إشكاليات العمل الإعلامي (بين الثوابت والمعطيات العصرية)

الأستاذ الدكتور / محي الدين عبد الحليم

صفحة جزء
ثانيا: المرجعية الفكرية للنشاط الإعلامي

لا يكاد يوجد عمل فكري أو أيديولوجي يؤدي دوره دون أن ينطلق من إطار عقدي، أو رؤية مذهبية، ولعل هـذا هـو ما يميز هـذا اللون من النشاط عن غيره من الأنشطة الإنسانية الأخرى.. كما أنه لا يكاد يوجد مجتمع من المجتمعات البشرية، إلا وقام بناؤه الاجتماعي على معتقدات دينية خاصة، وهذه المعتقدات هـي التي توحد أفراد هـذا المجتمع في مختلف مناحي حياتهم، وتنظم أمورهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، وذلك من خلال المعايير التي يتم بها الحكم على مختلف الأمور >[1] فإذا استعرضنا العمل العسكري -على سبيل المثال- فسنجد أن العقيدة القتالية للجندي المحارب هـي التي تدفعه إلى مواجهة العدو، أي أنه لا بد من عقيدة تقف وراء هـذا العمل، وتستقي هـذه العقيدة أصولها من مصـادر دينيـة أو مذهبية، وينطبق هـذا على كل ألوان النشاط البشري.

ومن ثم فإن المرجعية العقدية هـي التي تسهم بصورة مؤثرة في تشكيل اتجاهات الجماهير وتكوين آرائهم وتحديد نظرتهم لمختلف الأمور التي تكتنف حياتهم، وتحدد لهم دروب الحياة بأشكالها المختلفة ومكوناتها المتعددة.. والعقيدة بهذا، تعد الوقود الذي يرفد العقل الإنساني، وهي الزاد الفكري الذي يصوغ الأهداف ويحـدد الخطـوات، وما أكثر العقائد التي تسود العالم وتهيمن على فكر الناس وسلوكهم، [ ص: 88 ] وتحكم حركة الحياة. وقد شاهدنا ذلك عن كثب، حتى في الدول التي حققت أعلى درجات التقدم في مجال العلوم والفنون، على الرغم من المساحة الكبيرة من الحرية التي تسودها، فالكاثوليك والأرثوذكس مثلا يتعصب كل منهم لمذهبه، والبوذيون متحمسون لبوذيتهم، وكذلك الهندوس واليهود والبروتستانت وغيرهم، وهذا يفسر أسباب الصراع الدائر الآن في الهند، والبلقان، والقوقاز، والفلبين، وروسيا، وفلسطين، وأيرلندا، وهي خلافات تصل إلى درجة المواجهة والقتال وسفك الدماء.

ولعل أخطر الأنشطة المعاصرة التي تبرز على الساحة الدولية الآن، ويحكمها معيار العقيدة، هـو النشاط الإعلامي، فلا يكاد يوجد إعلام متجرد وموضوعي بالمعنى المقصود من هـذه الكلمة، فكل الشواهد العلمية والتجارب العملية تؤكد أن الإعلام لا يعمل إلا ضمن إطار مرجعي يحكم نشاطه ويحدد غاياته، فالإعلام الصهيوني محكوم بعقيدة آل صهيون، فهي الإطار المرجعي له، وعليها تقوم مخططاتهم، ومن خلالها تنطلق أبواق دعايتهم، وبها استطاعوا السيطرة على الكثير من أجهزة الاتصال الدولية، ومن خلالها بسطوا نفوذهم واستقطبوا الجماعات الضاغطة، وسيطروا على صناع القرار في الدول الكبرى التي تبنت وجهات نظرهم، فأصبحـوا لا يـرون إلا ما تراه إسرائيل، ولا يحكمون إلا بمنظورها، وقد استفادوا في ذلك من التقنيات العصرية، وسخروا أجهزة الإعلام الدولية لخدمة أهدافهم وتحقيق أغراضهم وكسب الرأي العام العالمي في صفهم. [ ص: 89 ]

