المبحث الثالث: أساسيات المكلف
المكلف هو محور عملية الاجتهاد ومدارها، فالنصوص ما جاءت إلا للمكلف، والواقع ما حدث إلا به، والذي يهمنا من المكلف عقله الذي يلائم بين مدلول النص وحوادث الواقع .
وهو يشمل عقل المكلف العادي فيما كلف به من خطاب شرعي، أمرا ونهيا، يتعلق بجملة الأوامر والنواهي التي يجب عليه فهمها وفعلها وأخذها من كتب العلم وكلام الفقهاء.
ويشمل كذلك المكلف بالاجتهاد والاستنباط والمأمور ببيان أحكام الشريعة في حوادث عصره ونوازل مجتمعه .. إلا أن الذي يعنينا مباشرة هو العقل الاجتهادي، الذي سيكون أداة التنسيق والربط بين الوحي الثابت والواقع المتغير.
فبيان حقيقة العقل ومكانته ودوره وحدوده في استنباط الأحكام، وفي التنسيق بين الوحي الإلهي والواقع الإنساني، أمر مهم للغاية وشرط لا بد منه لقيام ذلك الوحي على ما أراده الله تعالى حقيقة، وما قصده من غايات وحكم ومصالح في الدارين، ولانبناء الواقع المعيش على هدي الوحي وتعاليمه.
وكلما تبينت مكانة العقل ومهامه وعلاقته بالشرع وتطبيقاته،
[ ص: 77 ] كانت منظومة الأحكام متنزلة على أحسن الوجوه وأعظم الفوائد وأنسب للمراد الشرعي والقواطع الدينية.
وإن الباحث في هذه القضية الشائكة والتي خاض فيها أربابها منذ زمن بعيد
>[1] والتي لم يكن لها من أثر علمي سوى القليل اليسير في مقابل ما قدموه من جهود نظرية وجدلية وفلسفية كادت تعطل المقاصد الشرعية بدرء المصالح وجلب المفاسد، وتورث في الأمة المراء والجدل الكريهين، ثم إن تلك التباينات النظرية والكلامية قد سارت نحو الحسم والتحرير والتحقيق، والواقع المعاصر في حاجة إلى تعليل أحداثه وظواهره، وإلى تحسين أوضاعه وأحواله، وتقبيح فساده ومناكره وكبائره، في المعتقد والسياسة والأخلاق والاقتصاد والإعلام ونظام التعامل جملة.
فالباحث حيال هذه القضية الجدلية ليس بوسعه تقليد الأوائل في إعادة طرحها ومناقشتها، وإنما عليه النظر في أحوال عصره المتغير ومشكلاته العملية الميدانية السريعة التي تريد الحسم الفوري والإنجاز السريع، وليس العكوف مددا قد تفني العمر في المجادلات التي لا طائل من ورائها .. والأولون قد يعذرون لطبيعة واقعهم الذي فشت فيه المجادلات، واعتبرت آخر ما ظهر في فنون المعرفة والخطاب، ودعت إليها
[ ص: 78 ] ضرورة التصحيح والتصويب للمعاني العقدية والفكرية وغير ذلك.
والخلاصة، أن العقل والشرع يتكاملان في إقامة دين الله في الكون وتحصيل مقاصده في الدارين، بإصلاح المخلوق في نظمه وأحواله وسياساته ومعاملاته في الدنيا، وبإسعاده وإسكانه بجوار رب العالمين في الجنات العليا.
فالشرع ما نزل إلا ليخاطب عقل المكلف، والعقل ما بلغ رشده وصوابه إلا بتوجيه الوحي وتصويبه، وتحديد دوره وصلاحياته .
فالعقل شرط التكليف وأساس التدين
>[2] وطريق البناء الحضاري وإيجاد الوقائع بنسق متزن ومنضبط وهادف، وتنسيق لسنن الكون واستثمارها في خدمة مصالحه وحاجياته ومتطلباته .
وهو الذي يتعامل مع نصوص الوحي وأدلته، ويفهم معانيها ومدلولاتها، ويستنبط مراميها وأسرارها ومقاصدها.
وهو كذلك يباشر الوقائع والحوادث ويفهم حقيقتها وطبيعتها ويستنبط ملابساتها وحيثياتها وظروفها، ثم بعد ذلك يعمل على موازنة الوحي بالوقائع، ويجتهد في مقابلة الواقعة الإنسانية بدليها ونصها من الوحي الكريم.
