المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب

الدكتور / سالم أحمد محل

صفحة جزء
بدايات التدوين في الإسلام

نشأة التدوين التاريخي كان لظهور الإسلام أثر كبير على نشأة علم التاريخ عند العرب، بل أن التاريخ العربي الإسلامي ولد ونشأ وترعرع فى كنف الإسلام وحضانته، الأمر الذي يعطي هـذا العلم أصالته العربية الإسلامية بين العلوم الأخرى، ولقد سبقت الإشارة إلى أثر القرآن الكريم على التاريخ في الفصل الأول من هـذا البحث.

وأرى من المناسب أن نشير هـنا إلى أثر الإسلام بمجمله ( القرآن، الحديث، السنة) ، ومن ثم فعاليات الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية، سواء في العهد النبوي أو الراشدي أو الأموي ومن ثم العباسي، باعتبارها مظهرا لفاعلية نظام الإسلام ودعوته، على حركة التدوين التاريخي .

فالقرآن الكريم، باعتباره كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

عد رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم امتدادا لرسالات الأنبياء السابقين، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وبذلك جاء القرآن ـ كما أسلفنا ـ بنظرة عالمية للتاريخ، تمثلت في توالي النبوات، مما كان له أثره في العناية والالتفات إلى تواريخ أولئك المرسلين >[1] .. كما كانت الحاجة إلى تفسير [ ص: 92 ] القرآن ومعرفة مناسبات نزول آياته، وأخذ العبر من مصير الأمم السابقة دافعا آخر من دوافع الاهتمام بالتاريخ واستنطاق الماضي البشري المليء بأحداثه والزاخر بمعطياته، يكمل الصورة التي يرسمها القرآن بأسلوبه المقتضب عن تلك الأمم >[2] .

وانطلقت الحاجة إلى التاريخ من طبيعة نزوله، فالقرآن الكريم لم ينزل مرة واحدة كاملا، بل نزل تباعا (منجما) وبالتدرج، وهذا جعل بعض أحكامه متدرجة ومتسمة، إما بالتعميم وإما بالتخصيص، بعضها نسخ وبعضها استقر، الأمر الذي تطلب معرفة دقيقة بناسخه ومنسوخه، وسابقه ولاحقه، لما يترتب على ذلك من التزامات عبادية أو تشريعية أخرى >[3] .

أما الحديث، فهو يشمل أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كان دافعا آخر لعناية المسلمين بالتاريخ، إذا أخذ المسلمون بجمعه وترتيبه للاستعانة به على تفسير القرآن الكريم، لأنه يعد الركيزة الثانية بعد القرآن الكريم للتشريع الإسلامي، الأمر الذي يعطي السنة هـذه الأهمية التي بلغتها عند المسلمين، فكانت العناية بها الأساس الذي قامت عليه فيما بعد كتب السيرة والمغازي >[4] . [ ص: 93 ] فضلا عن ذلك، هـناك عوامل أخرى ساعدت على اهتمام المسلمين بالتاريخ منها حركة الفتوح، أي البلدان والأقطار التى فتحها العرب المسلمون، هـل كان ذلك الفتح صلحا أم عنوة؟ وما يترتب على ذلك من حقوق بالنسبة لتقدير قيمة الخراج المفروض على الأرض، وكذلك تأسيس عمر صلى الله عليه وسلم للديوان ، وتسجيل الناس فيه حسب أسبقيتهم في الإسلام.

ولا يفوتنا أن نذكر اهتمام الخلفاء بأخبار الماضين؛ للاطلاع على طرقهم ووسائلهم في إدارة بلدانهم، سواء كان ذلك بالنسبة للفرس أو الروم فاستقدموا الإخباريين إلى قصورهم وقربهم، إضافة إلى أن بعض الذين دخلوا في الإسلام أرادوا نشر وإحياء تراثهم السابق، لأسباب تتصل بالعصبية لأقوامهم، أو لمجرد الرغبة العلمية، مما أضاف للتاريخ العربي الإسلامي مادة قيمة عن الأمم السابقة كالفرس والروم أو الهنود ، فأكسبه بذلك نظرة عالمية >[5] .

إلى جانب ذلك، فإن الفتنة التي حدثت في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه والتى انتهت بمقتله، وما أعقب ذلك من صراعات داخل كيان الأمة، تمحض عن ظهور أحزاب وقوى تناصر هـذا أو ذاك، [ ص: 94 ] مما أدى إلى الاهتمام بالتاريخ لالتقاط ما يعينها على تدعيم موقفها في صراعها مع الغير، من حديث وسنة أو موقف لأحد الصحابة >[6] .

ولا يخفى أن السرعة التي تحققت بها الفتوحات الإسلامية، وامتداد الدولة الإسلامية من جبال البرانس ( الحدود الفرنسية الإسبانية ) إلى حدود الصين ، حاملة راية الإسلام، أشعر العرب المسلمين بالانبهار والافتخار بسلامة نهجهم، كما أشعرهم بأن لهم دورا رياديا في التاريخ العالمي، فأخذوا بجمع وتحقيق عناصر هـذه التجربة الكبرى التي كان لهم شرف حملها وتبليغها للعالمين، فكان ذلك مدعاة لعنايتهم بالتاريخ >[7] .

التالي السابق


الخدمات العلمية