المقدمة الاجتهاد المقاصدي بكل إيجاز واختصار: العمل بمقاصد الشريعة، والالتفات إليها، والاعتداد بها في عملية الاجتهاد الفقهي .
وموضوعه أصولي فقهي يتناول قضية مهمة للغاية، اصطلح على تسميتها: ( بمقاصد الشريعة الإسلامية ) ، التي تعد فنا شرعيا معتبرا، له أهميته ومكانته على صعيد الدراسة المعرفية والأكاديمية، وله فوائده وآثاره على مستوى الواقع الإنساني ومشكلاته وأحواله ومستجداته .
وفي العقدين الأخيرين على وجه التحديد، كثر الكلام عن المقاصد الشرعية ومكانتها ودورها في استنباط الأحكام، وكانت جملة المواقف والآراء تتراوح بين ثلاثة اتجاهات:
- الاعتماد المطلق على المقاصد، وجعلها دليلا مستقلا تثبت به الأحكام، تأسيسا وترجيحا .
النفي المطلق للمقاصد، واعتبارها أصلا ملغى لا يلتفت إليه، ولا يقوى على مواجهة الأدلة والنصوص والإجماعات الشرعية .
- التوسط في الأخذ بالمقاصد، والاعتدال في مراعاتها والتعويل عليها بلا إفراط ولا تفريط، وبلا إعمال مطلق أو نفي مفرط، وهو
[ ص: 39 ] الموقف الأقرب للصحة والأليق بمنظومة الشرع ومقررات العقل ومتطلبات الواقع ومصالح الناس.
والحق أن طرح هذه القضية أمر قديم جدا، وجذوره ممتدة إلى بداية نشأة الفكر الإسلامي الفلسفي والكلامي والأصولي، وإلى ما يعرف بقضايا التعليل، والتحسين والتقبيح، وعلاقة الشرع بالعقل على وجه العموم .. غير أن الاهتمام بها ازداد تأكدا وضرورة في الآونة الأخيرة لطبيعة العصر الحالي، ولما بلغه من ظواهر وحوادث هي في حاجة ماسة إلى معالجتها في ضوء الاجتهاد المقاصدي الأصيل والنظر المصلحي المتين، يسد الفراغ الفقهي فيها، ويبرز حيوية الشريعة وصلاحها وشمولها وخلودها وحاكميتها على الحياة والوجـود.
لذلك كان لزاما على أهل العلم وأرباب الاجتهاد أن يتصدوا لمتطلبات هذه القضية في ضوء معطيات الواقع المعاصر، على وفق منهجية تراعي التوسط في الأخذ بالمصالح، بغية نفي الآثار السيئة لمنهج الغلاة والنفاة، وبغرض بيان أحكام الله تعالى في النوازل المستحدثة، التي لم ينص أو يجمع عليها، أو التي يتعين ترجيحها وتغليب بعض معانيها ومدلولاتها، بسبب كونها ظنية واحتمالية لم تستقر على معنى معين ومدلول واحد.
وقد كانت فكرة طرق هذا الموضوع ترد علي منذ زمن ليس باليسير، وخاصة عندما كنت طالبا بحامع الزيتونة لما انعقد ملتقى
[ ص: 40 ] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في سنة 1985م
>[1] ، فقد كانت مسألة المقاصد ودورها الفقهي، من المحاور المهمة التي حظيت بنصيب وافر من النقاش والتعليق.
لذلك قررت بعون الله تعالى خوض هذا الموضوع وفق منهجية، الغرض منها: بيان حقيقة المقاصد الشرعية ومكانتها في الاجتهاد، وأهميتها في معالجة مشكلات العصر في ضوء الضوابط الشرعية، دون أن نعدها دليلا مستقلا عن الأدلة التشريعية كما رأى ذلك بعض المفكرين والباحثين، بل هي معنى مستخلص ومستفاد من تلك الأدلة ومن سائر التصرفات والقرائن التشريعية .
