المبحث الثاني: أساسيات الواقع
تعد دراسة الواقع الإنساني من أعقد الدراسات وأعسرها، وذلك لطبيعة ذلك الواقع وتداخل معطياته وخيوطه وظواهره، وتسارع أحداثه وقضاياه ونوازله، لذلك فإن فهمه يعد أمرا مهما جدا في عملية الاجتهاد، إذ الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، كما يقول أهل العلم والمنطق، وكلما كان الفهم لطبيعة ذلك الواقع قريبا من الصواب كان تطبيق الأحكام وتحقيق مراميها ومقاصدها كذلك، ومن هنا عبر عن الاجتهاد بأنه استفراغ الوسع لتحصيل القطع أو الظن الغالب، ومعنى الاستفراغ بذل كل ما في الوسع واستخدام ما ينبغي استخدامه لمعالجة واقعة إنسانية وحوادث الزمان المختلفة بصيغة دينية وبحكم شرعي.
وفهم الواقع الذي يراد تحكيمه بالتعاليم الشرعية - وليس العكس كما يحلو للبعض ذلك، حيث اعتبروا الشرع محكوما بالواقع وهذا منتهى الجحود والكفر
>[1] - لم يكن بدعا، فقد استحضره السلف والخلف بتفاوت من حيث مقدار الفهم ودرجات صوابه وملاءمته للحقيقة، ورتبوا عليه أحكامهم وفتاواهم وآراءهم، وأبرزوا بجلاء تحقق قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال
[ ص: 65 ] وتبدلها - فيما يقبل التبديل وليس في القواطع - بتبدل الواقع الحياتي ومشكلاته وظواهره وحوادثه .
وليست المعالجات الشرعية لحوادث الدولة الإسلامية في العصر الأول ولمشكلاتها المتأتية بسبب اختلاف البيئات المفتوحة الجديدة والعادات والنظم المألوفة ومنظومة العلاقات المتداخلة في مجال الاعتقاد والسياسة وطريقة العيش وأحوال الأسرة وأساليب التعبير والتخاطب ... ليس كل ذلك إلا دليلا على أن ذلك الواقع الذي عولجت حوادثه وحلت مشكلاته قد استقر فهمه في أذهان السلف، وقد تبينت معالمه وطبيعته وسماته .
كما أن هناك الكثير من الشواهد النصية السنية، وعديد من آثار السلف والخلف، وجملة القواعد الاجتهادية الدالة على وجوب اعتبار الواقع وفهمه في الاجتهاد، من ذلك قواعد العرف والعادة وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال فيما تعددت احتمالاته وتغير بتغير الوقائع والظروف، وغير ذلك مما يدل على اعتبار الواقع والالتفات إليه في الاجتهاد.
>[2] [ ص: 66 ]
ففهم الواقع يعد شطرا ثانيا لمنظومة الأحكام، إضافة إلى النصوص التي لم تأت إلا لتخاطب الواقع وتتنزل فيه على أحسن حال، وأفضل منهج، وأقوم سبيل .. وواجب المجتهد الاطلاع على أحوال زمانه، وإلمامه بالأصول العامة لأحوال عصره، فهو يسأل عن أشياء قد لا يدري شيئا عن خلفيتها وبواعثها وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي فيتخبط في تكييفها والحكم عليها
>[3] وتتأكد عملية فهم الواقع في العصر الحالي، حيث برزت للوجود طائفة عظمى من الحوادث والنوازل في مجالات مختلفة وبخلفيات متنازعة، وجدت على ساحة الفكر والسياسة والاقتصاد والطب والأخلاق مشكلات مستعصية ودقيقة لا يمكن الحسم فيها من الوجهة الشرعية إلا بمعرفة أحوالها ودقائقها وخلفياتها ودوافعها مما يجلي حقيقتها ويحرر طبيعتها، ويساعد على إدراجها ضمن أصولها وإلحاقها بنظائرها وتأطيرها في كلياتها وأجناسها.
[ ص: 67 ]
فالحكم على المعاملات البنكية ليس ممكنا إلا بدراسة الخبير الحاذق الأمين، العارف بأحوال الاقتصاد ودقائقه وصوره ومآلاته ودوافعه وسائر متعلقاته، وكذلك الحكم في المجال الطبي وغيره من المجالات
>[4] التي تستوجب القول الفصل من ذوي التخصص والأمانة والخبرة، حتى يتم التصور الذهني الحقيقي للقضايا المستحدثة، وحتى يسهل الحكم عليها، جوازا أو منعا، حسب المنظور الشرعي .