كما بذل المبشرون جهودا إعلامية ضخمة في تنصير العديد من أصحاب المذاهب والأديان الأخرى، ونجحوا في تنصير الملايين في إفريقيا وآسيا، وكانت جهودهم تهدف إلى نشر العقيدة التي يؤمنون بها. وحدد الماركسيون إطارا مرجعيا لنشاطهم الاتصالي، منذ قيام الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي السابق، مستهدفين من وراء ذلك ترسيخ أفكار كارل ماركس، بغض النظر عن فساد أو صلاح هـذا الفكر، إلا أنهم وضعوا لأنفسهم استراتيجية ثابتة، التزمت بها خططهم حتى سقط هـذا النظام، وتهاوى هـذا البنيان، وراحت وسائلهم الدعائية تعيش في حالة من التيه والضياع بسبب انهيار المرجعية العقدية التي انطلقت منها. وهكذا نرى أن العمل الإعلامي لابد أن تحكمه مرجعية فكرية، تحدد له رؤاه الفكرية، وتمده بالزاد الروحي والقوى المعنوية اللازمة، لكي ينجح في إقناع الجمهور واستمالته أو تحييده، ومن ثم فإن الحفاظ على الهوية العقدية هـو التحدي الأكبر الذي يضع صلابة الإرادة موضع الاختبار، وهي القيمة المقدسة التي تشتمل على دستور هـذه الأمة وتراثها وثوابتها الراسخة الضاربة في أعماق الإنسان المسلم، لأنها هـي الحقيقة التي تميزها عن غيرها من الأمم. وتكمن المرجعية الإسلامية في الاستمساك بما أنزل الله، لأن الجمهور المسلم يؤمن بأن الله عز وجل قد تكفل لمن خلصت عقيدته وصلح فكره بالسعاده في الدنيا والآخرة، وتوعد من أعرض عنه وفسدت عقيدته بالشقاوة في الدارين.. كما يدرك الجمهور المسلم أيضا أن عقيدته هـي [ ص: 90 ] العقيدة الحق التي حفظها الله عز وجل في كل العصور وكافة مراحل التاريـخ، وفي ذلك يقـول الله عـز وجـل: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) .

الحقيقة، أنه لن يتحقق أي إنجاز أو نصر للمسلمين إلا إذا استلهمت أجهزة الحكم وقنوات الفكر ووسائل الإعلام روح الشريعة، وطبقت أوامر الحق، ويرجع ذلك إلى أن الجمهور المسلم يؤمن بأن العقيدة الدينية هـي التي تستطيـع أن تحقـق له الإشبـاع الروحـي والعقلـي والبـدني، وهـو ما لا تستطيع أن تحققه أي من العقائد أو المذاهب الأخرى، لا سيما بعد أن أخفقت كافة الأيديولوجيات الأخرى في إسعاد الإنسان، أو تحقيق الحد الأدنى من الراحة النفسية والسلام الاجتماعي له.

وتختلف العقيدة الإسلامية عن غيرها من العقائد في أن غالبية العقائد الأخرى تترك علامات استفهام حائرة في نفوس أهلها، ولم تستطع أن تحل مشكلاتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، ففقدت هـذه العقائد مصداقيتها، ووجد أصحابها أنفسهم يعيشون في حالات من التيه والضياع، فغرقوا في ملذاتهم، وانساقـوا وراء غرائزهم، وعاشـوا كما تحيا الأنعام الضالة، ومنهم من أقدم على الهروب من واقعهم، أو الخلاص من حياتهم، فارتفعت معدلات الانتحار بينهم، كما زادت نسبة الجريمة في مجتمعاتهم.. وتكشف التقارير الإحصائية الصادرة عن المنظمات الإقليمية والدولية عن أرقام مذهلة لجرائم القتل والانتحار والسرقات، [ ص: 91 ] إضافة إلى جرائم الاغتصاب التي وصلت إلى أعلى معدلاتها، ليس فقط بين الغرباء، ولكنها تعدت ذلك إلى ذوي الأرحام.

وهنا يجد الحيارى من الباحثين والخبراء الرد على تساؤلاتهم حول سبب تمسك المسلمين بعقيدتهم -على الرغم من الفقر والمرض والجوع والأمية المنتشرة بينهم- ولماذا يرون أن الدين يشكل منعطفا أساسيا في حياتهم، ويسيطر على أفكارهم وسلوكياتهم ا ومن الأمثلة البارزة لذلك، تمسك أهل البوسنة والشيشان وكشمير بعقيدتهم، على الرغم من تعرضهم لكل ألوان القمع والإرهاب ومحاولات الاستمالة والإغراء.. حتى إن كثيرا من ساسة الغرب وعلمائهم نصحوا حكوماتهم بالتعامل مع الظاهرة الإسلامية بصورة واقعية، وعدم إهدار الوقت والجهد والمال لتحويل المسلمين إلى غير عقيدتهم، بعدما فشلت كل محاولات احتوائهم وإغرائهم من خلال وسائل التبشيـر والتنصيـر والتكفيـر المزودة بالأساليب الفنية والتقنيات المتقدمة والكوادر المدعومة بأفضل الإمكانات.

