المبحث الثالث: الضوابط الخاصة للاجتهاد المقاصدي
وهي جملة القيود التي تتفرع عن الضوابط العامة والشروط الكبرى، وتكون أقرب من حيث الإدراج والإلحاق، وأوضح من جهة الالتصاق والتعلق .
والمقاصد التي تراعى في الاجتهاد، والتي لها ضوابطها وشروطها، إنما هي جملة المعاني الملحوظة في التصرفات الشرعية، والمتوصل إليها باستخدام الأدلة والمصادر التشريعية على نحو النص والإجماع والقياس والاستصلاح والعرف والاستحسان وغيره. لذلك فإن الكلام عن ضوابط وشروط المقاصد يمر حتما بالكلام عن ضوابط وشروط المصلحة المتوصل إليها بالاستصلاح المرسل والقياس والعرف وغير ذلك .
[ ص: 33 ]
فتحديد تلك الضوابط والشروط لدى علماء الأصول والاجتهاد هو عينه ما اتصل بتحديد ضوابط وشروط تلك المصادر التشريعية المتعددة، ومختلف مباحث التأويل الشرعي السليم .
ومن هنا كان لزاما على الباحث أن يبين ضوابط الاجتهاد المقاصدي من خلال بيان وعرض ضوابط كل من المصلحة المرسلة والعلة والعرف، وشروط التأويل الصحيح .
ضوابط المصلحة المرسلة
الضابط الأول: عدم معارضتها للنص أو تفويتها له
النص من حيث دلالته على معناه وحكمه نوعان:
أ - النص القطعي
هو النص المقطوع به ثبوتا ودلالة، فالمقطوع به ثبوتا هو المقطوع بنسبته إلى صاحبه، وهو يشمل القرآن الكريم والسنة المتواترة.
>[1] أما المقطوع به دلالة فهو الذي يحتمل معنى واحدا وحكما واحدا، ومثاله قوله تعالى :
( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص:1) .
فالمصلحة التي يعول عليها المجتهد لا ينبغي أن تعارض نصا
[ ص: 34 ] قطعيا، وذلك لأن هذا التعارض سيؤول حتما إلى تقرير التعارض بين القواطع الشرعية : أي بين النص القطعي ودليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد، وهذا محال ومردود، لأنه موقع في اتهام الشارع بالتناقض والنقص والتقصير .. وكما هو معلوم فإنه لا يجوز للمصالح الحقيقية أن تعارض نصا قطعيا، وذلك لأن تلك المصالح جارية على وفق نصوصها وأدلتها القطعية، وما يدعى من وجود التعارض بينهما، ومن وجوب تقديم المصلحة على النص القطعي، إنما آيل في الحقيقة إلى ما يلي :
- أن المصلحة التي ادعي معارضتها للنص القطعي إنما هي مصلحة مظنونة أو وهمية .
فإن كانت مظنونة بأن كان لها شاهد عام ودليل على جنسها البعيد، فإنها لا تقوى على النص القطعي المباشر، لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، أو كانت مظنونة بأن كانت غير معلومة على التعيـين، فيقدم النـص عليها (فنحن نـرى أن من الأمور ما لا يعرف وجه المصلحة فيه على التعيين، فيكون النص أولى بالاعتبار)
>[2] (إن المصلحة ثابتة حيث وجد النص، فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها، إنما هي
[ ص: 35 ] ضلال الفكر أو نزعة الهوى أو غلبة الشهوة، أو التأثر بحال عارضة غير دائمة، أو منفعة عاجلة سريعة الزوال، أو تحقيق منفعة مشكوك في وجودها، وهي لا تقف أمام النص الذي جاء عن الشارع الحكيم، وثبت ثبوتا قطعيا لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته)
>[3]
- آيل إلى أن النص المعارض بالمصلحة لم تثبت قطعيته، وإنما هو دائر بين الاحتمالات والظنون، فيكون التعارض الواقع بين المصلحة المنشودة والنص الظني هو من قبيل التعارض بين ظنيين إذا كانت المصلحة ظنية، أو بين ظني وقطعي إذا كانت المصلحة قطعية، وفي كلتا الحالتين يكون هذا التعارض غير مستحيل وممكن الترجيح لأنه ليس واقعا بين قطعيين .