وهذا مما يزيد في التأكيد على تجذير العمل بالاجتهاد الجماعي المؤسساتي التخصصي، وفي أهمية توعية الجماهير المسلمة وتثقيف رجالات العلم وطلاب المعرفة وشباب الأمة وتزويدها بمعلومات العصر وثقافته.
والواقع ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ومن ثم فإن فهم ذلك الواقع هو فهم تلك الوقائع واستيعابها، وتبين طبيعتها وخصائصها، حتى يسهل تنزيل الحكم الشرعي عليها، وهذا هو الذي عبر عنه الأصوليون بتحقيق المناط الخاص والعام
>[5] أي دراسة الواقعة كما هي، وهل أنها جديرة بتعلقها بالنص أو الدليل المقترح لمعالجتها أم لا؟
[ ص: 68 ]
ومثال ذلك طروء معاملة مالية في المجال الاقتصادي والتعامل البنكي، فإنه يتعين على المجتهدين والخبراء والمتخصصين كما ذكرنا تحقيق مسمى تلك الواقعة، والنظر في طبيعتها وحقيقتها، ليحكموا في حليتها أو حرمتها بمقتضى كونها نوعا من أنواع المعاوضات المشروعة، أو صورة من صور الربا الممنوع، وفرعا من فروع الغرر المحظور . ومثاله أيضا صدور اتفاق بين المسلمين وغيرهم، فإنه ينظر في طبيعة ذلك الاتفاق : هل هو صلح مبني على مصلحة شرعية ثابتة، أم أنه استسلام وخنوع ليس من ورائه سوى زيادة الخسارة والفساد والانسلاخ والذوبان؟
تحقيق المناط
هو العلم بالموضوع على ما هو عليه
>[6] والنظر في الحادثة المستجدة أو الظاهرة الجديدة، وفحص طبيعتها وسماتها وملامحها، ومعرفة شرعيتها، وتسليط الحكم الشرعي عليها بموجب تحقيق مسماها وطبيعتها . (ومعناه أن يثبت الحكم الشرعي بمدركه الشرعي لكن يبـقى النظر في تعيين محـله)
>[7] فهـو يدور بـين الواقـعة ومـا يتعلق بها من أحكام وأدلة، وهو من أعظم المسالك الاجتهادية
[ ص: 69 ] الناظرة في الوقائع المختلفة التي لا تنتهي، والتي لم ينص عليها في ذواتها وأعيانها. (الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حـدتها، وإنما أتت بأمـور كليـة وعبـارات مطـلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفـس التعيـين)
>[8] ومثال ذلك لفظ البيع فهو أمر كلي يشمل ما لا يحصى من معاملاته وجزئياته، والتنصيص لم يقع على كل واحدة بعينها، وإنما وقع على جنس البيع الشامل لمختلف أنواعه وأعيانه، فتحقيق مناط البيع هو النظر في أعيانه وجزئياته، ليحكم على أنها من جنس البيع أم من جنس غيره كالربا والغرر ونحوه . (والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق وذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا
>[9] وقد لا يكون، وكله اجتهاد
>[10] وتحقيق المناط تتفاوت مراتبه ودرجاته بتفاوت العقول والقرائح والملكات، علما وصلاحا، ودربة وخبرة، باختلاف الوقائع والظواهر، ومدى ظهور أو خفاء خصائصها وملابساتها ودوافعها وغير ذلك، وهو
[ ص: 70 ] قدر كل مجتهد ومفت وقاض وحاكم، بل هو قدر المكلف نفسه الناظر في ما يتعلق به من أحكام، فهما وتنزيلا .. فالمكلف مثلا ينظر في شرعية ما يقبل عليه من فعل للتيمم أو الإفطار أو القصر بسبب المرض أو السفر، هل أن واقعة المرض والسفر هي نفسها التي جاءت الأدلة لاعتبارها موجبة للتيمم والإفطار أم لا؟ وقس على ذلك بقية أحكام المكلف التي وجب عليه النظر فيها وفي ما يتعلق بها من وقائع ومناطات، ومرتبطات ومتعلقات .. والمكلفون في ذلك متفاوتون بحسب تفاوت ملكاتهم وأفهامهم وجهودهم العقلية في تحقيق أفعالهم وارتباطاتها بالأحكام .
