بدايات التدوين: السيرة والمغازي
إن بداية ظهور التدوين التاريخي عند العرب المسلمين، تشير إلى وجود اتجاهين في الدراسات التاريخية:
الاتجاه الأول: هـو اتجاه ديني تخصصي يتمثل في اهتمام وعناية أهل الحديث بالدراسات التاريخية التي ارتبطت منذ ظهورها بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وبالنظر لكون مادة الدراسة هـي ما يتعلق بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه، فقد أصبحت
المدينة مركز هـذا الاتجاه الذي يمثل الفعاليات والنشاطات الإسلامية
>[1] .
[ ص: 95 ]
أما الاتجاه الثاني: فهو اتجاه قبلي عام أو اتجاه ( الأيام ) ، وهو استمرار للتراث القبلي الذي كان سائدا قبل الإسلام، وقد تركز هـذا التيار على الأغلب في
الكوفة والبصرة .
وأصبح هـذان التياران (الديني والقبلي) محوري النشاط الثقافي في صدر الإسلام
>[2] .
الاتجاه الديني الإسلامي التخصصي إن بداية التدوين التاريخي عند العرب المسلمين يمكن تلمسها في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعلم التاريخ مدين بظهوره وروايته وتدوينه لتلك السيرة العطرة
>[3] .
لقد فرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسها على عدد من المسلمين للعناية والاهتمام بها، عن طريق حفظها وروايتها، ومن ثم بين بين الناس..
وكان هـذا الاهتمام يعود إلى أهمية حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته بالنسبة للمسلمين، فأقواله وأفعاله المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن، كما أن المسلمين بحاجة ماسة لها في التنظيمات الإدارية، بالبحث عن السيرة التي قام بها في هـذا الخصوص، إضافة إلى أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر الكثير من آيات القرآن الكريم، كما أن جهاده وغزواته كانت مثار إعجاب المسلمين وانبهارهم.. فصبره وجلده في مقاومة الوثنية ، وبث
[ ص: 96 ] دعوته، وتركيز دعائمها، أصبحت مثلا يحتذى، وانتصاراته التي تختلط فيها المعجزة الإلهية بالعبقرية البشرية لقيادته، صارت من أحب المواضيع التي كانت تطرح في مجالس السمر عند المسلمين
>[4] .
إن الإنقلاب العظيم والشامل في حياة العرب الذي أحدثه الإسلام، جعل المسلمين أكثر حرصا ولهفة على تجميع كل ما يتعلق بحياة مبلغ هـذه الرسالة العظيمة
>[5] ، فلكل ذلك أصبحت سيرته عليه السلام أول ما جمع ودون في الإسلام.
بدأ الاهتمام بدراسة " مغازي " الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ضمن دراسة المحدثين للحديث وجمعه وتبويبه، ولا غرو أن تكون
المدينة مدرسة الحديث والتفسير، فهي دار هـجرته عليه السلام ، ومركز أول حكومة إسلامية شيدها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنها انطلقت كتائب بدر وأحد ومؤتة وخيبر ، وفتحت
مكة ، ومنها انطلقت جحافله إلى ربوع الجزيرة العربية تحطم الأصنام والأوثان، وتعلي كلمة الإسلام، وإليها قدمت وفود العرب من كافة أنحاء الجزيرة تعلن إسلامها، ومنها انطلق رسله إلى حكام الأقطار المجاورة تعرض عليهم دعوة الإسلام، وهي دار صحابته الذين سمعوا منه، وشاهدوا أفعاله وأعماله وسألوه عن كل ما غم عليهم في دينهم ودنياهم، ثم أخذوا يروون عنه حديثه، فصار منهم المحدثون الذي
[ ص: 97 ] بدأوا بجمع حديثه، وحفظ مآثر سنته، لذلك أصبحت
المدينة بحق مدرسة أهل الحديث
>[6] .
الرواية الشفهية الشائع عند الكثير من المؤرخين المحدثين، أن علم التاريخ عند العرب المسلمين قام على أسس من الرواية الشفهية ، لعدم شيوع الكتابة في المجتمع قبيل الإسلام وفي بداية العصر الإسلامي
>[7] .
