المطلب الثاني: مسائل في المعاملات
المسألة الأولى: حكم التعامل بالربا في دار غير المسلمين
ذهبت جماهير العلماء إلى أن الربا حرام، قليله وكثيره سواء، لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمين، أو مسلم وحربي ، وسواء
[ ص: 131 ] دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغيره، وبه قال
مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وأبو يوسف وغيرهم، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
>[1] .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عموم الأخبار القاضية بتحريم الزيادة والتفاضل، والتي لم تقيد التحريم بمكان دون مكان، أو بزمان دون زمان، بل جاءت مطلقة وعامة،
ومن هـذه الأدلة العامة قوله تعالى:
( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (البقرة: 275) .
وقوله:
( وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) (البقرة: 278) .
ومن الأخبار قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( اجتنبوا السبع الموبقات ) ، وذكر منهن الربا
>[2] فكل هـذه النصوص تفيد تحريم الربا على سبيل العموم، من غير تفصيل ولا تخصيص.
2- ما كان محرما في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالربا بين المسلمين وسائر المعاصي.
3- القياس على المستأمن الحربي الذي يدخل دارنا بأمان، فقد
[ ص: 132 ] أجمعوا على حرمة التعامل معه بالربا ، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب فلا يجوز التعامل معهم بالربا.
قال
الشافعي : (لا تسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضا، كما لا تسقط عنهم صوما ولا صلاة)
>[3] . وقال: (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر)
>[4] وقال
الشوكاني : (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية)
>[5] المسألة الثانية: هـل للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر فيما هـو معصية عندنا؟
صورة هـذا التساؤل: أن يؤجر المسلم نفسه لكافر، لبناء معبد للشرك، أو حمل محرم كخمر، أو ميتة، أو خنزير، أو بيعه، أو أن يعمل عنده في معاملات ربوية، أو في مصانع تنتج محرمات، أو ما شاكل ذلك.
فقد ذهب الجمهور إلى حرمة أن يؤجر المسلم نفسه لكافر في عمل كهذا. فقد سئل
الإمام مالك : المسلم يؤجر نفسه للكافر يحمل له خمرا، فقال: (لا تصلح هـذه الإجارة) . وقال: (بل لا يعطى عليها إجارة) .
[ ص: 133 ]
والقول بأنه لا يعطى عليها الأجر، رواية عن
أحمد >[6] وفي المدونة عن
ابن القاسم فيمن رعى خنازير لكافر، قال: تؤخذ الإجارة من الكافر، ويتصدق بها على المساكين أدبا للكافر، ولا يعطاها المسلم بل ويضرب أدبا له
>[7] وسئل
الإمام أحمد : أيبني مسلم للمجوس ناووسا؟ فقال: لا يبني لهم. وقاله
الآمدي ، وكرهه
الشافعي >[8] ، ومثله الكنيسة، وما يماثلها عند أهل الكفر
>[9] وأما العمل في معاملات ربوية فمحرم، لحديث
جابر :
( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: وهم فيه سواء ) >[10] قال
النووي : هـذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المرابين والشهادة عليهما
>[11] . وفي الحديث أيضا تحريم الإعانة على الباطل أيا كان نوعه
>[12] [ ص: 134 ]
والنص هـنا عام مطلق، بلا فرق بين من عمل بذلك في دار الإسلام أم في دار الكفر.
نخرج من هـذا إلى أنه يحرم على المسلم أن يبني للمشركين دارا للكفر، أو أن يعمل لديهم ببيع خمر، أو بيع خنزير أو أي محرم آخر؛ لأنها أفعال محرمة.
فإذا اضطر لذلك جاز، ولكن فليعمل بقاعدة: الضرورة تقدر بقدرها فلا يتجاوز قدر الحاجة، ولا يتوسع في ذلك، وليكتف بالكفاف، وليعمل جاهدا للخروج من هـذا الواقع.
وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بحرمة العمل في المطاعم من غير ضرورة (أي المطاعم التي تقدم الخمر والخنزير) ، وبحرمة تصميم معابد شركية، أو الإسهام فيها.
وأما إذا اضطر للعمل في تلك المطاعم فيجوز، بشرط ألا يباشر نفسه سقي الخمر أو حملها، أو صناعتها، أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير، ونحوها من المحرمات
>[13] وعلى ذلك يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر بشروط منها:
1- أن يكون عمله مباحا.
[ ص: 135 ]
2- أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين.
3- ألا يشتمل على مذلة وإهانة.
المسألة الثالثة: حكم استقراضهم، واستيداعهم، والاستعارة منهم
أولا: استقراضهم
الاستقراض هـو طلب القرض، والأصل في ذلك ما رواه
البخاري وغيره
>[14] أنه لما توفي والد
جابر بن عبد الله ، ترك على جابر ثلاثين وسقا
>[15] لرجل من
اليهود ، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه...الحديث.
فدل عدم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستقراض من المخالفين، على جواز استقراضهم، وأنه لا حرج في ذلك.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أنه إذا جر الاستقراض إلى الركون إليهم، وموالاتهم والتذلل لهم، فإن: ما أدى إلى الحرام فهو حرام ، وكذلك إذا تضمن عقد الاستقراض شرطا محرما
>[16] [ ص: 136 ] ثانيا: استئمانهم واستيداعهم
الأصل في ذلك قوله تعالى:
( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) (آل عمران: 75) .
قال
الشوكاني : معنى الآية أن أهل الكتاب منهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، ومنهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة.. ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى
>[17] قال
بدر الدين العيني عند كلامه على استئجار النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من
بني الديل هـاديا يوم الهجرة : فيه ائتمان أهل الشرك على السر والمال، إذا عهد منهم الوفاء والمروءة، كما استأمن رسول الله هـذا المشرك
>[18] وفي الآداب الشرعية: (إذا احتاج المسلم إلى ائتمان كافر، فله ذلك)
>[19] [ ص: 137 ] ثالثا: الاستعارة منهم
الاستعارة طلب الإعارة.. والعارية: ما تعطيه غيرك لينتفع به، على أن يعيده نفسه إليك. والأصل في ذلك
( ما رواه أبو داود وغيـره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعـار مـن صفـوان درعا يـوم حنين ، فقـال صفـوان: أغصبا يا محمد ؟ فقال: لا، بل عارية مضمونة ) >[20] فدلت الواقعة على جواز الاستعارة من الكفار؛ لأنها من جملة العقود، والإسلام ليس شرطا في العاقدين، ثم الأصل في المعاملات الإذن والإباحة، إلا ما دل الدليل على التحريم، ولا دليل هـنا. (ولأنه ليس فيها ولاية، ولا تسلط على المسلم، بل هـما كالبيع والشراء ونحوهما)
>[21]