الفصل الأول الإعلام المعاصر وثورة الاتصال بالجماهير
أولا: الاتصال بالجماهير ومعطيات العصر
لم نعد بحاجة إلى أن نؤكد على الأهمية البالغة والمكانة الكبيرة التي يحتلها الإعلام في المجتمع المعاصر، وذلك بعد أن أصبح النشاط الاتصالي جزءا رئيسا من الحياة اليومية للأفراد والجماعات المختلفة، وشريان الحياة في المجتمع البشري، سواء في الأنظمة الديمقراطية أو الشمولية... في البيئات الزراعية أو الصناعية... في المجتمعات المتقدمة أو النامية... فلم يعد المرء يستطيع الحياة دون الاتصال مع غيره من الناس، ودون مواكبة ما يدور حوله من أحداث، سواء على الساحة المحلية أو العالمية.
وفي غياب الاتصال بين الأفراد والجماعات الإنسانية، فإن العلاقات بينها تتجمد، ومعين الحياة فيها سوف ينضب، لأن الإنسان يمارس الاتصال في حياته اليومية بصورة تلقائية، منذ أن يستيقظ من نومه في الصباح وحتى يأوي إلى فراشه في المساء.
ولو لم يسع المرء إلى وسائل الإعلام، فـإن هـذه الوسائل سوف تسعى إليه لتقدم له ما يدور حوله من أحداث، وما أفرزته الأدمغة البشرية من
[ ص: 45 ] علوم ومعارف، لا سيما بعد أن فرضت التقنيات المعاصرة وثورة المعلومات نفسها عليه، وأعطته الفاعلية والقدرة على التغيير وتكوين الاتجاهات، فأصبح إنسان اليوم أسيرا لهذه الوسائل، تحاصره في كل وقت وفي كل زمان، فلا يستطيع الفكاك منها أو الحياة بدونها، أي أن إنسان اليوم أصبح يعيش ثورة إعلامية تحاصره من مختلف الجهات، وبمختلف اللغات، ليلا ونهارا، تحاول أن ترسم له طريقا جديدا لحياته، وأسلوبا معاصرا لنشاطه وعلاقاته.
وتتضاعف مكانة الإعلام المعاصر بعد أن حملت لنا الاكتشافات الحديثة والبحوث المعاصرة معطيات تقنية، ووسائل إلكترونية، وإمكانات إعلامية، لم تتح للأجيال التي سبقتنا، وهـذه الفنـون والأساليب الحديثـة إذا أحسن توظيفها، فإنها سوف تسهم في تحقيق الرفاهية للبشرية جمعاء.
فالوسائل السمعية والبصرية والأقمار الصناعية وأجهزة الاتصال الإلكترونية الحديثة يسرت ذلك، ومكنت للتدفق الإعلامي من أن ينساب بتلقائية ويسر إلى أي مكان في العالم، حتى إن ما يدور في أقصى الشرق أصبح يسمعه ويراه القاطنون في أقصى الغرب في اللحظة نفسها.
كما أن التقدم العلمي الكبير الذي تم إحرازه في تقنيات العمل الصحفي والإذاعي (المسموع والمرئي ) ، مكن النشاط الإعلامي من أن يشد إليه الجمهور، ويغريه بما يقدمه من أعمال درامية، وقوالب حوارية،
[ ص: 46 ] وفنون إخبارية وثقافية، مما استلفت انتباه الإنسان وشد اهتمامه بطرق الجذب وأساليب الاستمالة وفنون الإقناع المختلفة، وقد أضافت القنوات الفضائية وأقمار الاتصالات وثورة المعلومات بعدا جديدا للنشاط الإعلامي، وأحاطت الإنسان من كل جانب بالعديد من روافد الفكر ومصادر المعرفة.