ولا أدعي أنني قد أتيت بالجديد المبدع في هذا السياق، فالأوائل رحمهم الله تعالى لم يتركوا للأواخر سوى بعض نواحي التكميل والتتميم والتعليق، فقد كان لهم فضل السبق في التأسيس والإنشاء، وكل ما في الأمر أنني أضفت بعض الشيء اليسير على مستوى التجميع والترتيب والربط بالواقع المعاصر، وإثارة ذوي الهمم لزيادة الإقبال على البحث والتحقيق، وتقرير بعض المعالم العامة التي قد يستنير بها أهل الاجتهاد في التصدي لأحوال العصر بمنظور العمل بالمقاصد والالتفات إليها.
[ ص: 41 ]
ويمكن أن أورد فيما يلي بعض الإشارات العامة المتضمنة في الموضوع، وهي لا تغني عن الرجوع إلى بيانها في صلب الموضوع وثناياه:
* المقاصد الشرعية أمر ملحوظ في المنظومة التشريعية، وقد توالت على تقريره أدلة وقرائن ومسلمات كثيرة، وهو من المعطيات المهمة والضرورية في الاجتهاد والاستنباط، إذ يمكن أن نعتبره إطارا شاملا ومرجعا عاما لتأطير الظواهر والحوادث المعاصرة
* العمل بالمقاصد منهج قديم وقع تطبيقه في العصر النبوي وعصور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، كما كان مستحضرا لدى عموم المجتهدين وأغلب الفقهاء والأصوليين .
* العمل بالمقاصد ليس على عمومه وإطلاقه، فهو مقيد بعموم الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية، وبسائر الأبعاد العقدية والأخلاقية والعقلية المقررة، وهذا ما يجعلنا نعد المقاصد أصلا تابعا للأدلة وليس دليلا مستقلا ومنفرد .
* مبررات دعاة استقلال المقاصد عن الأدلة ضعيفة ومرجوحة، وهي محمولة على ما وقع فيه أصحابها من تعسف في الفهم وسوء استخدام التطبيقات، والاكتفاء بالنظرة الأحادية التجزيئية لمنظومة التشريع، والحماس الذي ليس في محله، والتحامل الملحوظ أحيانا .
[ ص: 42 ]
* القول بارتباط المقاصد بالأدلة لا يعني تعطيل المصالح الإنسانية وتضييق نطاقها وأحجامها، أو تعطيل دور العقل وتحجيم فعله وأثره في الفهم والإدراك والاستنباط والترجيح وغيره، بل إن ذلك القول تأكيد لميزان الإسلام في النظر المقاصدي، ومراعاة المصالح من حيث انضباطها واطرادها وظهورها وجريانها على وفق الصلاح الحقيقي والنفع العام، وليس بحسب الأهواء المتقلبة والخواطر والأمزجة المضطربة.. وفيما يخص دور العقل حيال عدم استقلال المقاصد عن الأدلة، فإن دوره مضمون وثابت، وله ضروبه وصوره، وهي تتمثل جملة في مسالك الفهم والإدراك والتمييز والإلحاق والتقعيد والإدراج والمقارنة والترجيح والاستقراء، وغير ذلك مما يعد شروطا أساسية لفهم التكليف وفعله في الواقع، ولسنا نضيف الجديد إذا قلنا: بأن الشرع كله ما نزل إلا ليخاطب عقل الإنسان ويجعله مناطا لتكاليفه وأحكامه، تحملا وأداء، فهما وتنزيلا.
وتدخل العقل يلاحظ بصورة أكبر في المجالات التي لم ينص عليها أو يجمع عليها، وفي المجالات الظنية الاحتمالية التي يتعين ترجيح ما ينبغي ترجيحه في ضوء الاجتهاد المقاصدي والنظر العقلي الأصيل.
* الثوابت الإسلامية لا ينبغي تغييرها أو تعديلها بممارسة الاجتهاد المقاصدي، بل إن طابع الثبات فيها هو نفسه المقصد المعتبر
[ ص: 43 ] والقطعي والثابت الذي لا يتغير بتغير الزمن والظرف، والذي جعله الشارع محفوظا ومعلوما إلى الأبد، وغير خاضع للتأويل والنظر واحتمال التلاعب والتعطيل والتعسف.
وتشمل الثوابت جملة القواطع المضمونية، والتي هي العقائد والعبادات والمقدرات وأصول المعاملات والفضائل وكيفيات بعض المعاملات، وتشمل كذلك القواطع المنهجية، وذلك على نحو الجمع بين الكليات والجزئيات، والنظرة الشمولية، ومراعاة التدرج والأولويات في معالجة الأمور، وغير ذلك.