ويؤكد التاريخ الإسلامي هـذه الحقيقة منذ انبعاث نور الدعوة الإسلامية حتى الآن، فلم تفلح الحملات العسكرية، والمغامرات التي خاضها تجار السياسة وهواة الحكم والتسلط، ومحاولات الاحتواء والالتفاف، التي قادها زعماء مستبدون وحكام مستهترون، وحملات الغزو الصليبية والشيوعية، في إثناء المسلمين عن الارتباط بشريعتهم، والعمل وفق أحكامها، فلن يقبل المؤمنون دعوة لتناول لحم الخنزير أو شرب الخمر، أو إقامة العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، أو ممارسة الشذوذ الجنسي، وغير [ ص: 92 ] ذلك من القوانين التي أباحتها البرلمانات الغربية، وتروج لها أجهزة الإعلام هـناك، فهذه الدعوات لن تنال الرضا أو القبول، لرفض المجتمع المسلم لها، وكراهيته للذين يدعون إليها، وهذا يشير إلى قوة تأثير العقيـدة باعتبارها العامل الأساس في تشكيل الاتجاهات وبناء العقول.

والمتتبع لأحوال معظم الشعوب الإسلامية، يجدها تتطلع إلى اليوم الذي تجد فيه إعلامها واقتصادها وثقافتها تنطلق من هـذا الإطار المرجعي.. والمتتبع لحركة الجماهير المسلمة على مدى التاريخ، سيخرج حتما بهذه النتيجة، لأن دماء المسلم مخلوطة بهذا الدين، لا يمكن تخليصها منه إلا بتجفيف مصدر هـذا الدم ووقف معينه، وكل من يحاول فرض أفكار أو أيديولوجيات أو مذاهب أخرى على العقل المسلم سيجد نفسه منبوذا حتى وإن حكم وسيطر حقبة طويلة من أحقاب التاريخ، لأن هـذا التاريخ لن يرحمه.

إن الإنسان المسلم يعيش بمعتقداته الراسخة دينيا، ولا يمكن أن يقبل أية دعوة مخالفة لها، حتى هـؤلاء الذين قدر لهم ترك بلادهم والعيش في المهجر، ظل وجدانهم وشعورهم وفكرهم مرتبطا بهذا الدين، بل إن منهم من هـو أكثر حرصا على الالتزام بالمنهج الإسلامي في حياتهم من إخوانهم الذين يعيشون في ديار الإسلام.

وفي ضوء هـذا يصبح على المؤسسات الإعلامية أن تتدارك هـذه الحقيقة وتتعامل مع هـذا الواقع، إذا أرادت أن تحقق أهدافها وتوسع دائرة [ ص: 93 ] انتشارها، بدلا من التمسح في مذاهب وأفكار يرفضها الرأي العام المسلم مهما لمع بريقها.

ومن ثم فإن العمل الإعلامي الذي لا تحكمه عقيدة واضحة، لن يكتب له النجاح في مجتمع مسلم مرتبط بأصوله، متمسك بشريعته، وقد فشلت كل الخطط التي حاولت أن تقفز على هـذا الواقع أو تتجاوزه، وسقطت معها كافة الأقنعة التي كانت تعمل على استفزاز مشاعر المسلمين أو احتوائها أو تحويلها.

كما أنه يصبح على صناع القرار في العالم الإسلامي التعامل مع هـذه الحقيقة، لأن جهودهم وإنجازاتهم لن يتحقق لها القبول إلا إذا تجاوب معها المتلقون، وسوف تذهب صيحاتهم ونداءاتهم مكاء وتصدية بدون مشاركة جماهيرية فعالة، لأن أي نشاط إعلامي ينسجم مع روح الشريعة وينصاع لأوامر الله وشريعته، ستنجذب إليه هـذه الجماهير بالفطرة، وتلتحم مع صاحبه، مقبلة غير مدبرة، راضية غير كارهة، مؤيدة ومتعاطفة غير رافضة.

