المبحث الرابع: الاجتهاد المقاصدي في عصر التابعين
عصر التابعين امتداد لعصر الصحابة وتواصل له، فقد عايش التابعون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثوا منهم مروياتهم وأقضيتهم وفتاواهم واجتهاداتهم ومسالك استنباطهم، وفهموا تعليلاتهم المقاصدية والمصلحية وغير ذلك، مما أعانهم وساعدهم على مواكبة عصرهم وبيان أحكامه المختلفة
>[1] وقد كان العمل بالمقاصد الشرعية الأصيلة والاعتداد بها من قبل التابعين، أحد الأمور التي استندوا إليها واعتمدوا عليها في عملية الاجتهاد، ويتمظهر ذلك في الأمور التالية:
[ ص: 101 ] * وراثتهم لعلم الصحابة وهدي النبوة
إن القول: بأن التابعين قد ورثوا من الصحابة مسالك استنباطهم ومروياتهم وفتاواهم وأقضيتهم، والتي كان جزء منها مستندا إلى العمل بالمقاصد واعتبار المصالح، إن ذلك القول يفيد بجلاء تام قبول التابعين للمقاصد والمصالح التي عمل بها الصحابة وعولوا عليها، وهو يفيد كذلك استلهامهم للهدي النبوي الذي تناقلوه بواسطة الصحابة، ولجوانبه المقاصدية والمصلحية المعتبرة.
* أخذهم بالنص والمصلحة والقياس
نقل عن التابعين أنهم كانوا يعودون عند عدم النص إلى المصلحة والقياس وغير ذلك من ضروب الرأي وأنواعه، فقد: ( نظروا فيما كانوا يراعونه من مصالح )
>[2] وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات، هي حكم ومصالح راجعة إلينا )
>[3] * الطابع المقاصدي لمدرستي الحجاز والعراق
إن كلا من مدرسة الحجاز ومدرسة العراق وغيرهما من المدارس
[ ص: 102 ] التشريعية التي عرفها عصر التابعين
>[4] ، استند في عملية الاستنباط إلى عدة أمور، منها العمل بالمقاصد، واعتبار المصالح، ونفي المفاسد، ودليل ذلك فيما يلي:
ما نسب إلى المدرستين من أنهما يعتمدان من حيث المبدأ والعموم على الرأي، وإن اختلفا في المقدار والكم
>[5] .. والعمل بالرأي لدى المدرستين، معناه العمل بضروبه ومجالاته والتي منها الأخذ بالمقصد والتعويل عليه.
- إن مدرسة الحجاز أو مدرسة الأثر قد انبنت -وفضلا عن القرآن والسنة- على فتاوى واجتهادات عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وقضاة المدينة وغيرهم
>[6] رضي الله عنهم ، وهذا يدل دلالة صريحة وبدهية على أنها تشبعت بنصيب وافر من الحقيقة المقاصدية لتلك النصوص والفتاوى والآثار والاجتهادات، وذلك على مستوى جهتين :
الجهة الأولى
إن استنادها إلى القرآن والسنة دليل على استنادها إلى ما انطوى عليهما من المعلومات والمعطيات المقاصدية المختلفة، على
[ ص: 103 ] أساس اتصاف كل من القرآن والسنة بالخاصية المقاصدية جملة وتفصيلا، ودعوتهما إلى اعتبار المقاصد الشرعية والتعويل عليهما في بناء الأحكام وتنفيذ الأعمال
>[7] الجهة الثانية: إن استنادها إلى فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه دليل على تأييدها لخاصية الاجتهاد العمري المرتكز على النظر المصلحي المقاصدي المضبوط
>[8] وقد ذكر أن أكثر الرأي في المدينة يطلق على معنى المصلحة بخلاف رأي العراق الذي يعنى بالقياس
>[9] ، كما روي عن أهل المدينة أنهم كانوا يأخذون عند عدم النص بالأقوى والأرجح بحسب موافقة القياس أو تخريج صريح من الكتاب والسنة ونحو ذلك
