فيه القبيلة ذكريات غزواتها وملاحمها مع القبائل الأخرى، وتأتي المفاخرة والمباهاة بأبطالها وشجعانها، الذين قاتلوا ببسالة في الذود عن حمى القبيلة، لتضيف إلى القبيلة مجدا وعزا هـي أحوج ما تكون إليه وسط بيئة لا يعيش فيها إلا الأقوياء.
[ ص: 73 ]
لذا فقد جاءت (الأيام) و (الأنساب) استجابة حضارية فرضتهما طبيعة الحياة العربية، المتوثبة، والمتحفزة دوما لمواجهة التحدي الذي هـو أحد إفرازات البيئة الصحراوية القاسية، فلا غرو أن أصبحت القبائل تولي أيامها وأنسابها منتهى الاهتمام، فتغرس في أطفالها ويافعيها، في مجالس السمر القبلية، حب هـذا الإرث، والإخلاص له، والمحافظة عليه، وإضافة أمجاد جديدة عليه حين يشبوا.
وقد أفاد من هـذا التراث بعد الإسلام، الكتاب المسلمون، واستمدوا الكثير من معلوماتهم عن حياة العرب قبل الإسلام، وخاصة تلك التي تتعلق
بنجد والحجاز .
على أن ظهور الإسلام شغل العرب في بداية الدعوة الإسلامية وعصر الراشدين عن كل ما سواه، عن الأيام والأنساب، وأخبار
اليهود والنصارى ،
والفرس والروم ،
والأحباش وأخبار ملوك اليمن فلما انتشر الإسلام على الشرك في الجزيرة العربية، وظللتها رايته، وأصبحت كل أرجائها تخضع لحكومته في
المدينة ، بدأ المسلمون عملية إعادة النظر فيما تضمنه القرآن الكريم من قصص لأنبياء ورسل، وأمم وشعوب وقبائل، وما أصاب المكذبين منهم من دمار وفناء، وما لاقى الصالحون من فلاح ونجاح.
إن هـذه القصص جاءت في القرآن الكريم بقصد العبرة والاتعاظ، وقد حفز هـذا المسلمين على التساؤل عن تلك الأمم ومواطنها وأزمانها وصلتها
[ ص: 74 ] ببعضها أو بالعرب.. ولأن أكثرها كانت من العرب
كعاد وثمود ، وأصحاب
شعيب .. إلخ، فقد كان القرآن المحفز لدراسة التاريخ العربي القديم إلى جانب التاريخ العام في حين كان الحديث النبوي الشريف المحفز للاهتمام بجمع وتدوين التاريخ الإسلامي.
ولأن رسالة الإسلام كانت امتدادا تاريخيا لرسالات سابقة،
نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد أصبح للماضي -كما أسلفنا- قيمة كبيرة في نظر العرب المسلمين؛ لأنه يمثل العمق الذي تمتد فيه جذور رسالة الإسلام.
أصبح مفسرو القرآن الكريم بحاجة ماسة إلى المعلومات التاريخية، عند تفسيرهم للآيات القرآنية التي يرد فيها ذكر بعض الأنبياء وأقوامهم، فكان ذلك سبب اهتمامهم بالماضي
>[1] .
وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم المحفز الآخر للاهتمام بالسيرة، فهو مثال المسلمين الأعلى في الحياة، وأقواله وأفعاله تعد الركن الثاني في التشريع الإسلامي الذي كان قانون الدولة، لذا بدأ الاهتمام مبكرا بجمع كل ما يتعلق بحياته فيما سمي بعد ذلك بـ ( السيرة ) ، ثم اتسع نطاق هـذه الدراسة لتشمل ما عرف بـ ( المغازي ) ، والتي تغطي الجوانب السياسية
[ ص: 75 ] والعسكرية من حياته
>[2] ، حيث لم تعد الجوانب الاجتماعية، والتي رأيناها في السيرة مثار الاهتمام لوحدها، بل صار كفاحه وجهاده في سبيل نشر رسالته، بما في ذلك كفاحه المسلح، أي سراياه وغزواته، مثار المزيد من الاهتمام.
من هـنا، فإن التاريخ الإسلامي قد ولد ونشأ وترعرع، ووصل درجة النضج والكمال في ظل الإسلام (القرآن والسنة) ، كذلك فإن غزارة التأليف والتدوين في حقل التاريخ من قبل العرب المسلمين، وصل حدا بحيث لا نكاد نجد أمة تتفوق عليهم
>[3] .
وسوف نعود لأثر القرآن الكريم والسنة في نشأة علم التاريخ الإسلامي عند الحديث عن بدايات التدوين التاريخي، بعد الانتهاء من الوقوف على تعريف التاريخ، لغة، واصطلاحا، وأصالة، وزمن ظهوره في ثقافتنا العربية الإسلامية.