غير أن تحقيق المناط مسلك منوط بأهل الاجتهاد والاستنباط أكثر من غيرهم، وذلك لأن المكلف قد يكتفي باستيعاب منظومة الأحكام وفهمها من العلماء وتقليدهم في ذلك تقليدا حسنا وبناء، مع استحسان ما ينبغي له من النظر في ذلك كله ولو بأقدار يسيرة وأحجام توصله إلى الساعين إلى صواب الاجتهاد وتثبت فيه معاني التحوط والاكتمال في الامتثال إلى الله تعالى وطاعته .
خصائص الواقع المعاصر
خصائص الحوادث والظواهر التي يراد البت فيها شرعيا ومقاصديا من الأمور اللازمة للمجتهد كما هو معلوم، غير أن هناك ما يكون ألزم
[ ص: 71 ] منها أو مثلها في اللزوم ووجوب المعرفة والدراية في عملية الاجتهاد، فلا يمكن الحكم على تلك الظواهر والحوادث الجزئية إلا بإدراك خصائص العصر الحالي وسمات أحواله وطبائعه ومعالمه ومختلف دوافعه وبواعثه الفلسفية والاقتصادية والتكنولوجية وغيرها.
ومن تلك الخصائص ما هي مشتركة بين المسلمين وغيرهم كخاصية العلمية والعملية والتخصص
>[11] والتهديد المروع للعالم بسبب النشاط النووي والكوارث البيئية والحروب المحتملة والمدمرة.
ومنها ما هو بعضي متعلق ببعض الأمم وإن كان أصحابها يسعون إلى بثها في العالم الإسلامي كالمادية والإباحية والإلحادية، وقد تكون بعض مظاهرها بارزة في بعض المناطق الإسلامية بموجب الوضع الحضاري المعاصر، وهيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي وغيره.
فمعالجة مشكلة التنـمـية في بعض الدول لن تفهم طبيـعتها ولا مظاهر تخلفها ولا وسائل علاجها وتقدمها إلا إذا نظر إليها في إطار تلك الخصائص وغيرها، فيعود سبب انتكاسها أحيانا إلى الهيمنة الاقتصادية الحاصلة بموجب امتلاك الآلياتية العلمية، وأدوات تكثير الإنتاج، كما ونوعا، واحتكار أسواق الترويج وصرف أنظار المسلمين عن التنمية الشاملة بإشغالهم بالحروب والسفاسف والمغالطات،
[ ص: 72 ] وتشجيعهم على الاستهلاك والخمول والوهن وغير ذلك، فليس من سبيل أمام المجتهدين والعلماء، أمام العامة والخاصة، إلا مراعاة خاصيات العلمية بوجوب افتكاك المبادرة العلمية والتكنولوجية، ومراعاة خاصية العملية بتجنب المهاترات النظرية والفلسفية التي ولى عهدها مع سقراط وأفلاطون، واقتفاء أثر الإمام مالك : (دعها حتى تقع) ، وكراهيته لكتابة العلم أي الفتاوى، ومراعاة خاصية التخصص والدقة، فقد ولى عصر الموسوعات والعباقرة.
>[12] إن الاجتهاد في مواجهة ما يتهدد العالم اليوم من احتمال دماره أو دمار جانب منه بموجب الطفرة التكنولوجية الهائلة، وتفاوت موازين القوى، وانعدام التكافؤ العلمي والتكنولوجي والصناعي، إن ذلك الاجتهاد لن يكون إلا في ضوء المقاصد الشرعية المبنية على وحي الله وتعاليم كتابه وسنة نبيه، تلك المقاصد المتمثلة في عمارة الكون واستدامة صلاحه بصلاح الإنسانية في دينها وقيمها، وحياتها وأمنها، وأعراضها وأموالها واقتصادياتها، وكل ما في تحقيقه تحقيق سلامة الكون من المفاسد والمهالك والدمار والفناء .
إن ظاهرة المجاعة وما تحصده من ألوف مؤلفة كل عام ليس راجعا إلى قلة الموارد والخيرات الطبيعية، وليس راجعا إلى انعدام التلاؤم بين
[ ص: 73 ] الانفجار العمراني والإمكانات الطبيعية، إنه راجع بالأساس إلى استخدام سيئ للثروات، وتعطيل فرص النماء، باحتكار وسائله، والإصرار على إماتة تلك الشعوب عمدا وعدوانا لتحقيق الأغراض التوسعية والاستعمارية والعدوانية، ولتكريس داء الأنانية الفتاكة والجشع المميت، لذلك كان ينبغي أن تتقوى همم الجائعين لاختراع ما تولده ضرورة هلاكهم البين وموتهم المحقق .
فمعلوم أن أرض الله واسعة قد جعلها الله كافية للأحياء فيها والميتين،
قال تعالى :
( ألم نجعل الأرض كفاتا *
أحياء وأمواتا ) (المرسلات:25-26) .
غير أنه أجرى نظام كونه على سنن ثابتة وقوانين معلومة،
قال تعالى :
( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43) .
إن خاصية التخصص توجب علينا وجوب الاجتهاد الجماعي في حوادث العالم ومشكلاته، فقد ولى عهد الاجتهاد الفردي وانتهى عصر النوابغ والجهابذة، وحتى إذا بقي فعلى صعيد ضيق من حيث بعض النوازل المعتادة والميسرة، والتي لا تحتاج إلى استفراغ غير يسير، وليس على صعيد عالمنا المعاصر الذي تشعبت فيه العلوم والمعارف، وصار التخصص الواحد متفرقا إلى بضع وسبعين شعبة كعلم الاجتماع.
[ ص: 74 ]
وإذا كان تحقيق المناط ينبني أولا على معرفة الموضوع كما هو، فإن معـرفة الحـوادث متوقفة على أربابها وأصحاب التخصـص فيها، فلا يجوز الحكم على قضية معينة في البنوك أو الطب أو القانون أو الفن إلا بما يقوله المتخصصون
>[13] في ذلك، ثم تتوضح شرعيته بما يقوله خبراء الشريعة وأرباب التخصص الاجتهادي المقاصدي. إن معرفة الأمراض النفسية والاجتماعية والعقدية
>[14] التي يتخبط فيها الكثير من المسلمين، يعين كثيرا على فهم ترك الامتثال وتنقيصه، ويساعد على تحديد أنجع الوسائل الإصلاحية والتربوية كتقديم الناحية العقدية على الناحية الإلزامية الحكمية، أو البدء بمعالجة الأسباب لمعالجة النتائج والآثار.
فقد يكون واقع الحرمان والخصاصة واللهف وراء القوت سببا في حصول تلك الأمراض، وقد يكون الخوف أو الطمع سببا في ذلك، وقد يكون الفهم للأحكام مختلا أو التطبيق لها منقوصا، وقد تطغى في بلد العادة والتقليد على الشرع والدين، وقد تطفو البدعة لتصير معتقدا، ويتبع المصلح فيصبح مقدسا، ويهان العالم فيصبح منبوذا، وغير ذلك من الظواهر والأمور التي تتفاوت فيها الأنظار وتختلف فيها
[ ص: 75 ] الاعتـبارات وتتـباين فيها المـآلات، وليس لها من خروج إلى سبيل إلا بتحقيق مناطاتها ومعالجة ملابساتها وحيثياتها باجتهاد شرعي بناء، ونظر مقاصدي أصيل.
إن معرفة سمات الواقع في كبريات خصائصه وجزئيات نوازله إطار مبدئي مهم وضروري لتنزيل أحكام الله تعالى وبث مغازيها وغاياتها وآثارها، ولنا في سلف أمتنا وخلفها ما يؤكد ذلك ويدعو إليه، وقد مر قبل قليل كيف أن الجيل الأول من الصحابة والتابعين قد فقهوا عصرهم كما فقهوا أحكام دينهم، بل لنا في سنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم خير التوجيهات وأعظم الفوائد في هذه الناحية، فليس تأسيـسه لما عرف بالخطاب المكي العقدي والخطاب المدني التشريعي إلا دليلا على اعتبار ما قلنا ومراعاة الواقع المكي التي كانت فيه العقلية العامة تحتاج إلى ما يعيد بناء أصولها وصياغة تصوراتها ومعتقداتها، ومراعاة الواقع المدني الذي احتاجت فيه العقلية العامة إلى ما يرشدها في التشريع والتقنين، بعد أن استقرت العقيدة في الأذهان، واستوطن الإيمان وأركانه في النفوس.
ثم إن الخطاب المكي العقدي قد تخلله أحيانا ما هو من قبيل الخطاب المدني التشريعي وكذلك العكس، وهذا كان لبعض الأفراد وفي بعض الأحوال التي انبنت على مناطاتها ومعتبراتها الشرعية.
[ ص: 76 ]