ومعرفة القطعي من الظني في الشريعة الإسلامية أمر ميسور ومحسوم بفضل الله تعالى الذي حفظ شريعته من الضياع والتحريف والاختلال، والذي بين ما هو مقطوع به وما هو مظنون فيه، رحمة بعباده وامتـنانا، فبيان المقطـوع لدرء الاختـلاف والاضطراب، ولأنه لا يخضع لاعتبارات الزمان والمكان والحال، والمظنون مقصود به التيسير والتخفيف والتنوع والثراء، ومواكبة الاختلاف والتغير في الزمان والبيئات والظروف والأحوال .
كما أن معرفة القطعي من الظني حسمه العلماء المخلصون
[ ص: 36 ] والمجتهدون الراسخون الذين قيضهم الله تعالى لخدمة شرعه، والذين كانت لهم حظوظ وافرة من فهم الخطاب الشرعي، واستيعاب مراميه ومقاصده وكيفياته ومختلف معانيه ومتعلقاته، والذين كان لرعيلهم الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم فضل القرب الزماني والمكاني، الذي مكنهم من النظر الدقيق والتتبع العميق لتصرفات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، هذا فضلا عن براعتهم في حذق اللغة العربية التي نزل بها الوحي على وفق أساليبها وصيغها ومعهوداتها ومدلولاتها .
- آيل إلى أن النازلة لم ينظر جيدا في تحقيق مناطها، وبالتالي في إدراجها ضمن أصولها وأدلتها، ومعلوم أن تحقيق المناط يضمن الاستخدام الجيد لتسليط الأدلة على وقائعها ونوازلها
والمهم من كل ما ذكرنا أنه لا يجوز إطلاقا وتفصيلا تقديم المصلحة على ما هو قطعي يقيني، والواجب الفرض على المسلمين - خاصة وعامة - تقديم المدلول القطعي وترك المصلحة المظنونة أو الموهومة. (فإذا اتضحت قطعية دلالته، اتضح سقوط احتمال المصلحة المظنونة في مقابله)
>[4] . (فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لأن ما علم كيف يظن خلافه )
>[5] (فقد ثبت بالدليل الذي لا يقبل الريب أن إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الفقه، قد تم على
[ ص: 37 ] أن المصلحة لا يمكن لها أن تعارض كتابا ولا سنة، فإن وجد ما يظن أنه مصلحة وقد عارضت أصلا ثابتا من أحدهما فليس ذلك بمصلحة إطلاقا، ولا تعتبر بحال )
>[6] ب - النص الظني
وهو النص الذي يدل على أكثر من معنى وحكم، ومثاله : نص القرء والملامسة وغيرها، فيكون الاجتهاد قائما على حصر كل تلك المعاني والأحكام وتحديد أقربها إلى المراد الإلهي وأنسبها للمصلحة المشروعة، فقد يكون أحد تلك المعاني متماشيا مع المصلحة فيقع اعتماده بناء على المصلحة، ولا عبرة هنا بمعارضة المصلحة لغير ذلك المعنى المعتمد على وفق المصلحة، إذ لا يعد ذلك معارضة للنص، وإنما هو من قبيل العمل بأحد دلالات النص لاستحالة الجمع، وهو كذلك من قبيل العمل بدليلين، كالعمل بالعام والخاص والمطلق والمقيد، وهو في هذه الحال عمل بالنص الظني في أحد معانيه، وعمل بدليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد وأصلها الكلي المستخلص من الأدلة والقرائن الشرعية الكثيرة.
>[7] أما الذي لا يجوز قطعا هو أن تعارض المصلحة جميع مدلولات النص الظني، لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة
[ ص: 38 ] النص القطعي تماما. (أما إذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية، فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية )
>[8] ، فلا يجوز مثلا مخالفة مدلولي الحيض والطهر للقرء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، أو لتغير الظرف، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة المتعلقين بمجرد اللمس وبالوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني، التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنا ضعيفا ومرجوحا .
والمعتمد في تحديد سائر مدلولات ومعاني النص الظني هو منهج التأويل الصحيح المقرر في علم الأصول.: (والحد الذي يقف عنده احتمال دلالات الألفاظ حتى يصبح ما وراءه مخالفا ومعارضا إياها يتلخص في جملة الشروط التي ذكرها الأصوليون لصحة التأويل، وفي مقدمتها كون التأويل موافقا لوضع اللغة وعرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع)
>[9] والخلاصة، أن تقدير المصالح ومراعاتها تتفاوت أحجامه ومراتبه بحسب طبيعة النصوص وتنوعها من حيث القطع والظن، فكلما كان النص ظنيا كان تقديم المصالح واردا ومطلوبا ومدعوا حتى يتوصل إلى
[ ص: 39 ] ما هو أقرب للمراد الإلهي، وأجلب للمصلحة الإنسانية، وأضمن لتطبيق الحكم على أحسن وجه وأتمه .
غير أن هذا لا يعني أن النص القطعي خال من المصالح والمنافع، وإنما يعني أن تحصيل نوع من المصالح الحقيقية جار على وفق ما جعله الشارع غير قابل للتغيير والتأويل على مر الأيام والأحوال بأن جعله قطعيا لا يتطرق إليه الاحتمال والافتراض .. كما أجرى نوعا آخر من تلك المصالح على ما جعله متبدلا بتبدل الأزمنة والظروف والأحوال، بأن جعله ظنيا تختلف في مدلولاته الأنظار والأفكار .
الضابط الثاني: عدم معارضتها للإجماع
الإجماع هو الدليل الشرعي بعد النص، وهو إما أن يكون قطعيا أو يكون ظنيا .. فإن كان قطعيا كالإجماع على العبادات والمقدرات، وعلى نحو تحريم الجدة كالأم، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدة للأب مع الجدة للأم، وغير ذلك من المسائل التي تحقق فيها الإجماعي القطعي.
>[10] فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ومنطقيتها ودرجة المعقولية فيها، ولا ينبغي أن يقال : إنها مصلحة معتبرة وقطعية، لأنها إن كانت كذلك كما يدعى،
[ ص: 40 ] فقد ألحـقنا التناقض والنقـص بالوحي، وهذا محـال ومردود، لاستحـالة وجود التعـارض بـيـن القـواطع، والأمر في حقيقته ليس سوى ادعاء للمصلحة وتوهمها بلا أدنى درجة من درجات الاعتبار الشرعي .
فالإجماع القطعي هو كالنص القطعي في دلالته على حكمه في اليقين وعدم التأويل، وفي أولويته على المصلحة، وليس جائزا أن يقال : إن الإجماع المستند إلى نص ظني لا يقوى على معارضة المصلحة، أو أنه في حكم النص الظني نفسه في تعدد دلالاته ووجوب حصرها والاختيار منها بما يتماشى مع المصلحة، فهذا القول مردود عليه بداهة من جهة القطع والظن معا : أي من جهة قطعية الإجماع وظنية النص الذي استند إليه الإجماع، ومعلوم أن الإجماع قد اكتسب شرعيته القطعية من الدليل الشرعي الظني الذي استند إليه، ومن الاتفاق على ذلك الدليل الظني .
فحكم الإجماع مستفاد إذن من الدليل الشرعي الظني، ومن عنصر الاتفاق واجتماع الأمة الذي زكاه الشرع وصححه .
أما إذا كان الإجماع ظنيا أي قائما على أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، ومبنيا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة : (ومجرد
[ ص: 41 ] الاتفاق في عصر على حكم لمصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير)
>[11]
وقد كان الأئمة يمنعون شهادة القريب على قريبه، والزوج على زوجته والعكس، لضمان حقوق الناس، وقد كان ذلك جائزا في عصر الصحابة إجماعا واتفاقا .
والحق أن هذا التعارض بين الإجماع الظني المنبني على المصلحة الظرفية وبين المصلحة الحادثة هو في حقيقته تعارض بين مصلحتين : مصلحة الإجماع المرجوحة والمصلحة الحادثة الراجحة، وإذا كان كذلك فإنه يعمل فيه بترجيح الراجح عن المرجوح، لسبب من الأسباب المتعلقة بالقطع أو الكلية أو العموم أو الوقوع أو غير ذلك .
فالإجماع متى تأكدت قطعيته فهو في حكم النص القطعي في منع العدول عنه لمجرد توهم مقصد ما أو ظن بمصلحة ما، وذلك لأن المصلحة الشرعية الحقيقية قد أجراها الشارع الحكيم على وفق قطعية الإجماع التي لا تتبدل على مر الزمان، بل التي تتسم بالثبات والدوام في كل الأحوال والعصور
>[12] [ ص: 42 ] الضابط الثالث: عدم معارضتها للقياس
القياس هو المصدر التشريعي بعد النص والإجماع، وهو حمل على النص لعلة أو أمر آيل إلى مصلحة، ومثاله : قياس شحم الخنزير على لحمه في النجاسة والاستقذار والضرر، وقياس النفاس على الحيض في منع الوطء للأذى والضرر، وهو يستند إلى وصف يتناسب مع حكمه، وهذا الوصف قد سماه الأصوليون (المناسب) ، الذي متى عرض على العقول تلقته بالقبول.
>[13] والمناسب تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعا، إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصف ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه .
وفي الوصف الذي اعتبره الشارع، نجد أن ذلك الاعتبار قد جعل درجات الوصف المناسب تتراوح بين التنصيص المباشر على العلية بالتنصيص على مناسبة الوصف للحكم، أي التنصيص على علة الحكم تصريحا أو إيماء، وبين التنصيص غير المباشر على العلية، أي بالتنصيص على جنس ونوع الوصف والحكم .
[ ص: 43 ]
والغرض من بيان تقسيمات المناسب ومراتبه
>[14] هو معرفة المقبول من غيره
>[15] ، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند التعارض، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشرع العزيز بتفاوت الاعتبار الشرعي لها، قوة وضعفا، بصورة مباشرة وغير مباشرة .
جاء عن صاحب تعليل الأحكام قوله الرائع وهو يبرز مكانة المناسب في حيوية القياس والاجتهاد : (وهو حقيق بهذه العناية، فإنه لب القياس وميدان الاجتهاد الواسع الذي سبحت في بحاره عقول المجتهدين وأتباعهم، وحلقت في سمائه أفكار الفقهاء والأصوليين، فأتوا من أبحاثه بما لا مزيد عليه لمستزيد، وأحاطوه بسياج منيع يرد عنه كل مهاجم عنيد، وسلحوه بسلاح قوي يدفع كل اعتداء من المخالفين ) .
>[16] الضابط الرابع: عد تفويتها لمصلحة أهم منها أو مساوية لها
هذا هو الضابط الرابع من ضوابط الاجتهاد المقاصدي المبني على المصلحة المرسلة، وهو ضابط دقيق وعميق، ويحتاج إلى دراية كافية وهمة عالية، وخبرة بالغة بالمصالح الشرعية ومراتبها وتعارضها وترجيحها وربطها بالوقائع والمتغيرات، وغير ذلك مما يتطلب استفراغا
[ ص: 44 ] منقطع النظير، واجتهادا غير يسير، بغية تحصيل الظنون المعتبرة أو القواطع الموثوقة بمقصودات الشارع ومراداته ومصالح الناس ومنافعهم.
ومعلوم أن المصالح تتنوع بحسب عدة اعتبارات وحيثيات، وتترجح بموجب ذلك من حيث القوة والقطع والضرورة، وعند تعذر الجمع واستحالته.
فباعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى الكليات الخمس المشهورة:
حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويتفرع من كلية ما هو ضروري وحاجي وتحسيني، وما هو مكمل لذلك الضروري والحاجي والتحسيني.. وباعتبار لحوقها بكل الناس أو أغلبهم، تكون المصلحة عامة أو خاصة.. وباعتبار تأكد وقوعها وعدمه ودرجات ذلك التأكد، تكون حقيقية أو وهمية، وتكون قطعية أو ظنية.. وباعتبار شهادة الشارع وعدمها، تكون معتبرة وملغاة ومرسلة.
وبهذه الاعتبارات تتحدد المصالح وتترجح عند التعارض إذا تعلقت بمحل واحد، فيقدم حفظ الدين على النفس، وحفظ النفس على حفظ العقل وهكذا، ويقدم ما هو ضروري على ما هو حاجي، وما هو حاجي على ما هو تحسيني، ويقدم ما هو عام على ما هو خاص، وما هو قطعي على ما هو ظني، وما هو ظني على ما هو وهمي
>[17] [ ص: 45 ]
والمهم من ذلك كله، أن المصلحة المرسلة المأمولة التي يراد تحصيلها في أمر من الأمور، ينبغي أن تنضبط بميزان المصالح الشرعية، وأن تنتظم بموجب قانون المقاصد المختلفة المقررة، فلا ينبغي أن تخل هذه المصلحة المأمولة بمصلحة أخرى أهم منها، أو مساوية لها، إذ الأولى هو الإبقاء على الأهم وعلى المساوي الموجود إذا استحال الجمع بين المصلحة المأمولة والمصلحة الموجودة في المحل الواحد والمسألة الواحدة.
والإبقاء على الأهم واضح وبين الصلاح، إذ المصلحة فيه أوضح وأجلى وأتم، والإبقاء على المساوي مترجح بموجب القطع بالوقوع والتحصيل، إذ المصلحة الموجودة مقطوع بظهورها ووقوعها بخلاف المصلحة المأمولة التي يراد تحقيقها بغلبة الظن أو القطع الذي لم يجزم بعد بوقوعه وتحصيله.
فهذا هو الميزان المعتدل، والقانون المنضبط، والمعيار الدقيق، في تحديد المصالح الشرعية، والترجيح بينها إذا تعارضت وتباينت وتعذر مع ذلك الجمع والتوفيق، وهو ما تتلقاه العقول الراجحة والأذواق السليمة بالقبول والتأييد والتسليم، فليس أما الناس إلا أن يأخذوا بأهم المصلحتين إذا كانت الأدنى مفوتة للتي هي أهم، وليس أمامهم إلا ارتكاب أخف الضررين لدرء أعظم المفسدتين، وليس المهم
[ ص: 46 ] سوى فعل المكروه لإبعاد المحظور، وتفويت المندوب لأداء الواجب وغير ذلك كثير.
وهذا نلحظه في كل أمة وملة، وفي كل حال وأمر، إذ ليس أمام الرجل إذا تعارضت مصالحه ومنافعه في الموضوع الواحد إلا أن يختار ما يراه أنسب لوضعه، كأن يختار ما هو أدوم نفعا في حياته أو ما هو أنفع لأغلب عياله، أو ما هو مؤكد الوقوع على ما هو مظنون أو موهوم.
والشارع الحكيم تفضلا بعباده وامتنانا لم يتركها لغير هذا الميزان المضبوط والمنهج المعقول في تحصيل المصالح وترجيحها، إذ لو تركهم كذلك لاضطربت فعلا مصالحهم، ولما تحققت أصلا، ولما ترجحت أيضا، بسبب اضطراب الميول، واختلاف العقول، وتباين الغايات الإنسانية في مشوار حياتها الطويل.
ومن مظاهر هذا الميزان في الشريعة الإسلامية نجد أحكام الترخص والاستثناء والضرورة ورفع الحرج والتيسير ونفي المشاق غير المعتادة، وتفضيل بعض الأعمال على بعض، وغير لك مما يبرهن على تقرير مبدأ الترجيح بين المصالح عند تعارضها وتعذر الجمع بينها، ومثال ذلك الأحكام الاستحسانية، كبيع السلم، وأجرة الحمام، والشرب من يد السقاء، وكشف العورة للتداوي، وغير ذلك من الأحكام الاستحسانية التي عدل بها عن حكم نظائرها لما فيها من مصالح هي
[ ص: 47 ] متعارضة مع مصالح إبقائها على عمومها وإلحاقها بنظائرها، بل إن بقاء تلك الأحكام على أصلها معطل للمصالح الإنسانية قطعا، فأجرة الحمام لو بقيت على أصلها، من وجوب اشتراط العلم بمقدار الماء المستعمل ومدة المكث، لما استحم مستحم، ولتعطلت مصالح الغسل والتنظف والمعاوضة، ولتجمدت حرفة بذاتها.. والمرأة المريضة التي لا تكشف عورتها للطبيبة بهدف المداواة والعلاج عملا بأصلية ستر العورة، فإن تلك المرأة ستعرض نفسها إلى ما هو أعظم وأنكى، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وهي تدل كما ذكرنا على أن الشارع قد راعى تفاوت المصالح والمفاسد، ولزوم اختيار الأهم، ودرء الأعظم عند التعارض واستحالة الجمع.
ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك، ما لو طرح المسلمون قضية عمل المرأة لزيادة الإنتاج، فإن هذه القضية تتجاذبها عدة مصالح: مصلحة زيادة الإنتاج لتقوية الاقتصاد، ومصلحة الأسرة من التربية والعناية، ومصلحة صيانة المجتمع من الاختلاط المشين ونتائجه
>[18] .. ثم إن تلك
[ ص: 48 ] المصالح لا يمكن الجمع بينها لتعذرها، ولا بد من ترجيح إحداها على وفق هذا الضابط والمعيار.
فإذا ترحج للمجتهد مثلا أن تقوية الاقتصاد من حفظ المال، ومصلحة الأسرة من حفظ الدين والعقل، ومصلحة المجتمع من حفظ النسل، فإنه بلا شك سيقرر أن مصلحة حفظ المال مرجوحة أمام مصلحة الدين والعقل والنسل.
ثم إن المجتهد سيدرك أن هذا الحكم هو على عمومه، غير أن هناك حالات أخرى تستدعي عمل المرأة دون أن بمصلحة المجتمع من الستر بأن تصان المرأة وتحفظ كرامتها، وأن يؤدي ذلك العلم في قطاع حساس كالقطاع الدفاعي أو التكنولوجي الذي لا بد منه لحفظ الأمة وسلامتها من الاستعمار والاعتداء وحفظ دينها وهويتها وغير ذلك فإن هذا الاستثناء له ما يبرره، وهو دائر مناطاته ومرجحاته، وسائر على وفق هذا الضابط الموزون والمقياس المعلوم.
ومثال آخر يتفرع عن هذا ويتسم بالجزئية أكثر، ومفاده أن امرأة تشتغل، وأن شغلها سيؤدي بحسب القطع أو الظن الغالب إلى زيادة المدخول المالي وإلى ضياع الأولاد وتناولهم لداء المخدرات، فإنه في هذه الحالة ليس لها من مخرج إلا بترك عملها الذي هو من مصلحة المال، والعناية بأولادها وصرف داء الفساد والمخدرات عنهم والذي هو من
[ ص: 49 ] حفظ العقل.
ومن الأمثلة التي أوردها
البوطي : عمل الدولة على تقوية الجيش لدرء خطر الاعتداء، وإجبار الأغنياء بتمويل بيت المال الذي صرفت ماليته في المصالح المشروعة، فإن هذا المثال تتجاذبه مصلحتان: مصلحة الدولة في تقوية دفاعاتها، ومصلحة الأغنياء في أموالهم المأخوذة، ولا يمكن الجمع بين المصلحتين لاستحالة ذلك، إذ لو أمكن الجمع لما وجد تعارض أصلا، فيكون المخرج من هذا التعارض قائما على ترجيح مصلحة الدولة العامة على مصلحة الأغنياء الخاصة، ولأن تفويت مصلحة الدولة فيه تفويت لمصلحة الأغنياء غالبا، بعكس تفويت مصلحة الأغنياء فليس فيه تفويت لمصلحة الدولة غالبا.
وهناك أمثلة أخرى قد ذكرها البوطي في كتابه: (ضوابط المصلحة) ، وقد استخدم فيها هذا الضابط الشرعي الموزون، وهي أمثلة مهمة فارجع إليها
>[19] إن المشكلة الأدق في هذا الضابط هي إدراج النوازل والأقضية في كلياتها ومراتبها، والحكم على أن هذا الأمر هو من قبيل حفظ الدين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، وأنه ضروري أو حاجي أو تحسيني، أو مكمل لإحدى تلك المراتب، فهذا هو الأدق من غيره في
[ ص: 50 ] عملية ترجيح المصالح وهو الأشق والأصعب، والذي يتطلب استفراغا جماعيا غير يسير، وتوكلا على صاحب الشرع واستعانة به، اعتقادا وعزما، حتى يتبين لهم حق الكليات والمراتب وجزئياتها وفروعها، فإذا علم ذلك كله، تيسير أمر الترجيح، وسهلت المهمة، واقتصر على العودة إلى ميزان ذلك الضابط واتباع أولوياته في اعتبار المصالح الأهم، ومراعاة الكليات الخمس ومراتبها بحسب الأقوى اعتبار والأعظم اضطرار.
ويأتي بعد هذا أمر النظر في مقدار شمولها والتأكد من وقوعها، ليتحقق المجتهدون من أن المصلحة المنتظرة ستشمل العامة أو ستلحق بأغلبهم أو بعضهم، وسيكون ذلك الوقوع مقطوعا به أو مظنونا ظنا غالبا أو مغلوبا.
وهذا الأمر ليس باليسير أيضا، وإن كان النظر فيه أيسر من النظر الأول المتعلق بإلحاق الجزئيات بكلياتها ومراتبها ومكملاتها.
ويجدر التأكيد على أن هذا الأمر ينبغي أن تتضافر فيه جهود المخلصين وجهاد المجتهدين، حتى يعملوا فيه النظر الدقيق، تحقيقا وتحرير وتمثيلا وحسما، بغية الظفر بتتميم وتكميل ما تفضل الأوائل بوضعه وتأسيسه وبعثه.
ثم إن المهم من كل هذا هو الجانب العملي لهذا الضابط والدراسة الميدانية لتحديد المصالح وترجيحها، إذ ينظر عندئذ في النازلة
[ ص: 51 ] المستحدثة وفي متعلقاتها وملابساتها وظروفها، والمصالح التي تتجاذبها، ودرجات تلك المصالح ومراتبها ومقدار وشمولها ومدى وقوعها، وغير ذلك مما يعين كثيرا في حسم المصالح وبيان مراد الشارع نفسه أو القريب منه، وهذا يؤدي بنا إلى القول بإلزامية الاجتهاد الجماعي والمؤسساتي والشمولي من قبل علماء الشريعة وخبراء الواقع المعيش في معارفه المختلفة وفنونه المتعددة.
ضوابط العرف
العرف كما هو معلوم: ما تعارفه الناس في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وهو من المسالك الاجتهادية التي يستعان بها في تقرير أحكام قضايا ونوازل شرعية، تحقيقا لمقاصد الدين ومصالح الخلق، فهو ذو دلالة مقاصدية هامة وذو علاقة وطيدة بجلب المصالح والمنافع ودرء المفاسد والمهالك.
والحق أن ما قيل غالبا في ضوابط المصلحة المرسلة يقال في ضوابط العرف من ناحية مآل ومصير كل منهما.. فالمصلحة المرسلة هي المصلحة التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء، والعرف هو أمر تعارفه الناس، وفيه مصلحتهم التي لا تصادم الشرع، أي التي لم يلغها ولم يبعدها، وإنما اعتبرها بوجه من الوجوه.
غير أن إفراد العرف ببيان ضوابطه يأتي في سياق التأكيد على أن
[ ص: 52 ] المصلحة لها ميزان واحد في الضوابط والشروط مهما تعددت مسالك تحصيلها وطرائق تقريرها بالعرف أو اعتبار المآل أو القياس أو غير ذلك، وهذا هو الذي ينفي عنها طابع الاضطراب والتردد والاختلاف على عكس المصالح في القوانين الوضعية والفلسفات المادية، التي اختلفت إزاء بيان المصالح اختلافا كبيرا.. كما أنه يأتي جريا على عادة الأصوليين في ترتيبهم لمصادر التشريع، حيث جعلوا العرف مصدرا تشريعيا يعتد به بعد النص والإجماع والقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة.
فما هي إذن ضوابط العرف وشروطه؟
يمكن أن نجمع كل ضوابط العرف ضمن ثلاثة ضوابط أساسية،هي على النحو التالي:
* أن لا يعارض العرف المعمول به أصلا شرعيا قطعيا، سواء أكان نصا قرآنيا أو نبويا، أم كان إجماعا شرعيا، أم كان مقصد معتبرا معلوما وأمرا يقينيا مقطوعا به
>[20] *أن يكون مطردا في جميع أو أغلب الحوادث والنوازل، ولا عبرة بالقليل والنادر.
* أن يكون قائما عند إنشاء المعاملات دون أن يكون له مفعول
[ ص: 53 ] رجعي عما مضى من المعاملات والأقضية السابقة
>[21] فتعارف الناس على التبني، والشغار، والقمار، والميسر، والتختم بالذهب للرجال في مناسبات الزفاف، ولزوم المهر على الزوجة لا على الزوج
>[22] ، والأكل مما يذبح للأولياء والأضرحة، والذبح قبل صلاة العيد واسترقاق المدين.. فكل تلك الأعراف وغيرها باطلة، ومردودة وفاسدة مهما بلغت من درجات نفعها وخيرها، لأنها معارضة معارضة صريحة للأصول الشرعية القطعية.
والخلاصة، أن العرف هو الذي تألفه نفوس الجماهير وتستحسنه استحسانا ناشئا عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور، كالعقوبة للردع
>[23] وهو يعمل به في حدود الحرية التي تركها الشرع للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات دون الحالات التي تولى الشارع فيها بنفسه تحديد الأحكام على سبيل الإلزام، وإلا انقلبت الأحكام والتشاريع
>[24] ضوابط التعليل
لا نريد في هذا المجال الخوض في كلام الأصوليين واختلافاتهم في مسألة التعليل وضوابط العلة وشروطها، فذلك أمر قد يفوت علينا
[ ص: 54 ] ما نحن بصدده، وإنما نقصد في هذا السياق الإشارة السريعة لضوابط التعليل بغية التأكيد على وحدة المعيار المقاصدي في الشريعة وانضباط ميزان الاستصلاح.
والتعليل الذي نقصده، هو بحث العلل والحكم والمقاصد باستخراجها وتقريرها والقياس عليها والاعتداد بها في الاجتهاد، وهو بهذا الاعتبار يشبه إلى حد كبير المصلحة المرسلة التي لها نفس الدور الاجتهادي في بحث العلل والحكم والمقاصد تقريرا واعتمادا، غير أن هناك فروقات ملحوظة بينهما لا فتراق القياس عن المصلحة المرسلة بحسب اعتبارات وحيثيات معينة.
فالتعليل إذن ليس مجاله بحث العلل باعتبارها أوصافا ظاهرة منضبطة فقط
>[25] بل هو بحث يشمل العقل والحكم والأسرار والمصالح والمنافع وكل ما له صلة بمضمون المقاصد الشرعية.
وتتجمع كل تلك الضوابط ضمن دائرة موافقة الأصول الشرعية المقررة، والجريان على وفق النصوص والإجماعات والمقاصد المعتبرة، والاتسام بطابع الثبات والظهور والانضباط والاطراد.
فالمقصد الثابت معناه القطع بتحققه أو ظنه ظنا غالبا أو قريبا،
[ ص: 55 ] والمقصد الظاهر معناه الاتفاق على تشخيصه وعدم التباسه بغيره، كحفظ النسل الذي هو مقصد النكاح.. والمقصد المنضبط معناه أن يكون له حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه.. والمقصد المطرد معناه عدم اختلافه باختلاف الأعصار والأقطار والقبائل
>[26] خلاصة الضوابط
تحديد الضوابط العامة والخاصة للاجتهاد المقاصدي بمسالك الاستصلاح والعرف والتعليل وغيره، ليس الغرض منه تقييد العقل عن الإبداع والتحرر، وتعطيل المصالح الإنسانية أو تنقيصها وتحجيمها، أو غير ذلك مما قد يقال بسبب الجهل بطبيعة الميزان الشرعي للمصالح والتسرع والتهور في إطلاق الأحكام وبيان المواقف، أو بسبب التحامل والتشهي والتلذذ وسوء التدبير العقلي والنظري.. إن الغاية من كل ذلك تقرير المصالح الإنسانية في الدنيا والآخرة بوضع الميزان الموحد والمعيار المضبوط، لتحديد البناء المصلحي، وإخراجه من دواعي الهوى والاضطراب والاختلاف، وتحريره من دائرة التلاعب بالألفاظ والتأويلات، والاستهتار بحقيقة منافع الناس، وإخضاعها لمنطق الفوضى وقانون المنفعة الذاتية وميزان وشعار: " أعيش أنا ويفنى الباقي " .
[ ص: 56 ]