* الوسائل الخادمة للثوابت يجوز فيها النظر المقاصدي، قصد اختيار أحسنها وأصلحها خدمة للقواطع، وتمكينا لها، ومثال ذلك: الاستفادة من علوم العصر ومستجدات الحضارة لتقوية الاعتقاد في النفوس، وتيسير أداء العبادات، كاتخاذ مضخمات الصوت في الجمعات والأعياد، واتخاذ طوابق الطواف والسعي والرجم، وغير ذلك من الوسائل والكيفيات التي تخدم القواطع في حدود الضوابط الشرعية.
* غير الثوابت يتعين فيها الاجتهاد المقاصدي الأصيل والنظر المصلحي المشروع، وهي تشمل المجالات التي لم ينص أو يجمع عليها، والمجالات الظنية الاحتمالية، ومن أمثلة ذلك النوازل المستحدثة في الأمور الطبية كطفل الأنبوب والاستنساخ وبنوك الحليب والمني.. وفي الأمور المالية كالسندات والأسهم والبيع بالتقسيط والتأمين .. وكذلك
[ ص: 44 ] الوسائل المتغيرة للمقاصد المقررة، والتي ينظر في أصلحها وأقربها لمراد الشرع ومصالح الناس.
* هناك موضوعات شرعية أصولية مهمة جدا في المقاصد، وهي تشكل ميدانا رحبا لإجراء النظر المقاصدي، وتلك الموضوعات على الرغم من خدمة السابقين لها، تمثيلا وتدليلا وتأصيلا، غير أنها تبقى في حاجة أكيدة لزيادة تحقيقها ودراستها، ولا سيما فيما يتعلق بتجلية تطبيقاتها المعاصرة، ومن تلك الموضوعات:
- القياس الكلي أو الواسع .
- المناسبة . - الضرورة الخاصة والعامة
>[2] * الاستعانة بمستجدات الحضارة ووسائل التكنولوجيا والإعلام والاستئناس بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، مع مراعاة محاذير ذلك .. والغرض من ذلك كما ذكرنا هو تقرير القواطع والثوابت، وسد الفراغ الفقهي في المجالات المستحدثة، وترجيح الأصوب والأنفع في الميادين الظنية والاحتمالية .
* إعادة صياغة العقل العربي والإسلامي، وتنقيته مما وقع فيه من شوائب وشبه أصابته بنوع من الخلل في التعامل مع المنظومة الشرعية والمنهج المقاصدي الأصيل.
[ ص: 45 ]
* إنارة العقل العالمي وتبصيره بكونية الإسلام وإنسانيته وحضاريته، وبأنه رسالة للإصلاح والتسامح والحرية والنماء الشامل، وهذا من شأنه أن يمكن المسلمين من إزالة أو تضييق مبررات الإقصاء والتحامل، وبالتالي من تحقيق الأهداف والمقاصد الإسلامية الملحة في الواقع المعاصر، على نحو التحرر الاقتصادي والأمن الغذائي وامتلاك المبادرة الصناعية والحضارية، وأداء الدور الاستخلافي العام.
* التأكيد على أن الاجتهاد المعاصر ينبغي أن يتسم بطابع الجماعية والمؤسساتية والتخصصية، وأن يتصدى له الفقهاء والخبراء والمصلحون، وذلك بهدف التوصل إلى أنسب الحلول الشرعية وأقرب المقاصد الشرعية فعصرنا المعقد في ظواهره وسماته، ونوازله ووقائعه، ليس له من سبيل سوى اعتماد الاجتهاد الجماعي، على الرغم من أهمية الاجتهاد الفردي ومحدودية مجالاته وميادينه في الواقع المعاصر.
وفي ختام هذه الدراسة أرجو من الله أن يغفر لي ما وقعت فيه من زلل وخطأ، وأن يهديني إلى خير الأقوال والأعمال، وأن يدخر لي هذا الجهد في موازين أعمالي وسجل حسناتي، وأن ينفع به عموم القراء والطلاب والدارسين، وأن يثيب ثوابا حسنا كل من ساعد في إنجازه وقرأه وأسهم في طباعته ونشره والإفادة به
[ ص: 46 ]