ثالثا: تحليل مدى ملاءمة النظم التعليمية السائدة للقارة
إن النظام التعليمي الواقعي الناجح في تصورنا، هو ذلك النظام التعليمي الذي ينشأ من رحم البيئة ومن خلال ظروفها، ويتلهف نحو البحث عن مشاكلها وحاجاتها، رغبة في تقديم بلسم شاف لأدوائها وظروفها الاستثنائية، آخذا في الاعتبار ما للبيئة من خصائص ومداخل، بغية إحداث تغيير عملي ملموس فيها. وبناء على ذلك، فإن نجاح النظام التعليمي مرهون بمدى توافره على ملاءمة البيئة، ومواكبة ضروريات المجتمع وحاجاته.. وتتحقق الملاءمة من خلال قدرة النظام على تلبية حاجات المجتمع الأساسية، ومشاركته الفعالة في حل أزماته المختلفة عبر الوسائل والمداخل الأساسية من لغة ودين وثقافة، وغيرها من وسائل التأثير على
[ ص: 75 ] هذا المجتمع.. وأما المواكبة فإنها هـي الأخرى تتحقق في النظام من خلال تمييزه بين ضروريات المجتمع وحاجاته وتحسيناته، ومن خلال مراعاته أولويات المجتمع، وعدم خلطه بين مراتب القضايا.
وعليه فإن أي نظام تعليمي لا يتوافر على هـذه الأمور الأساسية، ولا يصدر عنها، فإنه يغدو جالبا صنوف المعاناة والمآسي إلى المجتمعات، ويصبح مسئولا مسئولية أساسية عن تخلف المجتمعات وتأخرها.
وإذا الأمر كذلك، فإن النظرة المتأملة في النظم التعليمية الوافدة تهدي المرء إلى الزعم بعدم ملاءمتها للواقع المعيش في القارة، وعدم مواكبتها لضروريات المجتمعات وحاجاتها الأساسية، ويتجلى هـذا الأمر من خلال اللغة التي تعتمدها تلك النظـم مدخـلا للتأثيـر، ومن خـلال ما أنتجته من عقول، بل من خلال حرصها على عدم ربط المتعلم بواقع القارة، وظروفها العويصة. وحري بنا تجلية هـذه الجوانب التي تؤكد عدم ملاءمة هـذه النظم للقارة:
- لغة التعليم عامل مؤكد على عدم ملاءمة النظم للقارة
يتفق علماء التربية والتعليم على كون اللغة أهم عوامل توحيد في حياة أمة أو شعب، فهي دعامة الفكر والثقافة، ومصدر تجانس وتآلف والتئام وتقارب بين الشعوب، وبها يتواصل أفراد أمة واحدة، ولهذا فإنها تلعب دورا غير منكور في تشكيل النظم التعليمية، وتحديد
[ ص: 76 ] توجهاتها وأهدافها، مما يجعلها النواة الأساس التي تنطلق منها سائر اختلافات الخطط والأهداف التعليمية بين النظم.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن أي نظام تعليمي يتم بناؤه في لغة غير لغة الأمة أو الشعب، فإنه سيظل خاضعا من حيث الأهداف والمرجعية والانتماء لأهل تلك اللغة، فاللغة في حقيقتها ليست رموزا فحسب، بل هـي ألفاظ ومعاني ذات مضامين حضارية وثقافية، وهي وعاء ثقافة الأمم وحضاراتها.. وبناء على هـذا، فإن ذاك النظام التعليمي سيغدو نظاما تعليميا وافدا، غير مواكب ولا ملائم للبيئة، وربما لعب دورا في تقسيم المجتمع إلى طبقات متفاوتة، غير قادرة على التواصل والتخاطب.