وفي الحقيقة أن وسائل الاتصال الجماهيري قد حققت قوة جذب وإبهار، أصبح معها من الصعب التمييز بين تأثير الوسيلة وتأثير الرسالة، كما يؤكد مارشال ماكلوهان في كتابه الشهير:
( TheMedium is theMessage)
>[1] ومن ثم فقد أصبح لوسائل الإعلام قوة تأثير كبيرة في العصر الحديث، وأصبح الإنسان في كل يوم وفي كل مكان، سواء في العمل أو في المنزل أو في الشارع، يعتمد عليها كمصادر رئيسة للحصول على المعلومات، حتى إنه يصعب تصور العالم الآن في غيبة هـذه الوسائل التي تمد الناس بسيل لا ينقطع من المعلومات والصور والأفكار، فحققت للإنسان ميزة لم تكن موجودة من قبل، حين جعلته يستطيع متابعة الأحداث والقضايا العصـرية والاستكشافـات العلميـة أثنـاء حدوثها، كما مكنت ثورة الاتصال المعاصرة الوسائل الإعلامية من الوصول إلى
[ ص: 47 ] ملايين الناس في اللحظة الواحدة، وأصبح الخبر يطوف المعمورة كلها في الوقت نفسه، حتى تحول العالم إلى قرية إلكترونية، وغدت الدنيا كلها في متناول بصر الإنسان وسمعه، ولم يعد الإعلام يقتصر على فئة معينة أو ينحو إلى تقديم معلومات خاصة، ولكنه أصبح قادرا على التوجه إلى الإنسان أيا كان وحيث يكون.
ولم يعد الحديث عن وجود مردود لهذه الوسائل على الفرد والمجتمع موضع جدل أو نقاش، ولكن الجدل والنقاش يدور حول كمية هـذا التأثير ونوعه، وهل هـو التأثير إلى الأحسن أو إلى الأسوأ.
>[2] قال أحد الأطباء الأمريكيين في جامعة (كولومبيا ) : (إنه إذا صح أن السجن هـو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هـو المدرسة الإعدادية لانحراف الشباب ) ، وهذا يعني أن كثيرا من المجرمين تعلموا الجريمة من التلفزيون.. فقد أظهرت بعض الدراسات العلمية الجادة في أسبانيا، أن 39% من الشباب المنحرفين تلقوا معلوماتهم التي استمدوها في تنفيذ جرائمهم من التلفزيون، وقد تطابقت نتائج هـذه الدراسة مع النتائج التي أسفرت عنها الدراسات التي أجريت في العديد من بلدان العالم، التي كشفت أن غياب البديل السليم هـو أهم العوامل المؤثرة في اندفاع الشباب نحو أفلام الجنس والجريمة ونحو ذلك.. فالشباب لا يبحث عن البرامج التافهة والخليعة إلا حينما يفقد البديل الصحيح، ومن ثم فإنه إذا تعود الصبية
[ ص: 48 ] والشباب على هـذه النوعية السيئة من البرامج، يصبح من الصعب بعد ذلك تحويلهم عنها، بعد أن ظهر حديثا ما يمكن تسميته بالإدمان التلفزيوني، وقد بدأ المجتمع العربي المسلم يتحول نحو هـذا الإدمان إن صح التعبير
>[3] ويكفي أن نشير إلى دراسة أجرتها اليونسكو مؤخرا حول معدلات التعرض للتلفزيون لدى الأطفال والصبية العرب، تبين منها أن الطالب قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره يقضي أمام التلفزيون اثنتين وعشرين ألف ساعة، في حين أنه في هـذه المرحلة من العمر يقضي أربعة عشر ألف ساعة في قاعات الدرس.
وفي الوقت الذي كشفت فيه البحوث والدراسات العلمية المختلفة عن أن هـذه الوسائل أصبحت من أقوى أسلحة العصر، وتتفوق على كل روافد الفكر ومصادر المعرفة، فإننا نسمع عن أصوات تهاجمها، وتطالب بعدم التعامل معها بسبب ما تحمله من سلبيات.. وفي الحقيقة، أن هـذا يعد نوعا من العجز وسوء الفهم والجهل بمعطيات العصر الذي نعيش فيه، لأن كونها تحمل شرا أو خيرا، فهذا أمر تحكمه السياسات والخطط الإعلامية.
ومن ثم فلا ينبغي أن ننفق الوقت في الهجوم عليها وتوجيه اللعنات لها، ولكن علينا أن نشحذ الهمم ونضع الخطط لاستثمار إيجابياتها
[ ص: 49 ] ومحاصرة سلبياتها، لأنه أصبح من المستحيل تجاهلها.
وتلعب التكنولوجيا المعاصرة في وسائل الاتصال ونظم المعلومات، دورا كبيرا في إحداث تغييرات جوهرية على حاضرنا ومستقبلنا، أردنا ذلك أو لم نرد، وسوف تترك هـذه التغييرات آثارا بارزة على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمختلف المجتمعات، وتؤدي إلى خلق قنوات وطنية وعالمية لتبادل المعلومات ونقلها، من خلال توظيف أحدث الأجهزة الإلكترونية والمغناطيسية