>[10] والمهم من كل ما ذكر، أن العمل بالرأي والمقاصد لدى مدرسة الحجاز ظل أحد المستندات التي قام عليها الاجتهاد في تلك المدرسة، وإن كان أقل وأدنى مما هو عليه الأمر في مدرسة العراق من حيث الكم والتفريع.. إن مدرسة العراق أو مدرسة الرأي، قد انبنت على الرأي بصورة أكبر مما كان عليه الوضع في المدينة لعدة أسباب، منها: بعدها عن المدينة مهبط الوحي المدني، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومستقر أغلب
[ ص: 104 ] الصحابة رضي الله عنهم ، وبساطة عيشها وسلامة اللسان العربي من الاختلاط والانحراف وغير ذلك، وهذا بخلاف العراق الذي شهدت بيئته ظهور الفرق وحدوث الفتنة، والتزيد في الحديث وضعا وتعسفا، وقلة رواية الحديث بسبب كثرة الاشتغال بالقرآن وشدة الاحتياط في الرواية، واختلاط اللسان العربي بلغات أخرى، وتعقد الحضارة، وطروء المشكلات والحوادث المستجدة، التي تحتم إعمال الرأي واعتبار روح الشرع ومقاصده المعتبرة.
ثم إن اتصاف مدرسة العراق بالرأي لا يعني عدم استنادها إلى الأثر
>[11] ، بل يعني إعمال الرأي المعزز بالأثر الصحيح والمؤيد بتعاليم الكتاب والسنة وفقه السلف، صحابة وتابعين، والمدعم بمراعاة المصالح والأعراف الحسنة.
فقد كان العراقيون إذن يعتبرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة
>[12] ، وكانوا يستندون إلى فتاوى وأقضية علي بن أبي طالب الذي ازدادت به مدرسة الرأي قوة ومكانة
>[13] ، وعبد الله بن مسعود الذي كان قد نهج نهج عمر ابن الخطاب في الاستنباط بالرأي عند انعدام النص وفيما لم يترجح
[ ص: 105 ] لديه
>[14] ، والذي كان أحد الأربعة الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم
>[15] ، باعتبار كونه أعلم من غيره بمواضع النزول وملابساته وأسبابه وظروفه، وهذا في حد ذاته يدل على ما نحن بصدده من التأكيد على تشبع مدرسة العراق بالعمل المقاصدي والنظر المصلحي في ضوء تعاليم نصوص الوحي المتلو والمروي.
كما كانوا يستندون إلى قضايا إبراهيم النخعي الذي يعتبر الباعث الأول لمدرسة الرأي في العراق
>[16] ، والذي كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا )
>[17] ، والذي كان تلميذا لعلقمة بن قيس تلميذ عبد الله بن مسعود الملازم له والمتأثر به، لذلك يلاحظ التأثر الواضح للنخعي إزاء ابن مسعود الصاحب البار برسول الله عليه الصلاة والسلام
>[18] ومما قيل في منهج النخعي الاجتهادي: إنه منهج يقوم على عدم الوقوف على ظواهر النصوص، ووجوب إدراك معانيها وبواطنها وعللها، لأن الألفاظ لم توضع إلا للتعبير عن هذه المعاني، فهو يأخذ من النص مبدأ فقهيا يطبق على ما لا يحصى من الحوادث، لا حكما
[ ص: 106 ] فقهيا يطبق على حادثة معينة، وقد سمي صيرفي الحديث، لما خبره من نفوذ خبرته إلى حقيقة المعدن، ولا يغره الظاهر، ولذلك أيضا كان يحدث بالمعاني، لأن العبرة عنده للمعاني لا للألفاظ والمباني
>[19] .. كما أنه كان يعتد بالاستحسان، وكان واقعيا في اجتهاداته وفتاواه، ومتأثرا تأثرا واضحا لمجالس القضاء التي كان يقيمها شيخه شريح
>[20] ، والتي كان لها التأثير الجلي على منهجه في الاجتهاد وفهم النفوس وخفاياها وما يصلح بها .