إن لغة التعليم في سائر أقطار القارة -ما عدا الدول العربية- لغة أجنبية وافدة، أحلها المستغلون غداة استيلائهم على القارة محل اللغات التي كانت توحد أفراد الممالك والإمبراطوريات التي أبادوها، وقضوا عليها قضاء مبرما. وما من شك أن وافدية وغربة لغة التعليم عن المتعلم تشكل في حد ذاتها عقبة كأداء في استيعاب المعلومات والمعارف، وذلك لأن المتعلم يصرف جزءا من سنوات عمره الدراسي سعيا وراء إجادة اللغة، بدلا من البدء بتلقي المعلومات والمعارف الأولية، كما أن ثقافة المتعلم تظل موجهة ومرشدة من قبل المعلومات والمعارف، التي يتلقاها من خلال المراجع والمؤلفات المكتوبة بتلك اللغة، الأمر الذي يجعله في نهاية المطاف شخصية اتكالية، غير قادرة على الفكاك
[ ص: 77 ] عن عقدة الشعور الدائم بالنقص والإعجاب المستمر بالناطقين بتلك اللغة، وربما هـالته الثقافة المضمنة في تلك المراجع، فعندئذ يلـوذ بتقمصهـا وابتلاعهـا، والدفـاع عنهـا حتى آخـر رمـق من نفسه.
إن غربة لغة التعليم عن واقع البيئة، كانت غاية مقصودة من قوى الاحتلال، التي تعاقبت على نهب وسرقة خيرات القارة خلال قرون عديدة، فقد أدركت تلك القوات الغازية أن الرهان على القوى العسكرية المادية وحدها رهان خاسر وزائف، وخاصة أن المعارضة العسكرية أضحت تتنامى بشكل ملحوظ في سائر أرجاء القارة، ومن الممكن لها أن تؤتي ثمارها في القريب العاجل، ولذلك فإنه لا بد من البحث عن سلاح آخر غير مادي بحت، وقد كان سلاح الاستيطان العشوائي، والتوزيع التخبطي لأقطار القارة غاية مقصودة، بحيث تغدو الحاجة ماسة إلى لغة موحدة للتركيبات السكانية الجديدة. ولقد كانت الحياة في القارة قبل الاحتلال، حياة قبلية مترابطة ومتناسقة، إذ كانت ثمة لغة موحدة للقبائل بحكم سكناها في مكان واحد، الأمر الذي كان يشكل في حد ذاته مصدر قوة، ومقدرة على التكيف والتعاون والانسجام بين أفراد القبائل المختلفة.
إن سني الاستغلال واحتلال خيرات القارة لم تخل من التفطن لاختلاق أحوال وظروف عويصة، ما كان للقارة ولا لقادة استقلالها الأوائل القدرة على إزاحتها وإزالتها إبان تسلمهم مقاليد الحكم
[ ص: 78 ] والقيادة، فالتركيبة العجيبة والتوليفة الغريبة بين سكان الأقطار التي اختلقوها في القارة، عملت على تعميق حاجة القارة إليهم، وإلى نظمهم التعليمية.
إن التوزيع الجغرافي العشوائي للقبائل الناطقة باللغة الواحدة، وتجزئة الممالك والإمبراطوريات الكبرى وتشتيتها، والاستيطان العشوائي للجماعات القبلية المختلفة جنسا ولغة ودينا في بقاع مختلفة ومتعددة، تم كل ذلك لتحقيق غاية تتمثل في الإبقاء على إمكانية تأجيج نيران الحروب الأهلية
>[1] أمرا سهلا لا يتطلب بذل كبير عناء، وقد أكد هـذا الأمر تقرير اللجنة الاقتصادية التابعة لهيئة الأمم المتحدة عام 1962م، والذي جاء فيه ما نصه: (... لا توجد مناطق أخرى
[ ص: 79 ] في العالم بهذا العدد الكبير من الدويلات الصغيرة، صغيرة من حيث الإنتاج، ومن حيث السكان)
>[2] .