إن ذلك التنسيق بين الوحي والواقع ليس بالأمر الهين، ولا يقدر
[ ص: 79 ] عليه إلا من رزقه الله عقلا فياضا يتمتع بحظوظ وافرة من الفهم والاستنباط، وإجراء التسوية والقياس والإلحاق، والتفريق والمقارنة، والتأصيل والتفريع والتركيب، والتحليل والتمييز، وغير ذلك من عمليات العقل التي لا بد منها في عملية الملاءمة بين المدلول النصي والواقعة الإنسانية المستجدة.
إن ما ذكره العلماء والأصوليون من ضروب الاجتهاد ومجالات التأويل ومسالك التعليل وسائر صور النظر العقلي، لدليل ساطع على أهمية العقل في البنية التشريعية ومنظومة الوحي العزيز.
فمباشرة المناط تخريجا وتنقيحا وتحقيقا ليس سوى مباشرة للنص ومدلوله ومعناه، ومعالجة للواقعة في ضوء ذلك النص وتوجيهه.
وكذلك الاجتهاد في المسكوت عنه من قبل الشارع غير نسيان، والذي ينبغي أن يعمل فيه بأوجه من النظر العقلي كالتعليل والإلحاق والإدراج والتسوية، وأن يؤول إلى تحقيق المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية التي تستسيغها العقول الراجحة وتتقبلها الفطر السليمة، وأن لا يؤدي إلى المفاسد والمهالك التي تأباها الأعراف
[ ص: 80 ] الحسنة والطباع السليمة، إن ذلك الاجتهاد بمختلف صوره وأوجهه لحجة بينة وحكمة بالغة على تفويض الشرع للعقل في تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة
>[3] والعقل الذي نتكلم عنه هنا ليس عموم أي عقل، بل هو العقل الإسلامي الذي ينبغي أن يتحرك في دائرة الشرع وضوابطه، وليس في منظومة الهوى والتلذذ والتشهي.
وإذا قلنا العقل الإسلامي، قصدنا به العقل الذي يتخذ من الإسلام منهجا له في تحركه وفعله واستنتاجه وحكمه، ومعلوم شرعا وعقلا ومنطقا وحسا أن الإسلام دين الفطرة السليمة ورسالة الإنسانية في اعتدالها وقيمها وإنسانيتها، فأحكامه وتوجيهاته مستساغة عقلا، مبرهنة منطقا، مقبولة طبعا، مألوفة فطرة، مستحسنة عرفا وعادة، وهذا هو الذي عبر عنه قديما وحديثا بتطابق المنقول مع المعقول
>[4] وما يظن أنه مخالف لذلك فهو راجع إلى أن الأمر بين الوحي والعقل في المناط والمحل الواحد لم يتحقق على الوجه المطلوب، كأن يرجع إلى
[ ص: 81 ] الجهل بالعربية والمقاصد،
>[5] أو يرجع إلى أن الوحي مما يعلو الفهم العقلي، أو أن يكون الوحي قد حمل على ظاهره وهو مما ينبغي أن يؤول لإزالة التناقض المتوهم بينه وبين العقل، أو أن العقل قد أخطأ فيما توصل إليه من نتائج، أو أن ما ظن من آحاد الأدلة وحيا هو على غير ذلك.
>[6] العقل الإسلامي في العصر الحالي
إننا نقصد بالعقل كما ذكرنا عقل الفرد المكلف، وعقل الخاصة من العلماء والمجتهدين، وعقل الجماعة والأمة المسلمة.
فعقل الفرد المكلف هو أداة فهمه للأحكام والامتثال إليها، وهو مطالب شرعا بمزاولة أقدار عقلية تتناسب مع إمكاناته واستطاعته، ومحمول على لزوم بذل أكبر ما يمكن من حظوظ الفهم والاستيعاب، والتفكر في الشرع والكون والنفس، بهدف تقوية الإيمان، وتصحيح التعبد والتعامل، وترشيد السلوك، وتهذيب الأخلاق، حتى بلوغ درجات الكمال أو الاقتراب منه.
