ثانيا: التنسيق والتكامل بين مختلف الوسائل
تؤكد الأبحاث الإعلامية أن لكل واحدة من وسائل الاتصال مقدرة خاصة على الإقناع، تزيد أو تقل عن غيرها من الوسائل الأخرى، بحسب الظروف والملابسات التي تحكم نشاط كل واحدة من هـذه الوسائل، أي أن القدرات الإقناعية لمختلف الوسائل تختلف بشكل واضح من وسيلة إلى أخرى، وفقا للموضوع الذي تعالجه، والجمهور الذي تتوجه إليه، والبيئة الاجتماعية والثقافية، إلا أن الجمع بين أكثر من وسيلة يحقق تأثيرا فاعلا، ويضاعف عدد المزايا، ويمكن عملية الاتصال من تحقيق أهدافها
>[1] ، لا سيما أن كل واحدة من هـذه الوسائل تتميز بقدرات خاصة وسمات تميزها عن غيرها.
[ ص: 50 ]
وهذا يعني أن نجاح عملية الاتصال يتوقف على حسن اختيار الوسيلة المناسبة في الوقت المناسب والظرف الاتصالي المناسب.. فالراديو وسيلة اتصال عالمية يستطيع تقديم الخدمة الإخبارية السريعة، ومخاطبة كل الفئات والطوائف مهما اختلفت درجات تعليمها أو مستوياتها الثقافية، كما أنه أقدر على التوجه إلى الناس في أي وقت وفي أي مكان، إضافة إلى تفوقه في خدمة جمهور نشط يؤدي عملا يدويا في نفس الوقت. ويتميز الراديو بقدرته على جذب المستمع والاستحواذ على اهتمامه، من خلال المؤثرات الصوتية والموسيقى والحوار، إضافة إلى قدرته على تحقيق المشاركة الجماعية في الاستماع لبرامجه
>[2] أما التلفزيون فهو إذ يجمع بين الصوت والصورة والحركة واللون، فإنه يستطيع أن يسيطر على حاستين من أهم حواس الإنسان، وأشدها اتصالا بما يجري في نفسه من أفكار ومشاعر، وهما حاستا السمع والبصر، وهو إذ ينقل إلى المشاهد الأحداث الجارية بكل ما فيها من معان وانفعالات، فإنه يربط بينه وبينها، وهو إذ يقدم للمشاهدين معلومات جديدة سواء في محيطهم أو خارج هـذا المحيط، فإنه يوسع نظرتهم للحياة بأسلوب سهل وبطريقة مشوقة، وهو إذ يعرض القضايا الاجتماعية القائمة في المجتمع، فإنه يثير الوعي والإحساس بهذه القضايا، ويوجد
[ ص: 51 ] دافعا وحماسا ورغبة في حلها. وتدل الأبحاث العلمية على أن تأثير التلفزيون في حالة توافره، يفوق تأثير وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى
>[3] والصحافة تمكن المتلقي من قراءتها وقت ما يشاء وفي أي وضع يريد، وتسمح بحرية أكبر في التخيل والتحليل والتفسير، كما أنها أقدر على مخاطبة الجماهير النوعية، من خلال الإصدارات المتخصصة التي تتوجه إلى مختلف الفئات والأعمار.
والسينما تمتلك قوة استهواء مباشرة للجماهير، وغني عن البيان أن عادات الممثلين على الشاشة سرعان ما تنتشر بين الصبية والمراهقين وغيرهم من شديدي الحساسية للاستهواء، وقد أثبتت البحوث العلمية أن السينمـا أقـدر على تغييـر المعلومـات في حالـة توافرها، وإن كانت لا تستطيع تغيير الآراء والأفكار.
وقد أضافت القنوات الفضائية بعدا آخر في حقل الاتصال الجماهيري، وذلك من خلال الشبكات الدولية التي تتميز بسعة الانتشار، والقدرة على الجذب، والسرعة في توصيل الرسالة، لتسهم بدورها في تحقيق عالمية المعرفة، وإلغاء عنصري الزمان والمكان.
وتشكل الأقمار الصناعية الثورة الخامسة في عالم الاتصال الإنساني بعد الثورة الأولى التي تمثلت في اكتشاف الكلمة المنطوقة، والثانية التي
[ ص: 52 ] بدأت باختراع الكتابة، والثالثة التي تلت اختراع الطباعة، والرابعة التي نتجت عن اكتشاف وتطور الإلكترونات، والتي ولدت معها الهاتف والبرق والراديو، والتي أعقبها نقل الصور بخطوط المواصلات السلكية، وبعد ذلك تحركت الصورة على شاشة السينما ثم صاحبها الصوت، وجـاء (التلفزيون ) بعدئذ وعـرض صـورا متحركـة ناطقـة للأحـداث في وقت وقوعها
>[4] لقد أصبحت وسائل الإعلام في المجتمع المعاصر تؤدي وظائف على درجة كبيرة من الأهمية، كتزويد أفراده بالأخبار والمعلومات، وتقديم التحليل والتفسير لهذه المعلومات، كما تقوم بمهمة التعليم والإعلان والعلاقات العامة والترفيه.. وهذا التفاعل بين هـذه الوسائل والمجتمع يسهم إسهاما فعالا في تطوير هـذا المجتمع، ويبشر بميلاد الدولة العصرية، أي أن هـذه الوسائل تستطيع تقديم أفضل الخدمات، الأمر الذي ييسر للجماهير أحسن فرص التعليم والمعرفة، وتساعد على نشر المعلومات العلمية والحياتية لمسافات بعيدة، ولمجموعات كبيرة من الناس، وتقدم خبرات وتجارب واسعة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بأية طريقة أخرى، كما تساعد على تقديم المعلومات والتجارب بصورة فردية، وتؤدي إلى الإحساس بالألفة بين المادة المعروضة والجمهور الذي يتلقى عنها، وذلك
[ ص: 53 ] بما يتوافر لها من إمكانات فنية تساعدها على التعبير الصحيح عن المضمون الفكري الذي تتناوله
>[5] المهم هـنا هـو كيفية استثمار معطيات هـذه الوسائل، وتلافي السلبيات التي تنجم عنها والتي قد تضعف من إيجابيتها، لتتحمل مسئولياتها في الإعلام والتعليم والتثقيف والتسويق والترويح والترفيه النظيف، وذلك انطلاقا من المكانة الكبيرة التي تحتلها وسائل الإعلام كواحدة من أهم روافد تشكيل الفكر وبناء الرأي العام وتحديث أنماط الحياة في المجتمع المعاصر.