وأما "رولاند أوليفر" و"جون فينج" فقد أكدا في كتابهما (تاريخ إفريقية) هـذا الأمر عندما قالا: (وقد قامت الدول الاستعمارية بتمزيق إفريقيا كتأمين لها في المستقبل، عملت بريطانيا لوحدهـا على تجزئـة ما استولت عليه من أرض إفريقية إلى أربعة عشر جزءا، وكذلك فعلت فرنسا بأن قسمت مناطق نفوذها إلى أكثر من ذلك)
>[3] . والأدهى من هـذا كله، أن هـذه التجزئة انبنت على النظرة إلى القارة كأنها خالية من السكان، وكأن لا تاريخ لها، ولا كيانات سياسية فيها، ولا علاقات تربط بين شعوبها، واقتسموا قطعا مستطيلة أو مربعة تفصل بينها حدود مستقيمة، أو بحيرة أو مجرى نهر أو سواه، فجزءوا شعوبا وشرذموا أمما.. ولما استقلت المستعمرات في نطاق حدودها الاستعمارية، نشأت فيها عدة مشاكل تحتاج إلى معالجة دقيقة للعودة إلى الأصول، وللجمع بين الشعوب الممزقة على أسس تاريخها وإثنيتها، وما إلى هـذه الإثنية من عادات وتقاليد ومعتقدات، وما فيها من ثوابت اجتماعية وعرقية)
>[4] .
[ ص: 80 ]
وعلى العموم، فـإن الوضع السكاني المفتعل والتركيبة الغريبة العجيبة أوجدا سؤالا مركزيا وعويصا غداة الاستقلال والتحرير.. تمثل ذلك السؤال المركزي حول اللغة، التي ينبغي اتخاذها لغة للتعليم والاتصال والتخاطب بعـد هـذه التوليفة العجيبـة والتركيبـة الغريبـة، وما كان ثم من جواب يحظى بقبول الجميع إلا ذلكم الجواب المتمثل في لغة المستغل، فهي اللغة التي توحد بين سائر القبائل، ومن ثم فإن ثقافته ومنهج حياته ستصبح هـي الأخرى ثقافة المتعلمين ومناهج حياتهم، سواء رغبوا في ذلك، أم عزفوا عنه.
إن التركيبة السكانية، والدمج العشوائي بين القبائل المختلفة في أغلب القارة، ظلت وستظل مصدر قلق وعدم استقرار وعامل اضطراب مستمر للقارة.. فبينما كانت التركيبات والتجمعات السكانية في القارة متميزة بالانسجام والتواصل، أمست بعد قدوم قوات الاستغلال مشتتة ومختلطة ومفككة وغير منسجمة ولا مترابطة، فثمة جماعات أقلية وافدة في قلب أغلبية أصلية حينا، أو في داخل جماعات أقليات أخر، وقد فطن المستعمرون لاستراتيجية ذكية تمثلت في التعاطف والانحياز الدائم للأقليات الوافدة
>[5] ضد الجماعات أو الأقليات
[ ص: 81 ] الأصلية، وتبنوا سياسة الاستعانة المباشرة بأفراد الأقليات المستوردة من أماكنها الأصلية، فعهدوا إليهم القيام بمهام الإدارة والقيادة، إيمانا منهم بأن تلكم الأقليات لا يمكن لها أن تفكر في خيانتهم أو الخروج على أمرهم مهما كانت الظروف والأحوال، الأمر الذي عمق بقاءهم وساعدهم على إطالة وجودهم مستغلين لخيرات القارة.
والتأكد من هـذا الزعم، لا يتطلب سوى إلقاء نظرة عجلى على مواقع أفراد ممالك وإمبراطوريات قديمة مزقها الاستعمار، وأبادها إبادة كاملة، فإمبراطورية
التوتسي في شرق القارة على سبيل المثال، كانت تشكل بمجموعها قبل مقدم قوات الاستغلال (الاستعمار) مملكة متجانسة ومترابطـة، وما أن وطئوا أراضي تلك المملكة المترامية الأطراف حتى قطعوها إربا إربا، فدفعوا بمجموعات منها إلى أقطار مجاورة، فجزء منها في بورندي، وآخر في رواندا، وثالث في يوغندا
[ ص: 82 ] ورابع في
زائير ، وهم في هـذه الأقطار كلها لا يشكلون أغلبية مطلقة بل أقلية أقلية في بعضها.