أما عقل الخاصة والنخبة والصفوة فهو عقل العلماء والمجتهدين والخبراء، الذين توافرت لهم حظوظ من الفـهم والاستيعاب والتمييز
[ ص: 82 ] لم تتوفر لغيرهم من العامة، وهي تتفاوت رسوخا وعمقا بتفاوت صلاح النفس، وعمق التحصيل، وطول الخبرة، وشدة الاستفراغ، وتدريب الملكة على البذل والنظر والتأمل والمراجعة وغير ذلك.
وواجب العلماء اليوم تشكيل عقل جماعي متخصص ينظر للواقع بشمول وإحاطة واستيعاب، ويزن الأمور بميزان الجماعية التي بارك الله فيها من جهة، والتي يتوقف فهم الواقع المعاصر عليها، لما بلغته قضاياه وأحواله من تشعب وتعقيد واختلاط وتداخل في صوابه وخطئه، في حلاله وحرامه من جهة أخرى، هذا فضلا عما يتوقف فهمه على ذوي الاختصاص والخبرة لطبيعته وماهيته، وفضلا أيضا عما شاب العقل الإسلامي من اختلالات واهتزازات في الفهم والتمييز بسبب اختلاط الثقافة الإسلامية بثقافات أخرى، وليس مع ذلك الاختلاط من تحصين ووقاية وعمق في الأصالة والهوية والثقافة وتشبع بالمعرفة الإسلامية في جانبها العقدي والتشريع والأصولي، بل إن قلة ذلك التحصين أو انعدامه أحيانا راجع إلى نفس سبب ذلك الاختلاط غير المتكافئ، والمقصود به التحامل والتآمر وتشويش العقل الإسلامي، وتشويه الممارسة وتحريفها عن منهج الصواب والصلاح والسداد والرشد.
إن التحديات الفكرية والاقتصادية والحضارية المعاصرة التي تواجه الكيان العام، وتستهدف البناء القيمي التشريعي الإسلامي لن يكون
[ ص: 83 ] مقدورا عليها إلا بتشكيل العقل العام والضمير الجماعي المتشبع بالروح العقدية والفكرية الأصيلة، والروح المعنوية والوجدانية العالية، والنفس الإصلاحي التعميري الشامل، والرغبة في الشهادة على العالم، وإحياء الخيرية والرحمة لكافة الناس.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بالقصد الآخر للعقل المتصل بعقل الأمة المسلمة، أي العامة من المسلمين وعقل جماهيرهم وفئاتهم وأحزابهم وتياراتهم المذهبية والفكرية والسياسية المختلفة، فالأمة لن تقدر على التحرك بكيانها العام ودورها العالمي في القوامة والخيرية والشهادة على العالمين إلا إذا كان لها عقل جماعي، يدرك هذه الأبعاد العالمية والإنسانية والحضارية، ويميز بين سلبيات الانغلاق على الذات والتعصب للمذهب، أو التفتح المهزوم والتقليد الأعمى، وبين التكتل الأصيل والانفتاح المؤثر.
فطبقة العلمـاء المجتهدين لا يقـدرون على توجيه الأمة نحو ما اعتبروه صلاحا لها واجتهدوا في عده واجبا أكيدا في نوازل العصر ومشكلات التنمية الحضارية والتقدم الصناعي والتكنولوجي والإعلامي، إنهم لن يكونوا قادرين على ذلك إلا إذا تهيأت العقول العامة لذلك، وتصححت المفاهيم والتصورات، وانتظمت الأفكار والرؤى وفق منهجية تراعي الأولى والأهم والأصلح والأكثر فائدة،
[ ص: 84 ] وزالت همومها الفكرية السلبـية من تعصب لا مبرر له، ومن تقليد لا وجاهة له، ومن تحلل لا مسوغ له.
إن الاجتهاد في النوازل الخاصة والفتـاوى الفردية، قد لا يجد ما يعيقه من العقليات العامة الموجودة حاليـا في العالم الإسـلامي، فنرى العامة يستسيغون الكثير من الفتاوى في شؤون التعبد والاعتقاد في الحالات الفردية الجزئية، غير أننا نراهم يعزفون عن استساغة الفتاوى والاجتهادات في النوازل الكبرى للأمة وفي ظواهر ومشكلات المسلمين العامة على نحو وجوب أخذ المبادرة في التنمية والتحصن الثقافي والتزود المعرفي والعلمي، وتأسيس الآلية الإسلامية في الصناعات الثقيلة والخفيفة، وفي الاستصلاح الزراعي والفلاحي، وفي عمارة الأرض وإحيائها، والقيام بمهمة الخلافة الربانية والتكليف الشرعي على أحسن الوجوه وأتمها.