لم يكن ظهور الرواية الشفهية مرتبطا بالإسلام، بل كان أقدم عهدا منه، فالرواية بنت فترة ما قبل الإسلام، حيث كانت الوعاء الذي يحفظ به الرواة أنساب القبائل وأشعارها.. غير أن هـذا لا ينفي وجود كتب أو صحائف متفرقة أو دواوين مجموعة في الفترة السابقة للإسلام، كما يظهر من قصة
عامر بن الظرب مع الملك الغساني
>[8] .
غير أن الرواية قبل الإسلام مرت بتطورات أملتها طبيعة العصر وحاجات المجتمع، فقد نشأت أول أمرها بسيطة ساذجة، ثم نمت وتطورت، غير أنها لم تكن في البداية تاريخية، وليست لها أية صفة علمية، إضافة إلى هـذا لم يكن هـناك أناس متخصصون بها، وإنما كان كل إنسان حر في ما يروي، كذلك لم تكن الرواية في هـذه الفترة متخصصة،
[ ص: 98 ] أو بالأخرى مقتصرة على الشعر، وإنما اتسعت لتشمل أخبار القبائل، أي أيامها ووقائعها وأنسابها
>[9]
إلا أن الرواية كأية ظاهرة ثقافية، بدأت تتطور بتقادم الزمن.. ولعناية العرب بالشعر وبراعيتهم فيه، أصبحت الحاجة ماسة إلى وجود من يتخصص بحفظ الشعر وروايته، فظهر " رواة " أوقفوا أنفسهم لهذا الفن، بحفظه وأدائه في المحافل والمنتديات والمجالس، فصار لكل قبيلة شاعر وأحيانا أكثر، يضع نفسه في خدمة القبيلة، باعتباره لسان القبيلة الناطق باسمها، وصحفيها البارع، ومن وراء هـذا الشاعر " راو " يتبعهن، ثم يأخذ عنه، فهو بمثابة تلميذ له حتى يصير في يوم من الأيام شاعرا
>[10] .
بدأت الرواية تقترب من الصفة العلمية قبيل الإسلام، غير أنها لم تكتسب صفة العلم المبني على قواعد وأصول خاصة بها، فهذه الصفة اكتسبتها بعد الإسلام
>[11] .
كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجالسوه، وصلو وراءه، وقاتلوا تحت رايته، فكان حقيق بهم أن يرووا عنه ما سمعوه من حديثه معهم، أو شاهدوا من أفعاله، رووها لمن لم يكتب له حضور مجالسه ورؤيته ومصاحبته، رووها لأولادهم ونسائهم في بيوتهم، ورووها فيما بعد لأهل البلاد المحررة والمفتوحة؛ كي ينيروا لهم سبل العبادة
[ ص: 99 ] الصحيحة أو معالجة مشكل الحياة في أنشطتها المتعددة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مصدر الخبر ، وكان الصحابة رواة ذلك الخبر، أو جملة الأخبار، فكانوا: " يتلقون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريق المشافهة، أو بطريق المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو شهد أفعاله وتقريراته؛ لأنهم جميعا لم يكونوا يحضرون مجالسه، بل كان منهم من يتخلف لبعض حاجاته "
>[12] .
اعتمد الصحابة رضوان الله عليهم منهجا خاصا في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا المنهج يقوم على الإقلال من الرواية، والتثبت والتحري من صدقها
>[13] وهذا المنهج افتقدت إليه الرواية في الفترة السابقة على الإسلام.. وقد يكون التقليل من الرواية والتثبت من صحتها راجع إلى الخوف من الوقوع في الإثم أو الخطيئة، لأن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله تعد الركن الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن.
وانتقلت مرويات الصحابة إلى الجيل الثاني (التابعين) ، ومن هـؤلاء إلى الجيل الثالث (تابعي التابعين) ، وهكذا
>[14] .
