تمهيد
لقد كانت مشكلة الإنسان ولا تزال إحدى القضايا المهمة التي استأثرت وتستأثر باهتمام المفكرين والفلاسفة، يديرون حولها الجدل الصاخب حول طبيعته ونزعاته ومكونات نفسه.. وبكلمة موجزة، حول حقيقته وجوهره. ومن جملة التساؤلات الكبرى التي ولدت نقاشا واسعا في هذا الصدد، ما إذا كان ذلك الإنسان خيرا جبل معدنه على الخير ومحض له، أم أنه على العكس من ذاك مطبوع على الشر ولا ينضح إلا به؟
ولقد اختلف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في الإجابة عن هذا السؤال، فمنهم من اعتبر الإنسان خيرا محضا بفطرته، بينما يرى آخرون أنه شر صرف، ويترتب على هذا أن الإنسان في غير حاجة إلى عملية التربية والتهذيب، لأن هذه العملية لن تكون مجدية بحال، (لأنه إن كان الإنسان خيرا فلا داعية إلى تخييره، وإن كان شرا صرفا فلا نفع في محاولة تطهيره)
>[1] وبطلان الموقفين السابقين ظاهر للعيان، وإلا (لما شرعت الشرائع، ولما قررت الأحكام، ولما ورد التكليف بالأعمال، ولما بين الحسن والقبح، ولما جاء الترغيب والترهيب... وحكمة الله أكبر من أن
[ ص: 45 ] يخصص للجنة قوما وللنار آخرين، ويربط استحقاق الجنة بعمل واستيطان النار بعمل، بدون أن يجعل في خلقة الإنسان الأهلية لإحدى الجهتين)
>[2] وإننا بتأملنا في كتاب الله نجد الكثير من الآيات التي تبرز طبيعة الإنسان من حيث هو،
قال تعالى:
( وكان الإنسان عجولا ) (الإسراء : 11) ،
( وكان الإنسان كفورا ) (الإسراء : 67) ،
( وكان الإنسان قتورا ) ، (الإسراء : 100) ،
( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) (الكهف : 54) ،
( وخلق الإنسان ضعيفا ) (النساء : 28) ،
( قتل الإنسان ما أكفره ) (عبس : 17) ،
( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ) (فصلت : 51)
>[3]
إذا كانت هذه هي طبيعة الإنسان كما يصفها البارئ عز وجل، فإنه في مواضع أخرى من كتابه العزيز قد امتدحه بأوصاف وخصال كريمة وسجايا حميدة،
من قبيل قوله تعالى:
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) (الفرقان : 63) .
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) (الأنفال : 2) .
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر : 9) . إلا أن
[ ص: 46 ] الحقيقة التي لا تخفى على ذوي الألباب أن هذه الأوصاف التي حملتها هذه الآيات إنما خصت بها فئة الإنسان الذي أصلح إنسانيته بالإيمان والعمل الصالح، فإذا لم يفعل عادت هذه الإنسانية خسرا لصاحبها ووبالا عليه، وكانت (حمارية) الحمار و (كلبية) الكلب خيرا من هذه (الإنسانية) في الدنيا، وأنجى منها من العذاب في الآخرة
>[4]
نستنتج مما سبق أن الإنسان، مطلق الإنسان، محكوم عليه بالخسر والإفلاس، ولن يخرج من هذا الحكم العام أو الماصدق إلا الفئة التي أشربت قلوبها الإيمان، وأثمر هذا الإيمان لديها عملا صالحا تصلح به الحياة وترشد معالمها، وهذا مصداق قوله تعالى في سورة العصر. هذه المعطيات تقودنا لا محالة إلى الحقيقة الكامنة في أن هدف التربية إنما هو نقل الإنسان (من طبيعته المعطاة إلى جوهره المثالي (وإعانته) على التخلص من الأولى)
>[5]
إن معرفتنا لطبيعة الإنسان وجوهره، وووعينا بكافة الخصائص التي تميزه ككائن، قد تجعل في مقدورنا امتلاك المفتاح الذي ندخل بواسطته إلى شخصيته، وبالتالي التعامل معها بموضوعية وفهم ونفاذ بصيرة، لحل مشاكلها وفك عقدها، ومن ثم إطلاق طاقاتها لبناء صرح المجتمع القوي، وإننا بقدر ما نخطئ الطريق إلى ذلك الفهم الموضوعي
[ ص: 47 ] الشامل، نقع في المزالق والمخاطر، فنعرض الإنسان -وبالنتيجة المجتمع- إلى الدمار. والفهم الموضوعي الشامل، يعني بالأساس أخذ الإنسان في أبعاده المختلفة والمتكاملة -المادية والروحية- حتى لا نقع عرضة لتشطير شخصية الإنسان وتمزيق أوصالها.