إن سبب ذلك قد يعود إلى ما أصاب العقل المسلم في العصر الحديث من اختلالات وبدع فكرية وفلسفية لم يكن لها سابق وجود لا في عهد السلف ولا في عصر الخلف، والتي حصلت بموجب عوامل ذاتية وموضوعية لعل أهمها غياب الكدح، وقلة اقتحام العقبات، وتفشي ظاهرة الوهن، والإخلاد إلى الأرض، وحب الدنيا وكراهية الموت، وكذلك التحامل المستميت لأعداء الأمة وتلاحق سلسلة تآمرها
[ ص: 85 ] وكيفيات وأشكال استعمارها، من الاستيطان إلى تغيير العقليات وتشويه الذهنية العربية والإسلامية العامة، حتى تتهيأ للصيغ الفكرية الوافدة والرؤى الأيديولوجية والتيارات الهدامة المتعددة.
فإعادة بناء العقل العربي الإسلامي وتجديد صياغته
>[7] وفق منهج الإصلاح الإسلامي، يعد من أعظم المهام الاجتهادية المنوطة بدور الخاصة من الأمة، مجتهدين ومصلحين، وقادة ودعاة وخبراء وغيرهم، بل إنه الهدف الأكبر والإطار الأجمع الذي ستؤول إليه كافة الإصلاحات والاجتهادات، العامة والخاصة، الكلية والجزئية.
وليس هذا بدعا، فهو متوارث نقلا وعقلا، فمن جهة النقل نلحظه في الخطاب المكي كما ذكرنا، حيث عمل في تلك الفترة على صياغة العقول، وتزويدها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المخالفة للبدع والهفوات الفكرية الموجودة عصرئذ على نحو الشرك وعبادة الأوثان، والاستقسام بالأزلام، والتطير، والتعصب للقبيلة، والتشفي والثأر، والتنابز بالألقاب، وغير ذلك من النعرات الجاهلية والممارسات الشركية والعرفية والسلوكية، التي خالفت في طبيعتها ومنهجها وكيفيتها طبيعة الاعتقاد السماوي السليم وخاصية
[ ص: 86 ] التعبد الإسلامي الموزون.
أما من جهة العقل، فهو معلوم ومعقول أن تكليف من ليس له عقل أو من لم يتهيأ عقله بعد، سواء بعدم نضجه بتمام البلوغ أو بتمام الاستعداد والاقتناع، هو في حكم تكليف المجانين والبله الذين وإن كان لهم عقل فهو في عالم المادة أو الحس، المتمثل في كتلة المخ المحفوظة في الدماغ، وليس عقلا يتمثل في ملكة الفهم والاستيعاب والتمييز والتفكي .
إن هذه الصياغة الجديدة للعقل لها مهمتان اثنتان:
- إعادة التأصيل للعملية العقلية، حتى لا ينظر إلى القواطع والثوابت
>[8] على أنها مما يعاد فيه النظر تحت ضغط الواقع وتأثير المتغيرات ومواكبة الحضارات والتطورات، فواجب العقل الخاص والعام التحرك في إطار المنظومة الشرعية والأبعاد الدينية والاعتقادية والأخلاقية، وفي اتجاه تقرير حق الخالق في العبودية والألوهية والحاكمية والتصرف
>[9] _ إعادة المعاصرة، وتأكيد واقعية العقل وتفاعله مع الظنيات
[ ص: 87 ] الاجتهادية المحكومة بالمقاصد الشرعية المنضبطة، ومناظرته للمستجدات والتطورات، واتسامه بالنزوع نحو العلمية والتخصصية والعملية والتجاوب مع فوائد الحضارة المعاصرة، والأخذ منها بأقدار مصلحية تستجيب للضوابط الشرعية والأخلاقية والحضارية .
ولعل من ضروب ذلك، الاستفادة مما توصلت إليه الحضارة المعاصرة من معارف ومعلومات عقلية يقينية أو قريبة من اليقين، يستعان بها خصوصا في الترجيح والتغليب، شريطة أن لا تزل بها الأقلام والأقدام، وأن لا تبنى المقاصد فيها على المزاعم والأوهام
>[10] .
[ ص: 88 ]