عاشرا: إشكالية النفاق في النشاط الإعلامي
المنافقون فئة فقدت الضمير الإنساني، والحس الوطني، والدافع الديني، وإذا استعرضنا أحوال العالم الإسلامي عبر التاريخ فلن نجهد العقول كثيرا لاستشكاف هـؤلاء الذين يصفقون للظلم كما يصفقون للعدل، ويهتفون للهزائم كما يهتفون للانتصارات، ويباركون الباطل كما يباركون الحق.
إنهم يتحالفون مع أعداء الله كما يتحالفون مع أولياء الله، لقضاء مصالحهم، والحفاظ على مكاسبهم، ويصورن الهزيمة نصرا، والفسق فنا، والخراب بناء، وهم يلاحقون الحكام والرؤساء ليلا ونهارا، ويتظاهرون لهم بالمودة، فينام الزعيم على دقات طبولهم، ويستيقظ على أصوات هـتافهم.. يحكمون الحصار حولهم، ويقطعون قنوات الاتصال بينهم وبين شعوبهم، فلا يسمعون إلا لهم، ولا يعرفون إلا منهم، فيعيش الزعماء بمعزل عن شعوبهم، لا تقدم لهم إلا الصور الوردية، والواقع المغلوط، والوجه الآخر للحقيقة.
وهذا الصنف من الناس، يتلون كالحرباء، في قلوبهم السم، وعلى ألسنتهم العسل، يقوم منهجهم على خداع كل من يتعامل معهم، حتى إنهم يظنون أنهم قادرون على خداع الله سبحانه وتعالى:
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا *
مذبذبين بين ذلك لا إلى هـؤلاء ولا إلى هـؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) (النساء: 142-143) .
[ ص: 137 ]
ومن أبرز علاماتهم الرياء، والرياء ينطوي على الخداع، وهو نوع من الشرك الخفي، لأنه ادعاء كاذب، حيث يزعم المرائي أقوالا أو أفعالا مخالفة للحقيقة، ليغري الناس ويستهويهم.. وهذا الصنف مولع بالأقنعة الكاذبة، ليخفي باطنه القبيح، ويتستر على نفسه الأمارة، فيواري الشر ويحسن الباطل، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين بأنهم شر الناس، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم
:
( تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هـؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. ) >[1] وهكذا ترى المنافق خادعا للناس مخدوعا لنفسه.. والرياء ثمرة فجة لاستحواذ الشيطان على المرء، فيغويه بالأباطيل، ويوقعه بالتلبيسات والأكاذيب، ويوهمه بأنه مركز الكون.. ومن الرياء حب الرئاسة، وتعظيم الذات، وتسخير الناس لتحقيق المصالح الشخصية.
وهذه النوعية من المنافقين فاقدة للجمال والصدق، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو وإن كان يتكلم كلاما ظاهره الرحمة، لكن باطنه العذاب، كالذي يدس السم لضيفه، ويطعن أصدقاءه، وهو يكتسب الخداع بالتعود، فيعمي قلبه عن كل بصيرة، ويقع في شرك فتاته فيعشق
[ ص: 138 ] نفسه، ولا يرى غير ذاته، حتى لو ظلم الناس جميعا أو تجاوز كل ما هـو مسموح له.
وقد حذر الله منهم حتى لا نكشف لهم خططنا، ولا نطلعهم على أسرارنا، لأنها فئة فسدت قلوبهم، وامتلأت نفوسهم بالأفكار السقيمة، وخوت أفئدتهم من كل جوهر نقي، في حين أن مناظرهم وصورهم تبدو خلابة، تخدع من لا يعرف خبث نواياهم، فهم يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، يصدقون بألسنتهم وينكرون بقلوبهم، يصبحون على حال ويمسون على غيره، يمارسون الكذب ويقولون ما لا يفعلون.. وتتضح خصلة النفاق بينهم بصورة جلية حين يقعون في مأزق، ويتعرضون لموقف صعب أو حادث جلل،
وفي ذلك يقول عز وجل:
( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) (النساء:62) .
وفي الحقيقة، أن العمل الإعلامي يعاني من سيطرة المنافقين، وغير المؤهلين، والعناصر الانتهازية التي تجيد التملق والرياء والمداهنة، وقد استطاع العديد منهم أن يسيطر على أجهزة الاتصال، مما أسهم – بفاعلية – في تدهور الأوضاع الإعلامية في العالم الإسلامي.