فهل آن الأوان للرجوع إلى الحق والتعامل مع الواقع، وربط النشاط الإعلامي في ديار الإسلام بالمرجعية العقدية لهذه الأمة، بعدما تبين أن كثيرا من أجهزة الإعلام لا تلتزم بالأصول، ولا تحافظ على الثوابت، أو تحترم مشاعر الجماهير ا

إن المؤسسة الإعلامية في ديار المسلمين ليست مشروعا تجاريا، أو [ ص: 94 ] مؤسسة صناعية تسد الاحتياجات البيولوجية الأساسية للإنسان، إنها تسمو به إلى غايات أنبل، وأهداف أسمى.. ولا بأس من التنوع في الأساليب، والتعدد في القوالب، شريطة أن يحكمها إطار فكري واضح، لأنه في غيبة هـذا الإطار فإن أجهزة الإعلام يمكن أن تتحول إلى معاول للهدم، بدلا من أن تكون أدوات للبناء.

ومن الجهود الطيبة التي بذلت في هـذا الصدد، تلك التي أنجزتها منظمة الإيسسكو، من خلال المؤتمر الذي عقدته في الدوحة عام 1994م، حول دور الإعلام في الحفاظ على هـوية الطفل المسلم، والتي تم فيها صياغة إطار فكري للنشاط الإعلامي الموجه لأطفالنا، يقوم على أسس تستلهـم أصولهـا من القـرآن الكـريم وسنـة الرسـول صلى الله عليه وسلم، والتـراث الإسلامي، بهدف تنشئة أطفال محصنين ضد أية محاولات تستهدف عقيدتهم >[2] لعلنا نستفيد من تجارب الماضي وحقائق التاريخ، فقد جربت بعض الأنظمة السياسية في عالمنا الإسلامي النهج الاشتراكي تارة، والنظام الاستبدادي تارة أخرى، كما جرب بعضها الآخر النظام الليبرالي تارة ثالثة، ولم يسفر هـذا أو ذاك إلا عن ضياع وقت الشعوب، وإهدار طاقاتها، والقضاء على ثرواتها.

كما تشهد حقائق التاريخ أنه في الوقت الذي كان المسلمون يلتزمـون فيه بمنهـج الحـق كان النجـاح رفيقهـم، والنصر حليفهـم، [ ص: 95 ] ولن أضرب أمثلة للإنجازات والانتصارات التي حققها المسلمون في الصدر الأول للإسلام، وهي كثيرة ومتنوعة وشاهد صدق على قوة تأثير العقيدة في حياة الشعوب الإسلامية، وتوجد العديد من النماذج التي تؤكد صحة هـذه الحقيقة، فلم ينتصر صلاح الدين في حطين، والظاهر بيبرس في عين جالوت، إلا بدعم إيمـاني، ولم يتحقـق نصـر أكتوبـر 1973م إلا تحت مظلة (الله أكبر ) .

فهل يتعامل القائمون على أجهزة الإعلام في العالم العربي والإسلامي مع هـذه الحقيقة، ويدرجون ضمن مواثيق الشرف ودساتير العمل بها ضرورة الالتزام بالمرجعية الإسلامية في فنون القول والنشر ا

وما هـي هـذه المرجعية التي تستند إليها وسائل الإعلام في العالم الإسلامي ا وأين هـي مما يدور على الساحة الدولية من أحداث وحملات منظمة لتشويه العقيدة وبتر الحقيقة ا

والإجابة عن هـذه الأسئلة لا تحتاج إلى إعمال للفكر وإجهاد للذهن، لأن الغالبية العظمى من أجهزة الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي تدور في دائرة مفرغة، وتعمل في إطار رؤى إقليمية، وتخدم أشخاصا مكنتهم الظروف من السيطرة أو النفوذ أو الثراء.

ولن أبتعد كثيرا عن الحقيقة إذا قلت: إن المرجعية الإسلامية تكاد تكون غائبة إلى حد كبير في الممارسات الإعلامية في العالم الإسلامي، إلا من عدد محدود من الصحف الإسلامية والإذاعات الدينية المحدودة الانتشار، الفقيرة في التوزيع. [ ص: 96 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية