حادي عشر: الافتقار إلى النموذج القدوة في النشاط الإعلامي
تكمن فاعلية القدوة في أنها تقوم على غريزة التقليد والمحاكاة، وهي من أقوى الغرائز البشرية التي تغني عن فصاحة اللسان وقوة البيان وفن القول، لأنها ترسخ المضمون أو الفكرة المستهدفة أو السلوك المطلوب في عقول الجماهير ونفوسهم، من خلال صياغة الرسالة الإعلامية صياغة عملية مدعومة بالأفعال وليس بالأقوال وحدها. وفي ذلك يقول تعالى:
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (البقرة:44)
[ ص: 142 ]
لقد كان سيد الدعاة صلوات الله وسلامه عليه نموذجا متميزا، وقد استلفت اهتمام الجميع بأقواله المطابقة لأفعاله، وفي هـذا يقول المستشرق الإنجليزي الشهير (هاملتون جيب Hamilton Gibb) : " إنه ليس من قبيل المبالغة أن قوة تأثير شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم على مواقف المسلمين، هي عبارة عن شعور تلقائي وطبيعي لا يمكن تحاشيه، سوءا أكان ذلك في حياته أم بعد وفاته.. لقد كان ذلك أكثر من مجرد إعجاب.. ويكفي أن نذكر أن علاقة الحب والإعجاب التي غرسها الرسول في قلوب أصحابه قد انبعث أثرها ومداها عبر القرون، ويتم إثارتها في قلب كل جيل "
>[1] .
وقد نهج أصحابه المخلصون رضوان الله عليهم نهجه، فكانوا قدوة حسنة نجم عنها توسيع نطاق المعتنقين للإسلام، فقام الإسلام على رقة أبي بكر، وحزم عمر، وبذل عثمان، وفدائية علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم .. لقد كان كل واحد من هـؤلاء الأربعة أمة في مجال القدوة الحسنة التي اقتدى بها الصحابة، ويقتدي بها المؤمنون إلى يومنا هـذا.
وهكذا نرى أن القدوة تعتبر واحدة من أهم وسائل الدعوة، وأن أخلاق الداعية يجب أن تأتي في مقدمة العوامل اللازمة لنجاح خطط الدعوة، فلا بد أن يكون الداعية قدوة حسنة في العقيدة والعبادة والمعاملة، صادقا في مشاعره، مستغفرا لمن لا يستجيب له، متخلقا
[ ص: 143 ] بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم .. وأبرز الأمثلة على ذلك، أن انتشار الإسلام في الشرق الآسيوي بهذه القوة وبهذه الصورة، من جزر الفلبين شرقا حتى الشاطئ الهندي غربا، لم يتحقق إلا من خلال التجار ورجال الأعمال المسلمين الذين سبقت أفعالهم أقوالهم، وكانوا نماذج متميزة عكست أخلاقيات هـذا الدين في الصدق والأمانة والتسامح والإيمان والصلاح.
ومن هـنا يصبح على كل من يتصدى للعمل في حقل الإعلام الدعوي، أن يدرك انعدم انسجام القول مع العمل ينذر بردود فعل عكسية، وبآثار سلبية
>[2] ويصبح على دعاة الإسلام الالتزام الكامل بالمنهج الإسلامي، فكرا وقولا وسلوكا.. هـذا المنهج الذي يفرض على أصحابه الاحترام والأمانة والصدق والتجرد والموضوعية والفهم الدقيق للرسالة والوسيلة والجماهير، وأن يكونوا متخصصين في مادتهم بالعلم والتجربة، ذلك أنه مهما تكن عظمة الفكرة أو قدسيتها، فإن الدعاة والإعلاميين لهم الأهمية الكبرى في توصيلها والإقناع بها
>[3] ومن ثم فإن اختيار رجال الإعلام يجب ألا يتم قبل اجتيازهم عدة اختبارات عملية وعلمية، لأن مكونات شخصياتهم تنعكس على الفكرة
[ ص: 144 ] التي يدعون إليها، والجهة التي يمثلونها، حتى لا تؤدي جهودهم إلى خسارة معنوية ومادية كبيرة، ينتج عنها فقدان هـذه الفكرة أو الرسالة فاعليتها، بعد أن يكون قد تم الإنفاق عليها كثيرا
>[4] وبعبارة موجزة، فإن الإعلامي المسلم يجب أن يتسلح بصفات علمية وعملية وأخلاقية، تسبغ عليها المهابة والثقة من الجميع، وأن يكون قلبه مفعما بالحب وتمني الهداية للجميع، وألا يسيء الظن بأحد، ولا يبني أحكامه على التوجس والشك في الآخرين بدون دليل، وأن يتجنب الإثارة والإهاجة، وأن يعالج قضاياه في هـدوء واتزان وروية، وألا يدعو إلى القنوط، وأن تتوافر لديه القدرة على توصيل المعلومات وتفسير دلالاتها ومعرفة الآثار الناجمة عنها.
وهذه الفئة من الدعاة القادرين، يستطيعون أن يقيموا جسرا تنتقل عبره آمال الجماهير ورغباتهم ومشكلاتهم في مختلف شئون الحياة إلى صناع القرار، وأن ينقلوا للشعب المنجزات والمشروعات المزمع تنفيذها، والتي تم تحقيقها بالفعل.
إن الدعاة ورجال الإعلام، يكسبون بسلوكهم أكثر مما يكسبون بالخطب والمواعظ، ذلك لأن الناس ينظرون إليهم باعتبارهم نماذج حية لما يدعون إليه، ويتأثرون بسلوكهم الفعلي أكثر مما يتأثرون بكلماتهم
[ ص: 145 ] الحلوة وخطبهم العصماء وبرامجهم المثيرة ومقالاتهم الأخاذة، لهذا يجب أن يكونوا أمثلة عليا للاستقامة والصلاح والتقوى، وأن يتوافر لديهم القدرة على الصبر على الأذى، لأن الناس أعداء لما جهلوا، لا سيما أن العقائد أمر عسير على النفوس، صعب على القلوب. كما يجب أن يكونوا نماذج للتواضع، وخفض الجناح والتودد، والزهد في مطالب الدنيا، وأن يبتعدوا عن العنف والمشقة،
امتثالا لقول الله تعالى:
( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) (آل عمران:159)