وأما مملكة مانديغو في غربي القارة، فقد كان أفرادها محكومين بقيادة واحدة، قضت عليها قوات الاستغلال، وجزؤوا أبناءها على عدد من الأقطار، فجزء منهم في
مالي ، وآخر منهم في
غينيا ، وثالث منهم في
سيراليون ، ورابع منهم في
ليبيريا ، وخامس منهم في
بوركينا فاسو ، وسادس منهم في
ساحل العاج ...إلخ. ولا يشكلون في هـذه الأقطار كلها أغلبية مطلقة.
وأما إمبراطورية (الفولاني) ، في غربي إفريقيا
>[6] ، فقد عملوا أيضا على تفتيتها، وتشتيت الجنس الفولاني، بحيث غدوا موزعين على ربوع متعددة في القارة، فجزء كبير منهم في
غينيا ، وآخر في
مالي ، وثالث في
موريتانيا ، ورابع في
السنغال ، وخامس في
النيجر ، وسادس في
بوركينا فاسو ، وسابع في
نيجيريا ، وهكذا... وهم في هـذه الأقطار كلها لا يشكلون أغلبية مطلقة، بل هـم أقليات في بعضها.
إن سياسة التعاطف والتعاون مع الأقليات المزروعة أورثت القارة قابلية مستمرة لاشتعال نيران الحروب الأهلية في أرجائها، وذلك لأن
[ ص: 83 ] تلك الأقليات المستوردة حظيت بكل أنواع المساندة المادية والمعنوية، ودربوا في أعلى مراكز التدريب والتأهيل المهني والقيادي في دول الاستعمار والاستغلال، الأمر الذي جعلهم ويجعلهم قوة متمكنة قادرة -في أكثر الأحيان- على مواجهة الأكثرية المهملة، ولعل الأحداث الأخيرة في
رواندا وبورندي وزائير خير برهان وآكد دليل على هـذا الزعم.
إن تقديم قوات الاستغلال تلك الأقليات على الأكثريات وتفضيلهم إياها على الأغلبية، سواء في مجالات العمل الاقتصادي، أو التعليمي، أو السياسي، أو الإداري، قصدت منه -كما أشرنا من قبل- الحفاظ على وجودها وبقائها، وذلك لأن تلك الأقليات المزروعة في سائر أقطار القارة ما كان لها لتحلم بمنازعتها، ولا بمطاردتها، طالما أنها تسهر وتعمل من أجل الحفاظ عليها هـي الأخرى، وتقدمها على سائر الأقليات، بل على السكان الأصليين.
وهكذا، يستطيع المرء أن يدرك الأهداف الكامنة وراء التوزيع الجغرافي العشوائي، الذي لم تراع فيه (...المقومات الأساسية للأمم من لغة، ودين، وأصل، وتاريخ مشترك، فهناك بلدان كثيرة (في القارة) تقطن كل واحد منها شعوب ذات لغات متعددة، وأديان مختلفة، وأجناس متباينة من حيث الأصل، ومن الطبيعي في مثل تلك البلدان
[ ص: 84 ] أن تشعر كل طائفة بكيان قومي مستقل عن بقية الطوائف)
>[7] فصفوة القول هـي: إن عملية التجزئة المفتعلة لم تكن في صالح الشعوب الإفريقية، وهي التي أورثت القارة تعددية تضاد في الثقافات والأحزاب والسياسات، وقد كانت تلك التعددية التضادية التناقضية عقبات وضعت -قصدا- في طريق الوحدة الإفريقية، وتحقيق أي تقديم أو تطور في القارة على جميع المستويات.