وقد دفعت الأمة الثمن غاليا من حاضرها ومستقبلها بسبب نشاط المنافقين،وتأثيرهم على صناع القرار.
[ ص: 139 ]
وإلا فما تفسير الظواهر السلبية والأوضاع المختلفة التي تسود أغلب بلدان العالم الإسلامي؟
وما تفسير انتشار ظاهرة الفقر في مجتمعات تتوافر لها كل أسباب الثراء وعوالم ييين وعوامل الرفاهية؟
وما تفسير انتشار الأمية والجهل في أمة حملت رسالة العلم، وعلمت الدنيا كلها؟
وما تفسير الضعف في أمة توافرت لها كل عناصر القوة وعوامل التفوق؟
ولن أكون مبالغا في القول إذا ذكرت هـنا أن اختيار العناصر الإعلامية لا يتم دائما على أسس موضوعية أو مقاييس علمية، ولكن الاعتبارات الشخصية تحتل المقام الأول في هـذا الاختيار، وهنا تأتي أهمية استبعاد أئمة النفاق من هـذا الميدان الخطير والمؤثر والمتغلغل في كل مكان.
إنها أعمال المنافقين، ونشاط الفسقة، وجهود المرائين، التي أثمرت أوضاعا سلبية تدفع الأمة ثمنها غاليا، وتجني ثمارها المريرة، وقد كان القرآن الكريم عظيما حين وضع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وبوأهم أحط مكانة في جهنم، وحكم عليهم بالمذلة والهزيمة، ثم نبه المسلمين إلى شرهم المستطير.
وقد أكدت تجارب الأمم وأحداث التاريخ أنه لا سبيل لإنقاذ الأمة
[ ص: 140 ] الإسلامية من عثرتها إلا بتطهير المجتمع من هـؤلاء المنافقين، لاسيما في أجهزة الدعوة ووسائل الإعلام.. وأخطر شرائح المنافقين، هـؤلاء الذين يتخذون الدين سبيلا لتحقيق مآربهم، ويرتدون لباس العلماء، وينصبون أنفسهم فقهاء، ويحكمون على هـذا بالكفر وعلى ذاك بالجهل.
وإذا كانت آفة النفاق تمثل خطرا حقيقيا على حاضر الأمة ومستقبلها، فإن خطرها يمتد، وسلبيتها تتفاقم، ومردودها يتضاعف إذا استشرت في أجهزة صناع الفكر والرأي، وحين يسيطر المنافقون على أجهزة الإعلام، فإن هـذه الأجهزة لا تستطيع أن تضطلع بالمهمة التي قامت من أجلها، وهي التعبير الحقيقي عن إرادة الجماهير، ومعالجة مشاكلهم، وتناول قضاياهم، وترجمة أحاسيسهم وآلامهم، بل – على العكس من ذلك- فإنها تعمل على تضليل هـذه الجماهير وخداعهم لقبول الأمر الواقع.
وتأتي خطورة النفاق في وسائل الإعلام بسبب انتشارها الواسع، وتأثيرها الهائل على الغالبية العظمى من القاطنين على الأرض العربية والبقاع الإسلامية، نظرا لأن هـذه الوسائل أصبحت تملك الآن من قوة الجذب وعوامل الإغراء ما يمكنها من غرس مفاهيم خاطئة وأفكار مشوهة في أذهان الناس، لا سيما إذا كان المناخ العام في المجتمعات العربية والإسلامية يهيئ لها أوسع الفرص لتحقيق أغراضها، وما أكثر المنافقين
[ ص: 141 ] الذين تولوا أمر هـذه الأجهزة الحساسة والخطيرة، فقصفوا الأقلام المنافسة، وأخرسوا الأصوات المعارضة، وكتموا الأنفاس الحرة.
في حين أن الدعاة والإعلاميين المخلصين الذين أحبوا الله تعالى وأحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعملون في صمت، ويبتعدون عن الأضواء، ولا يتكالبون على جمع المال، ويزهدون في السلطة، نجد صوتهم خفيضا، وظهورهم قليلا، وحياءهم كثيرا، والأمة الإسلامية لم تعدم وجود هـذه العناصر الصالحة التي تعمل دون ضجيج وتعبد الله بحق، إنهم أهل العلم والفضل، وأهل التقوى والورع، ولكن المهم هـو كيف تحصل هـذه العناصر على فرصها للعمل والعطاء وبناء الإنسان؟