ونظرا لما لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله من أهمية تشريعية، فقد توجب على ذلك التأكد من صحبة الحديث أو الفعل المنسوب إليه، وهذا ما أظهر الحاجة إلى " الإسناد " أو سلسلة الرواة .. ويبدأ الإسناد بآخر شخص
[ ص: 100 ] روى الحديث، ثم يتدرج إلى الشخص الذي صدر عنه الحديث، وقد عرفت هـذه الطريقة عند المحدثين باسم " العنعنة " ، حيث يتم سند الرواية بقولهم: حدثنا فلان عن فلان إلخ.. أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
>[15] .
ولا يمكن تحديد ظهور " الإسناد " في الحديث، غير أن الذي لا مراء فيه هـو أن السند لا يمكن أن يكون معروفا في عهد الصحابة، للقرب من مصدر الخبر وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، لذلك اعتمد كبار الصحابة نظام " الشهادة " في التثبت من صحة الحديث،
( فقد روي الزهري عن قبيصة بن ذؤيب : أن الجدة جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء، ولا علمت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس.. فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هـل معك أحد غيرك؟ فقام محمد ابن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر ) >[16] ..
كما كان
عمر رضي الله عنه يتشدد على المكثرين من الرواية، أو من جاء بحديث يتضمن حكما دون أن يكون لديه شاهد على ما يقول
>[17]
غير أن تقادم الزمن وكثرة الفتن، أدت إلى ظهور " الإسناد " ، فهناك قول
ابن سيرين [ت: 110هـ]:
[ ص: 101 ] " لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت نظر: من كان من أهل السنة أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدعة تركوا حديثه "
>[18] .
وأرى أن ظهور " الإسناد " بوقوع الفتنة، أي بحدود سنة [35هـ]، والذي يذكره
ابن سيرين ، ليس مطلقا لكافة الأحاديث، وإنما قد يكون أريد به أحاديث معينة تتعلق بالإمامة أو الخلافة من الناحية الشرعية، وليس على إباحة أو تحريم شيء أباحه أو حرمه القرآن أو السنة المطهرة، يكاد يكون متفقا عليه.
وزيادة في تقصي الحذر من الوقوع بالإثم أو الخطيئة، فقد اتبع المسلمون طريقة بمنتهى الدقة للتأكد من أمانة راوي الحديث، وذلك فيما سمي " بالجرح والتعديل " ، حيث كان الرواة جميعا يخضعون لهذا التجريح ثم التعديل، فإن ثبتت أمانتهم وصدقهم، ولم يعرف عنهم سوى الصدق، أخذ الحديث عن روايه، وإن عرف عنهم كلهم أو أحدهم غير ذلك ترك الأخذ عنه وضعف الحديث.
ولم يقتصر النقد على رواة الحديث، بل انتقل إلى مادة الحديث، موضوع الخبر، أي " المتن "
>[19] ، فأخضع للعقل والمنطق، بمعنى أن مادته
[ ص: 102 ] ليس فيها ما يناقض المنطق أو العقل أو السنن المعتادة في الحياة البشرية وكذلك أن لا يكون متن الحديث يتناقض مع أحكام القرآن الكريم.
ولقد كانت لهذه القاعدة التي وضعها المحدثون، وهي " الجرح والتعديل " أهمية كبيرة على الدراسات التاريخية في هـذا الوقت المبكر، إذا أرست دعائم نظرة نقاده إلى الرواة، باعتبارهم مصادر للمعلومات، كما أنها أدخلت عنصر البحث والتحري عن صحة الخبر، سواء بالنسبة للإسناد أو بالنسبة للمتن ، فتشكلت عنها أسس متينة للدارسة التاريخية
>[20] .
ونعود الآن لنتساءل: متى بدأ التدوين في الحديث؟ ومتى بدأ التدوين في السيرة والمغازي، باعتبارهما جزءا من العملية التي جمع بموجبها الحديث؟
فيما يتعلق بتدوين الحديث، فإن هـناك رأيين متناقضين في هـذا الموضوع:
الأول: مفاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن تدوين الحديث ،
( فعن أبي هـريرة ، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هـذا الذي تكتبون؟ ، قلنا: أحاديث سمعناها منك. قال: أكتابا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله ) >[21] [ ص: 103 ] كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه
( قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليحمه ) >[22] .
والثاني: ورود أحاديث عنه صلى الله عليه وسلم بالسماح بتدوين الحديث ، فقد
( روى أبو هـريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسمع من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : يا رسول الله ! إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استعن بيمينك ، وأومأ بيده للخط ) >[23] .
كما ويروى
( عن رافع بن خديج قوله: قلت: يا رسول الله! إنا لنسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: اكتبوها ولا حرج ) >[24] .
ففي هـذين الحديثين إباحة التدوين، وكان بعض الصحابة يكتبون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كان
عبد الله بن عمرو بن العاص ، قد كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا اعترف له أبو هـريرة بالإكثار من العلم؛ لأنه
[ ص: 104 ] كان يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو هـريرة لا يكتب
>[25] .
وما كتب
عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أودعه في صحيفة عرفت بـ ( الصادقة ) ، حيث " يقول عنها: فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد "
>[26] ، وهناك صحف أخرى
لسمرة بن جندب الصحابي،
وأبي سلمة نبيط بن شريط الأشجعي ،
وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم
>[27] .
ومما يؤكد وجود تدوين للحديث في عهد الصحابة، أن بعض أبنائهم ممن عرف برواية الأخبار ، يشير إلى مصدره أو مصادره التى استقى منها معلوماته بقوله: " وجدت في كتاب أبي فلان " ، أو " كتاب آبائي "
>[28] .
وكان لدى حفيد
سعد بن عبادة نسخة جده في المغازي، وكذلك كان لدى حفيد
سهل بن أبي حثمة الصحابي نسخة مثلها
>[29] .
ويرى
الدكتور صالح أحمد العلي أن كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم لتدوين الحديث هـو الخوف من الخطر المحتمل عن اهتمام الناس بهذه وتعلقهم فيها، وانصرافهم إليها، مما قد يشغلهم عن الاهتمام بالقرآن الكريم ودراسته
>[30] .
[ ص: 105 ] فالتدوين بدأ مع الصحابة، والإسناد في نظر
الدكتور شاكر مصطفى " كان سببه ضرورة الشهادة على الرواية نقلا عن مصدرها الأول، وهكذا فإن الأسماء الواردة في الإسناد لدى
الطبري أو
الواقدي أو
البلاذري مثلا إنما تكشف في الواقع عن أسماء المدونين الأولين والمدونين التالين لهم "
>[31] .. وأحد أبناء الصحابة وهو المحدث الفقيه "
عروة بن الزبير ينقل عنه قوله: كنا نقول: لا نتخذ كتابا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي وأن كتاب الله قد استمرت مريرته "
>[32] .
ونرى أن التدوين في عصر الرسالة، والعصر الراشدي، له صلة وثيقة بالقرآن الكريم، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تدوين الحديث، ربما كراهة وخوفا منه عليه السلام على القرآن الكريم في أن يدخله مما ليس منه
>[33] فلما جمع القرآن الكريم في عهد
أبي بكر رضي الله عنه ، ثم جمع الجمع النهائي بتحديد القراءات المعتمدة له في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه ، تحرر المسلمون من عقدة الخوف على القرآن من تدوين الحديث، فأخذوا يدونونه، وإن كان ذلك لا يمنع وجود مدونات على نطاق محدود، وشخصي، عند بعض الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم غير أن ذلك لم يكن قد تحول إلى ظاهرة عامة في تدوين الحديث عند جميع
[ ص: 106 ] الصحابة أو معظمهم، وإلا كيف نفسر قول
عروة بن الزبير بأنه محا كتبا قد كتبها كي لا يكون هـناك كتاب مع كتاب الله، ثم نقرأ رواية عن
هـشام بن عروة بن الزبير يقول فيها : " أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له. قال: فكان " يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي "
>[34] .
إن التدوين المبكر للحديث، كعمل شخصي، وجد في عهد الصحابة والتابعين، فهذا "
سعيد بن جبير ، يقول: " كنت أكتب عند ابن عباس في ألواحي، حتى أملأها، ثم أكتب في نعلي " "
>[35] .
وبعض التابعين كانوا يكتبون على أكفهم بالقصب عند
البراء ابن عازب ، وهو صحابي جليل
>[36] ، كذلك " عن
عبيد الله بن أبي رافع أنه قال: " كان
ابن عباس يأتي
أبا رافع فيقول: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا ؟ وما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها "
>[37] ، مما يدل على وجود التدوين وشيوعه بين الصحابة رضوان الله عليهم.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر شخصا يشكو قلة الحفظ أن يكتب كي لا يفوته شيء يود معرفته،
[ ص: 107 ] ( فيروي أبو هـريرة : أن رجلا شكا حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: استعن على حفظك بيمينك ) يعني اكتب
>[38] ، وفي رواية
لعبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على تقييد العلم،
( قلت: يا رسول الله! أقيد العلم؟ قال: نعم، قلت: وما تقييده ؟ قال : الكتاب ) >[39] . والشواهد على ذلك كثيرة.
لم يقتصر التدوين على الحديث، سواء في عصر الرسالة أو العصر الراشدي، رغم ما يكتنف أخباره من غموض وشكوك وتأويلات، غير أن الذي لا مراء فيه هـو أنساب العرب قد سجلت في العصر الراشدي
>[40] لقد فرضت حاجات الأمة المستجدة على
عمر رضي الله عنه ، تدوين الديوان، ومن ثم سجلت أسماء العرب فيه حسب أسبقيتهم في الإسلام، وحسب قبائلهم.. وبعد وصول أخماس غنائم الفتوحات إلى
المدينة ، شكل عمر رضي الله عنه لجنة ثلاثية ضمت
مخرمة بن نوفل ،
وعقيل بن أبي طالب ،
وجبير بن مطعم ، وهم أشهر من له علم بأنساب العرب في المدينة يومذاك، فلما أنهت مهمتها، اعتبر عملها هـذا أول تدوين تاريخي للأنساب في الإسلام، وهكذا فعل عمر رضي الله عنه ، " دون للناس في الإسلام الدواوين... وكتب الناس على قبائلهم "
>[41] .
ويبدو من خلال هـذا العرض عن بدايات التدوين، أنه لم يكن قائما
[ ص: 108 ] على أسس علمية منهجية في الترتيب والتبويب، وعنونة المدونات، بل كانت عبارة عن تدوين كل ما يقع على سمع المدون أو الكاتب المعنى بالتدوين من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولم يقتصر وجود الصحف التي جمع فيها أصحابها من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقط، فقد كان لدى بعض التابعين مثل تلك الصحف، فكان عند
الزهري صحف، وكذلك عند
مكحول والحسن البصري >[42] .
وكانت العناية بالسيرة أو بالمغازي، تأتي ضمن عناية المحدثين بالحديث وجمعه، فقد كان المحدث يجمع الأحاديث المتفقة دون تبويب أو ترتيب، إلا أن التطور والحاجة قادا إلى ترتيب الأحاديث في أبواب خاصة، مثل: باب الجهاد، باب الصلاة.. إلخ. فتأثرت السيرة والمغازي بهذا التطور الجديد، حيث جمعت في ابواب مستقلة كان من أشهرها باب يسمى: " المغازي والسير "
>[43] غير أن المغازي والسير لم تلبث أن انفصلت دراستها وأبوابها عن الحديث، حيث ألفت فيها الكتب الخاصة بها، ومع ذلك ظل المحدثون يحتفظن بباب " المغازي والسير " في كتب الصحاح الستة المشهورة،
[ ص: 109 ] ففي
البخاري [ت: 256هـ] مثلا كتاب المغازي، في مسلم [ت: 261هـ] كتاب الجهاد والسير.. إلخ.