وبطبيعة الحال لا تنفرد القارة الإفريقية بهذا الوضع المأسوي للتركيبة السكانية، فالدول الآسيويـة التي طالتهـا قوات الاستغـلال لم تسلم هـي الأخرى من هـذه السياسة، فمعظم دول جنوب شرقي آسيا كانت مسرحا للاستيطان العشوائي المتعمد
>[8] .
[ ص: 85 ]
ومهما يكن من شيء، فإن لغة التعليم في القارة ستظل عامل تغريب أو تشريق للنظم التعليمية فيها، وستظل مصدرا خصبا لاستمرار القارة في تبعية النظم المستوردة، والصدور عنها في كل الأحوال، ما لم تتمكن القارة من إنتاج مصادر معارفها بلغتها المحلية، التي لا بد من أن تواكب التطور والتقدم المستمرين.
العقول التي أنتجتها النظم السائدة دليل على عـدم ملاءمتها للقارة
لئن كانت لغة التعليم السائدة في جل أقطار إفريقيا أهم واجهة تؤكد وافدية النظم التعليمية في القارة، فإن ثمة أمرا آخر قرينا يؤكد هـذه الوافدية، وهو نتاج تلك النظم التعليمية من الأفراد والجماعات، ونوعية الحياة التي تنتشر في أرجاء القارة اليوم.. فالنظم التعليمية في حد ذاتها عبارة عن مصانع تصنع أجيالا إما أن يكونوا جيدين، أو غير جيدين، وهي المسئولة أولا وآخرا عن تقدم المجتمعات وتخلفها، فالمجتمعات الراقية المستقرة التي عرفها التاريخ البشري، كان وراء رقيها وتطورها نظم تعليمية راقية مكينة متمكنة، وكذلك الحال في المجتمعات المتخلفة عبر التاريخ
>[9] [ ص: 86 ]
وبناء على ذلك، فإن نظرة متفحصة في واقع نتاج النظم التعليمية تؤكد للمرء وافديتها وغربتها، إذ أنها فشلت حتى هـذه اللحظة، عبر تلك العقول التي أنتجتها، وتقمصت مبادئها ومناهج حياتها، في إحداث أي تقدم، بله أي تطور لأية بقعة من بقاع القارة.. فعلى الرغم من مضي عقود زمنية على تطبيقها في القارة، غير أنها لم تقدر على إنتاج أجيال قادرة على انتشال القارة من حالتها الراهنة المتخلفة، ولكنها عمقت جراحها، واستنزفت خيراتها، ولم تتمكن تلك الأجيال المعدة، حسب توجيهات ومبادئ تلك النظم، من الانتقال بالمجتمعات الإفريقية، غربا وشرقا، من دركات التخلف إلى درجات التقدم والرقي والتطور.
وكل ما يمكنه قوله هـو: إن هـذه النظم عملت على إعداد أجيال تعاني ألوانا من التضارب والتناقض والتصارع في توجهاتها وخططها وتصوراتها، مما عطل الجهود، وشل الكثير منها، بدلا من مساهمتها في حل مشكلات المجتمع، ووقف عائقا أو عطل حينا من الدهر ذلك التقدم وحلول مشكلات المجتمع.. ولم تعد (هذه النظم) قادرة على
[ ص: 87 ] توفير القوى البشرية لحركة الحياة في المجتمع، وبالتالي فإنها تعاني في حد ذاتها مشكلات التخلف.. وتعمق الهوة الثقافية القائمة في القارة بين التربية والواقع.
