ثانيا: الاجتهاد الجماعي فيما يتغير الحكم فيه لتغير حال محكومه زمانا أو مكانا
الأحكام الشرعية جاءت لمعالجة أوضاع الأمة بما يحقق مصالحها دنيا وأخرى، وهذه الأحكام تنزل على محلاتها طالما توفر في ذلك المحل أركانه وشرائطه وأسبابه، فإن تغير شيء منها نتيجة تغيرات زمنية أو مكانية، توقف إجراء ذلك الحكم لتغير محله، فإذا ما عاد لذلك المحل كامل صفاته الموجبة لإنزال الحكم، عاد الحكم وأنزل على محله.. وقد عقد
ابن القيم [ ص: 119 ] فصلا في كتابه (إعلام الموقعين) بعنوان: فصل في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد، ويقول في ذلك:
هـذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم في الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هـذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان
>[1] .
وعلى ذلك يجب أن يراعى في تنزيل الأحكام آثار الزمان والمكان والأوضاع والعادات على محل الحكم، فلربما كان لها تأثير على شيء من صفات المحل مما يجعله لم يعد صالحا لإنزال ذلك الحكم عليه
>[2] .
[ ص: 120 ]
والتغير هـنا ليس تغيرا في الحكم، وإنما هـو تغير في مناط الحكم ومثل هـذا لا يعد تغييرا ولا تبديلا إذا ما روعي في كل حادثة الظروف والملابسات التي لها صلة بالحكم، فإذا تغيرت الظروف والملابسات المحيطة بالواقعة تغيرت بذلك المسألة وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكما آخر لها
>[3] .
>[4] .
ولكن هـذا التغير في المسألة وحكمها يستدعي وجود من يلاحظ هـذا التغير ويجتهد بمقتضاه، وهو المجتهد.. والاجتهاد في هـذا النوع من المسائل
[ ص: 121 ] مهم في التشريع وفي تحقيق مصلحة الأمة، إلا أنه قد يستغل ذريعة لتعطيل أحكام الشريعة لتغير الزمان والمكان، لذلك وجب أن يكون الاجتهاد فيه جماعيا ليؤمن معه من هـوى الأفراد وخطأ تقديرهم، ولأن الاجتهاد الجماعي يكون الحكم فيه مبني على تحر دقيق ونقاش مستفيض من قبل مجموعة كبيرة من العلماء الراسخين.