المبحث الثاني: الظنيات التي تقبل الاجتهاد المقاصدي
وهي المجالات التي تتغير مسائلها وفروعها بتغير الأزمان والأحوال مراعاة من الشارع، لتحقيق المصالح الإنسانية والحاجيات الحياتية المختلفة وفق الضوابط الشرعية المعلومة، وليس تقرير طابعها الظني الاحتمالي إلا لكونه ينطوي على عدة معان ومدلولات تتعين وتترجح وفق الاجتهاد المقاصدي، وتقدير المصالح وشروط التأويل وغير ذلك، وتلك المجالات هي على النحو التالي:
الوسائل الخادمة للعقيدة
ونعني بذلك مجموع الطرائق والكيفيات الدعوية والخطابية والتعليمية والجدلية التي تستخدم في بيان العقيدة الإسلامية، وترسيخ
[ ص: 98 ] مبادئها وأركانها ومسائلها في نفوس الناس وعقول الجماهير، وغرسها في عقول الخاصة والعامة، وبث آثارها ونتائجها في أحوال الحياة ومناحي الوجود وميادين الحياة عامة.
فالعقيدة الإسلامية أمر قطعي مسلم به، أما وسائل وطرائق بيانها وتجذيرها فمتغير بحسب تغير الزمان وأهله وعلومه وأحواله وأساليبه، فهي تتراوح بين الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والقول البليغ، والحجة الدامغة، والجدل البناء، والحوار الأدبي، والمناظرة الفكرية والفلسفة المنطقية، واستعمال العلوم المعاصرة والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصـال، والمكتشـفات الطبية والكونية والإنسانية، وكل ما توصلت إليه الحضارة الحالية من نتائج علمية وتجارب ميدانية قد تخدم قضية العقيدة الإسلامية، وتقوي بنيانها، وتجذر مسائلها، وتعمق الارتباط بها والاعتماد عليها .
والحياة المعاصرة اليوم هي في أشد الحاجة إلى أن يقوم أهل العلم في مختلف فنونه وفروعه بدورهم البناء في إعادة بناء العقيدة في نفوس الناس، بتطوير ما يوصل إليها من طرائق وسبل تجمع بين الموروث النقلي والمحصول العصري، وباستثمار المستجدات العلمية من وسائل سمعية وبصرية وفنية وإعلامية، وهذا ما يحتمه الاجتهاد المعاصر، ويؤكده النظر المصلحي الواقعي، مع وجوب المحافظة على جوهر تلك العقيدة
[ ص: 99 ] والإبقاء عليها صافية ونقية وسليمة من التحريف والتشويش كما نقلت عن صاحب الشرع العزيز، وكما رويت عن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم .
إنه لا يعد من المبالغة القول بأن الألوف المألفة في العصر الحاضر قد عزفت عن القراءة والمطالعة، وانشغلت بما صرفها عن ذلك من جهاد في الرزق ومتابعة للمواسم والمهرجانات الثقافية والفنية والرياضية، واستقبال الشاشات التلفزية والحاسوبية والإلكترونية وغير ذلك، ثم إن أولئك الألوف لم يكن بينهم وبين العقيدة سوى بعض الخيوط البسيطة والروابط الضعيفة التي لا يمكن أن تقوى على مواجهة ما يتحدى عقيدتهم ويتهددها،هذا إن لم نقل إن ألوفا آخرين في حالهم مع العقيدة كحال الميت مع الحركة والوعي والتعبير، إذ هم في واد والعقيدة في واد، ولا يكادون يسمعون شيئا عما يذكر بالاعتقاد الصحيح ويجدده ويقويه.
إن العلماء والمصلحين أمام هذه الحالة التعيسة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية ليس لهم من بد سوى توظيف تلك الثورة لإعادة المسلم إلى سالف عقيدته الصحيحة، ولدعوة غير المسلم إلى تلك العقيدة وإلى إعلان خضوعه تعالى، والائتمار بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه.
أليس من المصلحة القطعية والضرورية والكلية أن تربط العقيدة
[ ص: 100 ] بأجهزة الإنترنت والفضائيات ، وأن تسجل في سجلات الأجهزة المعلوماتية المختلفة بطرق مرغبة وأساليب ميسرة ووسائل معاصرة تكون مساوية أو أفضل من البرامج المختلفة التي استخدم فيها أصحابها أنفس الأساليب وأقوم المسالك بكيفية جعلت جمهور المتابعين يقدسونها ويسبحون بحمدها ويضحون بكل ما عندهم في سبيل تحصيلها ومشاهدها وترديدها والتأثر بها؟
أليس من الضرر القطعي والمفاسد الكلية والخراب المدمر أن تسخر المكتشفات الإعلامية والاتصالية لهتك القيم والفضائل، ودرس النظم والمحاسن، وتشويش العقل بما لا يحفظه، وإشغال النفس بما لا يصونها من سلامة المآل في العاجل والآجل، وتلهية الجماهير الكثيرة عن مستقبلها المنشود وحضارتها المضيئة، وإنهاكها بالإثارة والإغراء والاستخفاف والاحتقار والدعايات والمغالطات والتحريفات والمزايدات والإهانات والاستفزازات؟
أليـس من الواجـب إذن كما قال
الشـاطبي >[1] أن تسخر هذه المكتشـفات في خدمة العقيدة الإسلامية بمعناها الشامل،
[ ص: 101 ] لأنها إن لم تسخر في ذلك فستسخر لخدمة ما يفسد العقيدة ويغيبها عن نفوس الناس وظواهر الحياة؟ وهذا هو الذي قصدناه بوجوب البحث عن أنجع الوسائل وأحسن الطرائق لتحقيق القاعدة النظرية الاعتقادية التي ستكون منطلقا نحو البناء الحضاري الإسلامي المأمول.
وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى من يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل
>[2] الوسائل الخادمة للعبادات
ونقصد بها مجموع الطرائق والسبل والكيفيات التي تساعد على قيام العبادات، والمحافظة عليها، وضمان وقوعها وتعاظمها وتكاثرها بشدة الإقبـال عليها، والإكثار منها، والارتبـاط بها، وذلك بتوفير ما يكون شرعيا مقبولا، وميسرا لأدائها والقيام بها.
وأمثلة ذلك كثيرة منها : استعمال مضخمات الصوت في الآذان والصلوات والجمعات والأعياد، وترحيل الحجاج وتنظيمهم، واتخاذ طوابق الطواف والسعي بين
الصفا والمروة ورمي الجمرات، وتفويض جهات معينة لتتولى ذبح الهدي والإفادة به، كل ذلك يفعل لتجنب الازدحام والاختلاط والضرر والهلاك والتلوث والعدوى وغير ذلك،
[ ص: 102 ] وبناء الحمامات ودورات المياه، وبعث الإنارة، والتكييف المناخي، ووضع المتكآت في المساجد والجوامع والمصليات، ونقر الدفوف، وضرب الطبول، وإعلان الصيحات عند رؤية الهلال وإثبات الشهر والصوم والعيد، تعميما لفرحة عبادية كبرى، وإشاعة لعظمة المقدسات وحرمتها، وترسيخا لمعاني المظاهر التعبدية والدينية في نفوس الناشئة وأذهان العامة، وتحبيبهم في الارتباط بعبادة الخالق وطاعته ومحبته.
لقد ثبتت هذه الكيفيات والوسائل لتخدم العبادة، وتيسر أداءها، وتحقق ضمانها وكثرة الإقبال عليها وشدة التعلق بها، وهي مما استخدم فيها الاجتهاد المقاصدي الأصيل، وعمل فيها بالمصلحة الشرعية المعتبرة، إذ إن تلك الوسائل في حكم مقاصدها من حيث الوجوب والأهمية، وهي لا ينبغي أن تقدح في مشروعية العبادة ولا في جوهرها وحقيقتها.
أما إذا وجد غير ذلك فهو مردود باطل وليس له وجاهة مهما كانت المصلحة التي علل بها، كمن اقترح تغيير صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في الدول الغربية لضمان العدد الأكبر من المصلين، ولعدم حرمان المسلمين من الصلاة والاستفادة منها في بلاد الكفر، وكمن اقترح أن تصلى الصلوات على الكراسي بدلا من القيام، لتحقيق
[ ص: 103 ] الأداء الأحسن والخشوع الأفضل، وترك الإحرام من الميقات وفعله في جدة، قصد التيسير والتخفيف، ونفي الضرر المحتمل من التوارد على حمامات الطائرة، واحتمال تسرب المياه إلى أسلاكها وأجهزتها
>[3] وغير ذلك .. فالعبادة لا تفعل إلا كما أمر الشارع، والعابد لا يعرف حال تعبده إلا بفعل ما أمره به المعبود على الوجه المحدد، ولذلك قيل عن (التعبدي) إنه غير معلل ولا يعقل معناه، أي أنه لايقبل التأويل والتوظيف بحسب الأنظار والآراء والشهوات والأمزجة، فلا يعبد الشارع إلا بما شرع.
تنبيه هام: الوسائل الموضوعة شرعا لا تقبل الاجتهاد المقاصدي
الجدير بالذكر والتنبيه أن المقصود بالوسائل الخادمة للعبادة ليس هو جملة الوسائل الفقهية المصطلح عليها بشروط الصحة والتكليف وسائر ما وضعه الشارع من أمارات وعلامـات وأمـور لا تصـح العبـادة إلا بها مثل الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة والقيام والركوع والتشهد واستلام الحجر وشرب زمزم والتجرد وغير ذلك مما لا يقبل
[ ص: 104 ] التغيير ولا التعديل مهما بلغت الإنسانية من أطوار التحضر والتحرر، ومهما جودل بالمصلحة التي يراد تغيير العبادة أو شروطها بها .
كيفيات بعض المعاملات
ذكرنا سابقا أن أصول التعامل مضبوطة ومحددة ولا تقبل التغيير بموجب المصلحة والمنفعة، أما كيفيات تلك الأصول وتفاصيلها على سبيل الإجمال فهي محل نظر واجتهاد واستصلاح وتعليل في ضوء المبادئ والمقاصد الشرعية، ودون أن تعود على أصولها بالإبطال والإلغاء .