والإعلام بهذا يصبح المظلة التي تتحمل مسؤولية تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي، بعد أن تحول إلى أداة مسؤولة يجب أن تعمل بوعي من أجل التنمية والعدل والتثقيف، وحل الصراعات الاجتماعية، بأسلوب حضاري، وتربية المجتمع على الإيمان، وإعلاء القيم الدينية. وواجبنا الآن أن ننبه إلى أهمية هـذا الدور، وضرورة الإسراع في وضع الخطط المدروسة لإنتاج البرامج التي تجذب الأجيال الجديدة، وتوجههم التوجيه السليم، ولا تحرمهم -في الوقت نفسه- من الاستمتاع بالفنون الراقية فيه، وذلك من خـلال تقديم كل جديـد يقـوم على التنـوع ويتسـم بالمصداقية.
[ ص: 54 ]
وتأسيسا على ذلك، فإننا نستطيع أن نؤكد أن مؤسسات الاتصال الجماهيري الحديثة -كالراديو والتلفزيون والسينما- تستطيع الاضطلاع بأدق المهام وأخطر الأدوار، لما تتمتع به من التنوع والتعدد وسعة الانتشار، والقدرة على الوصول إلى الجمهور في أي وقت، وفي أي وضع وفي أي مكان، بعد أن أصبحت هـذه المؤسسات تؤدي دورا رئيسا في نشر الأفكار العصرية، وإشاعة المعلومات الحديثة المتصلة بنهضة الأمة وميلاد الشخصية الجديدة.
إلا أن الأبحاث العلمية قد أسفرت عن أنه كلما ازداد الطابع الشخصي للوسيلة، ازدادت قدرتها على التأثير، ويرجع ذلك إلى أن الاتصال المواجهي أكثر قدرة على الإقناع من الراديو والتلفزيون والصحف وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري التي تفتقر إلى علاقة التفاعل بين القائم بالاتصال والمتلقي، إضافة إلى أن الرسالة قد تصل عبر وسائل الاتصال الجماهيري مشوهة ومغلوطة، كما أنها قد تسهم في دعم الاتجاهات السلبية، لأنها تعمل من خلال مؤثرات وسيطة خارجة عن ظروف الاتصال.
أي أن وسائل الاتصال الجماهيري لا تستطيع أن تغني عن الاتصال المواجهي في الإقناع والتأثير، لأن هـذه الوسائل وإن كانت تتميز بالسرعة الفائقة في نقل الخبر أو المعلومة، وفي نشرها على أكبر عدد ممكن من
[ ص: 55 ] الناس، إلا أن مرحلة الإقناع تتطلب المواجهة المباشرة مع الجمهور، وتؤدي دورا فاعلا في عرض الحجج المنطقية والبراهين العقلية.
وتتميز وسائل الاتصال المواجهي بانخفاض تكلفتها، إذ أن اللقاءات الجمعية، والندوات الدينية، وإلقاء الخطب والمحاضرات لا تكاد تتكلف شيئا سوى إعداد المكان وتوجيه الدعوات، في حين أن تكاليف إنتاج برنامج تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو صحيفة متخصصة يتطلب الكثير من النفقات.
ومن ثم فإن وسائل الاتصال المواجهي Face to face communication تتبوأ مكانة مميزة في الخطط الإعلامية، فلا يكفي أن يستمع الناس إلى الحقائق والمعلومات عبر الإذاعة، أو يشاهدوها على الشاشة الصغيرة أو الكبيرة، أو يقرؤوا ما تنشره الصحف عنها.
وهذا يعني أنه لا بد من التنسيق بين الوسائل المباشرة وغير المباشرة، لتحقيق الغايات المستهدفة، بل يجب أن تتناغم وتتوافق جميعها لكي تؤدي كل واحدة منها المسئولية المنوطة بها في المرحلـة التي تناسبهـا، فلا يمكن الاستغناء بالوسائل الإلكترونية الحديثة عن الوسائل التقليدية القديمة، فلكل منها دور محدد، ومجال معين، ووقت معلوم، فإذا كان الاتصال المواجهي أكثر قدرة على الاستمالة والإقناع، فإن الاتصال الجماهيري أكثر قدرة على التبليغ والانتشار.
[ ص: 56 ]