ثالثا: الاجتهاد الجماعي فيما يتغير لتغير العرف
بنت الشريعة كثيرا من الأحكام على العرف
>[1] ، وجعلت الأحكام المبنية على العرف تتغير بتغير العرف زمانا ومكانا، وهذا هـو المقصود من قول الفقهاء: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان
>[2] ، يقول
الإمام شهاب الدين القرافي : إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعواض ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى، يحمل الثمن
[ ص: 122 ] في البيع على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها... وعلى هـذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد العرف فاعتبره، ومهما سقط فأسقطه
>[3] .
ومن الأمثلة على تغير الحكم لتغير عرفه، أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط، وهذه كانت غالب أقواتهم في
المدينة ، فإذا تبدلت الأقوات أعطي الصاع من الأقوات الجديدة
>[4] . ومن الأمثلة كذلك، ما ذهب إليه
أبو حنيفة من الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، فلم يشترط تزكية الشهود فيما عدا الحدود والقصاص، لغلبة الصلاح على الناس وتعاملهم بالصدق، ولكن في زمان
أبي يوسف ومحمد ، كثر الكذب فصار في الأخذ بظاهر العدالة مفسدة وضياع الحقوق، فقالا بلزوم تزكية الشهود، وقال الفقهاء عن هـذا الاختـلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان
>[5] .
ولا يعتبر تغير الأحكام المبنية على العرف نسخا للشريعة، لأن الأحكام في حقيقتهـا باقيـة، وإنما تغيـر محلهـا الذي تنزل عليـه، بحيث لم يعد متوافرا فيه شروط التطبيق، فطبق حكم آخر عليه، (ومعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو أن الحكم الأصلي باق
[ ص: 123 ] ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لتطبيقه، فالشرط في الشهود العدالة، والعدالة الظاهرة كانت كافية لتحققها، فلما كثر الكذب استلزم هـذا الشرط للتزكية
>[6] .. وفي هـذا يقول
الشاطبي : معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي، يحكم به عليها
>[7] .
ومن الأحكام المنصوص عليها في الفقه الإسلامي، ما يستند إلى عرف أو وضع كان قائما في زمن الأئمة المجتهدين أو في زمن مقلديهم من المتأخرين، ثم تغير هـذا العرف فيلزم تغير تلك الأحكام التي بنيت على العرف
>[8] .
لتغير أساسها.. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هـو أن الفهم الدقيق لأسس تلك الأحكام في كونها عرفا لا نصا، وأن ذلك العرف قد تغير، ثم استنباط حكم جديد بحسب العرف الجديد، كل هـذا لا بد له من مجتهد يقوم به.
وضمانة لعدم الخطأ في تقدير هـذه الأمور، أو التأثر فيها بالنزعات الفردية الضيقة أو الساعية إلى تعطيل أحكام الشريعة، بذريعة أنها قد تغيرت لتغير أساسها، مع أن أساسها قد يكون نصا لا يتغير، فحماية للشريعة من كل ذلك، وتجنيبا للأحكام الشرعية من الأهواء والأخطاء الفردية، ينبغي أن يكون الاجتهاد في هـذا النوع من الأحكام اجتهادا جماعيا وليس فرديا، (فالجماعة أكثر دقة من الفرد، وأكثر قربا إلى الصواب، وأقل احتمالا في الخطأ)
>[9] .
[ ص: 124 ]