ومثال ذلك : تفاصيل تطبيق الشورى والعدل وكيفيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ففي مثال الشورى يجوز النظر في مدة التعيين وطرقه، وشروط المشاركة والترشح، وأسباب العزل، وتوزيع الناخبين، وطرق الفرز، وعلاقة المجالس الشورية أو النيابية بغيرها من مؤسسات الدولة وأجهزتها . وفي مثال العدل تتحدد في ضوء المقاصد والمصالح تفاصيل التقاضي والمرافعات والاستئناف والتعقيب والتنفيذ . وفيما يتعلق بالنظم الإدارية فإنه يقع وفق مصالح الدولة ورعاياها ضبط إجراءات العمل والتقاعد والمعاش والترسيم والتفقد والمرافقة والتربص والتأديب والعزل وغيره
>[4] [ ص: 105 ] التصرفات السياسية
وهي جملة التصرفات التي أوكلها الشارع إلى أولي الأمر من الساسة والحكام والعلماء كي يحددونها على وفق المصالح الشرعية، وذلك على نحو : إعداد خطط التنمية وسياسات التعليم والإعلام، وتنظيم الهياكل والنظم الإدارية والمالية والقضائية، وضمان الأمن، وزجر البغاة، وصد المعتدين، وتقوية الجيوش، وإنشاء الحروب، وإبرام المصالحات والمعاهدات والاتفاقيات، وغير ذلك مما يراه أهل السياسة الحكماء بمصالح الدولة، والخبراء بقواعد الشريعة ومقاصدها المقررة.
ويتفرع عن ذلك تقييد بعض المباحات، والحد من الحريات العامة والخاصة، واتخاذ التعازير والإلزامات المالية الإضافية، وغيرها مما تتعين ضرورته حسب ضوابط الدين، وشروط الاجتهاد، وقواعد الاستصلاح المقرر، وليس لمجرد الهوى والتشهي، أو بسبب الفساد المالي والسياسي، واستئثار طبقة الحكام والخاصة بمالية الأمة على حساب العامة من الرعايا والمواطنين .
النوازل الاضطرارية
وهي جملة الحوادث التي يضطر إليها المسلمون، فرادى أو جماعات، وليس لهم من سبيل سوى الأخذ بالمحظور بقدره، وإلا وقعوا في الهلاك البين والمشقة غير المعتادة، ومثالها : سائر أحكام الرخص
[ ص: 106 ] والضروريات، كأكل الميتة للمصاب بالجوع الشديد المفضي به إلى الوفاة أو الإشراف عليه، وشرب الخمر لمن أصيب بغصة مميتة له، وجواز أخذ مال الغير خشية الهلاك المحقق،
>[5] وما أشبه ذلك من الحوادث والنوازل التي يعمل فيها بترجيح مصلحة المضطر على ملازمة الحظر والمنع، كل ذلك يعمل فيه بشروط الضرورة القصوى والاكتفاء بالقدر الذي يزيلها دون بغي وتماد.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن الضرورة المبيحة للمحظور وفي الحالات الفردية أو الجماعية، ينبغي أن يتحقق منها فعلا ويتأكد مناطها ومتعلقاتها على سبيل القطع أو الظن الغالب وليس على مجرد الشك والوهم، وادعاء ما ليس فيه حجة ووجاهة.
>[6] المسائل المتعارضة
وهي المسائل التي تتعارض فيما بينها ولا يمكن الجمع بينها، فإنه يمكن الترجيح بينها باعتماد مصلحة مرجحة أو مقصد أقوى في درجة الاعتبار والمناسبة، ومن قبيل ذلك الأحكام الاستحسانية التي عدل فيها عن القياس وإلحاقها بنظائرها، لأنها لو استعمل فيها القياس لوصلت إلى
[ ص: 107 ] نتائج تأباها الشريعة الإسلامية
>[7] وأحكام الرخص الفقهية كما مر قبل قليل، وكذلك سائر ما تتعارض فيه المصالح ويكون قابلا للترجيح بحسب النظر المقاصدي والتقدير المصلحي المشروع .
عموم الظنيات
وهي المسائل التي لا نص ولا إجماع على أحكامها، والتي تسمى منطقة الفراغ أو منطقة العفو، والتي يحكم فيها بموجب النظر المصلحي والمقاصد الشرعية عن طريق القياس الفرعي والكلي والاستحسان والعرف واعتبار المآل
>[8] وهي شاملة لكل ما يقابل القطعي اليقيني مما ذكرناه سابقا، ومما يمكن أن يطرأ على مسيرة الحياة الإنسانية فيكون خاضعا للاجتهاد المقاصدي، وهذا يدل على الرفق الإلهي بالناس، وذلك باعتبار أن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل
>[9] كما يدل على مرونة الشريعة وقابليتها للتأبيد والدوام والخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
[ ص: 108 ]