>[10] وليس لذلك من سـر سوى أن تلك النظـم غير وثيقة الصلة بالـواقع الإفريقـي، ولا تستهـدف في حقيقـة أمرهـا تحقيق أي تقـدم للقـارة، بقـدر ما تستهدف الإبقاء على القارة متخلفة متأخرة، عبر عملائها، والمفتونين بها، وذلك لأن تقدم القارة وتطورها يؤديان إلى فقدان مصممي تلك النظم أزمة امتصاص خيرات القارة الكثيرة من أراض زراعية، ومعادن نفيسة من ماس، ونحاس، وذهب، وحديد، ومن مواردها الطبيعية الثرية المتنوعة
>[11] تجاهل النظم أولويات مجتمعات القارة وضرورياتها الأساسية، دليل على عدم ملاءمتها
لئن كان فشل النظم التعليمية المستوردة في تخريج أجيال قادرة على معالجة مشكلات القارة، والارتقاء بمستوى الحياة فيها إلى مستوى أفضل، لئن كان ذلك أمارة ساطعة على عدم ملاءمتها للقارة، فإن تجاهلها لواقع القارة، وإصرارها على عدم ربط العملية التعليمية
[ ص: 88 ] بأهداف المجتمعات الإفريقية، هـو الآخر أمارة واضحة على غربة هـذه النظم وعلى وافديتها، إذ أنها -منذ الوهلة الأولى- عملت على مصادرة النمط التعليمي الذي كان شديد الصلة والوثوق بالحياة الإفريقية، وكان شديد الارتباط بأهداف المجتمعات قبل مقدم قوى الاستغلال والاحتلال. إذ كانت برامج التدريس ومناهجه -كما يذكر بعض العلماء المؤرخين- مقيدة بمراحل معينة في حياة كل فرد، وبشكل خاص مرحلة التنشئة، وفي مراحل لاحقة من حياة المرء، حتى إذا قدمت قوى الاستغلال، واستولت على خيرات القارة، أقصت ذلك النمط التعليمي السائد، واستبدلته بنمطها التعليمي، لتحقيق أهدافها الخاصة، وطبقوا دون تفكير مناهجهم الدراسية دون إشارة إلى الأوضاع الإفريقية، لكنهم فعلوا ذلك عن عمد في أحيان عديدة للتشويش والتعمية.
>[12] ولئن كان من المتفق عليه أن التعليم هـو سبيل الفهم والإدراك، فأساس التغيير والتطوير والتقدم للأمم والأقطار، بل إذا كان العلم هـو أساس التمكن والتمكين في الأرض
>[13] ، فإن النظرة المتمعنة في النظم التعليمية السائدة في القارة تؤكد عجزها الجلي عن الإسهام حتى هـذه
[ ص: 89 ] اللحظة في إحداث أي تغيير تنموي ذي بال، فأوضاع جل أقطار القارة قبل رحيل المستعمر لا تختلف من حيث الواقع عن أوضاعها الراهنة، وإن كان ثم تغيير يمكن الإشارة إليه، فإنه -مع كل الأسف- تغيير من سيئ إلى أسوأ، فحـروب أهليـة طاحنـة في أرجـاء كثيـرة من القـارة لا تعرف انقطاعا، ومجاعات مفنية تغيب عن قطر لتظهر في قطر آخر بين الفينة والأخرى، وانقلابات دموية لا متناهية تترى، تتوالى على غربي القارة وشرقيها، وعلى شماليها وجنوبيها ووسطها، وحركات تمرد تجتاح قطرا تلو آخر.
إن الأحوال والأوضاع المعرقلة لمشاريع التنمية والتقدم، لا يجد لها المرء ذكرا في المقررات الدراسية التي يتلقاها الطلاب على مقاعد الدرس، في جميع مراحل التعليم، وتفتقر دوائر البحث العلمي والمؤسسات التربوية في أكثر أقطار القارة إلى دراسات ميدانية تجلي الأسباب الكامنة وراء انتشار هـذه الآفات والأوبئة. وأما الدراسات العلمية التي تعنى بتحليل هـذه الأوضاع تحليلا علميا دقيقا، ينطلق من واقع الحياة الاجتماعية والتركيبات السكانيـة المعقـدة، فهي الأخـرى لما تحظ باهتمام وزارات البحث العلمي والتعليم العالي في القارة، وحدث ولا حرج عن ضحالة الميزانيات والرواتب التي ترصد للبحث العلمي، وللعلماء المخلصين في خدمة دينهم ومجتمعاتهم!
[ ص: 90 ]