إن الأمر يتطلب -كما أسلفنا- فهما دقيقا لنفسية الإنسان، أي مجمل نوازعه وأشواقه، وبناء على هذا (أي الفهم) عملا جادا ودؤوبا على توفير أفضل وضع وأحسن الشروط التي يمارس فيها الإنسان إنسانيته. ولن يتأتى هذا العمل إلا إذا قام المسئولون عن تربية الأجيال بفرز العوامل والعناصر التي تتشابك وتتضافر لصنع الواقع الحالي، فـ (لقد طرأ علينا كثير من العوامل الجديدة في الأفكار والنظم والميادين، وقد أدى هذا إلى صراع كبير بين مقومات حياتنا المألوفة وبين العوامل الجديدة، مما أثار في النفوس قلقا شديدا وزعزع أسس القيم والعقائد)
>[6]
وعملية الفرز المذكورة، أو عملية التقويم للوضع المجتمعي بشكل كامل، هي وحدها التي تعطي القائمين على أمر التربية وضوحا في الرؤية، عند الشروع في الخطوات العملية في سبيل إعادة البناء والإصلاح. وإذا كان التقويم الشامل والدقيق للبناء الاجتماعي يوفر عنصر الوضوح في الرؤية، فإن التحديد الدقيق للهدف (أو الأهداف) يكسب المربين اتزانا في العمل وقصدا في الجهد.. وهذا الهدف لا بد أن يكون هو بدوره قائما على الشمول، وهو شمول يستند لا محالة على القاعدة السابقة، أي شمول الفهم لكل عناصر الموقف، ويدخل
[ ص: 48 ] فيها الإنسان والمجتمع.
وهذان الشرطان معا: الإدراك التام للعناصر ومكونات البناء النفسي والاجتماعي من جهة، والتحديد العلمي للأهداف المتوخاة، هما ركنان أساسيان، كفيلان بالإعانة على إيجاد التجانس الاجتماعي (بين أفراد الأمة وطوائفها وأصنافها المختلفة، وتدعيم هذا التجانس واستمراره على أفضل الوجوه)
>[7] والسؤال الذي يلح علينا الآن، هو سؤال عن أفضل الأهداف التي ينبغي أن تتمحور حولها عملية تربية الأجيال.. إن الجواب عن هذا السؤال يتم على مستويين:
1- المستوى الأول: هو الذي تتجلى لنا من خلاله فاعلية الأهداف، بغض النظر عن طبيعة الشحنات، وبتعبير أدق: القيم التي تتغذى عليها تلك الأهداف.. وهذا ما يعطي لنا الحق أن نذهب مع من يقول بأن (أفضل الأهداف عند الفرد، يعتمد أساسا على النظام القيمي الذي تعتنقه الجماعة، حينئذ يتحرك الفرد بما لديه من قدرات، يسهم مع أفراد المجتمع الآخرين المتوافقين معه لتحقيق مصالح الجماعة وإثراء جوانب حياتها المتعددة)
>[8]
وهذا الأمر يبدو لنا على حقيقته عندما نلاحظ على الدقة الآليات التي تجري بموجبها عملية البناء الحضاري داخل مجتمع كالمجتمع الغربي مثلا، فهو قد آمن بفلسفة معينة للحياة، وحدد لنفسه أهدافه على
[ ص: 49 ] ضوئها، وإن مبادئ تلك الفلسفة التي تشبع بها أفراد المجتمع لتمتد بجذورها لتتغلغل في أعماق التاريخ والحضارة الغربية، تستمد منها العناصر والقوى التي تشكل عامل دفع وتحريك لعجلة الحضارة الغربية.
إن المبادئ المذكورة، بغض النظر عن مدى تعبيرها عن حقيقة الكون والإنسان والحياة، وبغض النظر عن شمولها لمتطلبات الوجود الإنساني، أو قصورها عن ذلك الشمول، فإنها تمارس فعلها على كل حال في تحريك دواليب الحضارة -إلى حين- كما يفهمها الأفراد الذين ينصهرون في بوتقتها.