كما كان العراقيون يستندون إلى قضايا شريح الذي دعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته الشهيرة إلى وجوب القضاء بما في الكتاب، فإن لم يجد فبما في السنة، وإن لم يجد فبما قضى به الصالحون من قبل، وفي رواية فبما أجمع عليه الناس
>[21] .. وهذا يشير إلى أن قضاء الصالحين من قبل، يقصد به فتاوى وفقه من سبق شريحا من الصحابة الذين شاهدوا الوقائع واجتهدوا فيها وفق النصوص والحمل عليها، وبمقضتى ما اعتبروه من مصالح جلبا ومفاسد دفعا.. ومما يؤيد هذا الأمر، أن الرسالة كانت صادرة من عمر الذي اتسم منهج استنباطه بالفهم العميق للنوازل والمستجدات، وبالنظر المصلحي
[ ص: 107 ] المقاصدي الأصيل
>[22] ، لا سيما وهو يعلم أن بيئة مثل بيئة العراق في حاجة ملحة لذلك المنهج وقيمته .
* اختلاف عصرهم عن عصر الصحابة
إن طبيعة تطور الحياة، واختلاف عصر التابعين عن عصر الصحابة من حيث ظهور الحوادث واختلافها، بموجب اتساع الحضارة الإسلامية والاختلاط مع الحضارات الأخرى، وما يترتب على ذلك من أمور كثيرة لا تقدر ظواهر النصوص والمرويات على معالجتها وبيان طبائعها وأحكامها، إن ذلك كله يحتم العمل بالرأي والأخذ بدور الاجتهاد الشرعي البناء في التعرف على الأحكام الشرعية لتلك الحوادث والنوازل، قال الشيخ علي الخفيف: ( ولقد كان موقفهم من النصوص الموقف السليم الذي يتطلبه العقل الحكيم، فعرفوا أن الأحكام لم تشرع عبثا، وأنها إنما شرعت لعلل ومقاصد يطلب تحقيقها، ولا بد من تعرفها... كما كان من نتائجه أن آمنوا بأن الأحكام التي تدل عليها النصوص، عرضة للتغير بمرور الزمن واختلاف البيئة، تبعا لتغير عللها التي أدت إليها، أو لأن المقاصد التي أريدت من شرعها أصبحت لا تتحقق إلا بأحكام أخرى، لتغير الزمن وأحواله، ومن ثم رأينا منهم فهما عميقا للنصوص، وعملا على الإحاطة بمقاصد الشريعة، وقد
[ ص: 108 ] حفظ لنا الرواة والتاريخ من ذلك أحكاما تتفق مع النصوص في روحها، وتخالفها في ظاهرها)
>[23] * اجتهادهم في النوازل
إن كثيرا من الأمثلة الفقهية التي تبناها التابعون، سواء بنقلها عن الصحابة، أو ببيانها من قبلهم، تدل بجلاء تام على اهتمامهم البالغ، وتعويلهم الكبير على المقاصد الشرعية في معالجة النوازل وتأطير الحوادث والمستجدات، ومن تلك الأمثلة: تضمين الصناع، وإجازة التسعير، وإمضاء الطلاق الثلاث، وعدم قبول توبة من تاب بعد تكرار التلصص وقطع الطريق
>[24] ، وإبطال نكاح المحلل، وغير ذلك مما هو مبسوط في مصادره ومظانه، وقد أورد الأستاذ شلبي في كتابه ( تعليل الأحكام ) ، أمثلة كثيرة عمل فيها التابعون بالمصلحة والمقاصد
>[25] * إنكارهم للحيل
إن إنكار الحيل
>[26] من قبلهم دليل على اعتدادهم بالمقاصد، ذلك أن تلك الحيل منافية لتلك المقاصد ومعارضة لها في حقيقة الأمر، وذلك على نحو تمكين المبتوتة في مرض الموت من الإرث معاملة للزوج بنقيض مقصوده، والنهي عن بيع العينة... وغير ذلك كثير.
[ ص: 109 ]