2- المستوى الثاني: فهو المستوى الذي تكون فيه الأهداف محددة بإحكام على ضوء الفلسفة الحقة، التي تنطلق من العلم الشـامل بحقيقة الكون والإنسان والحـياة.. الفلسـفة التي تهـتم لا بجانب أو ببعض الجوانب وتضرب ببعضها الآخر عرض الحائط، بل تنظر إلى الإنسان ككل لا تتجزأ أبعاده. ولن يملك هذا الشمول والإحاطة إلا رؤية تنبثق من دين الإسلام، الذي نزله خالق الكون والإنسان، وتولى حفظه من كل تحريف أو تبديل.
وتحقيق الأهداف -كما أشرنا- لا بد أن يمر من خلال نسق من القيم يتوخى فيها الشمول والتكامل.. نسق من القيم تتكامل فيه النواحي العقدية مع النواحي المنهجية، وهذه مع النواحي الأخلاقية. إن نظاما بهذه الخصائص، هو الكفيل بإعداد الإنسان الذي يحمل الأمانة، أمانة الاستخلاف، على وعي وبصيرة، ويمضي بها حتى نهاية المطاف دون تذبذب أو تردد.
إن ذلك النسق القيمي الرباني، هو وحده القادر على استخراج
[ ص: 50 ] طاقات الإنسان المكنونة، وتحويلها إلى خير عميم، يعم البشرية كلها وينشر فيها إشعاعه، ولا ينحصر في أطر ضيقة محدودة.. إنه وحده القادر على بعث الأمل في البشرية بعد أن أصابها وخيم عليها الوجوم واليأس. وإن محور الخلافة الذي تتكتل جهود التربية حوله هو من الواقعية بمكان، حيث لا يدع مطلبا من مطالب الذات البشرية تنمو به وتتفتق مواهبها وملكاتها وتنطلق إلى أرحب الآفاق إلا واستجاب له دون تحجير ولا تعسير، وفي إطار ضوابط تحفظ للإنسان كرامته.
وإذا أدركنا الطاقة العظيمة والهائلة التي يزود بها نظام القيم التربوية الإسلامية، الإنسان، والآفاق الرحبة التي يفتحها أمامه لتنمية الحياة وضبط سيـرورة الحضـارة البشرية في النطاق السليم فلا تزيغ ولا تتيه، إذا أدركنا ذلك، أدركنا بالمقابل فداحة الجرم وعظم الخيانة التي ارتكبها في حق المجتمع الإنساني، أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أدوات مسخرة في يد الاستعمار -عن وعي أو غير وعي- إنه إخراج الأمة الإسلامية من مسارها الصحيح، والزج بها في خضم متلاطم تقود تياراته إلى قرار سحيق.
لقد أراد هؤلاء، الذي يحسـبون في قائمة أهل الفكر والنظر -وما هم منه في شيء- أن تكون عملية التغيير منطلقة من فلسفات غريبة كل الغربة عن المجال النفسي والروحي والعقلي للأفراد الذين يستهدفهم التغيير، ويقوم على أكتفاهم في الوقت ذاته، فكان هؤلاء الوكلاء -بطبيعة دورهم- أشبه بمن يريد أن يطلق صاروخا من قاعدة خالية من شروط الدفع والإرسال.
لقد ذهلوا عن أسرار الحضارة، وغاب عن وعيهم في خضم ذلك الذهول أن الفعل الحضاري ليس فعلا ترقيعيا تلفيقيا هجينا، حتى
[ ص: 51 ] يستعير عناصره ومقوماته من خارج المجال الروحي لأمة من الأمم، فما بالك بأمة أبت المشيئة الإلهية أن تيسر لها الانطلاق في غير ظل رسالة الإسلام، إشعارا لها بأن نهضتها ومبعثها من مرقدها إنما يكون برجوعها إلى ينابيع دينها الصافية، تغسل بها ما ران عليها من أدران الثقافات المسمومة، فتخرج طاهرة معافاة، يتدفق نورها وإشعاعها في كل اتجاه، لتقول للعالم: (إن الإنسان الكامل هو إنسان أخلاق، بل هو الأخلاق قبل كل شيء. فالشرف والفضيلة والكرامة، والشهامة والشجاعة والتضحية، والنزاهة والصدق والاستقامة في المعاملة، والتواضع والوقوف إلى جانب الحق، والصبر عند الشدائد، وتحمل المسئولية، والاعتماد على النفس، هي بعض الأخلاق التي يجب أن نغرسها في نفوس أبنائنا، مهتمين كذلك بالأخلاق العلمية كالتدقيق والضبط في القول والعمل، وبالأخلاق الاجتماعية كحب النظام والتعاون والثقة المتبادلة، ورعاية عواطف الآخرين، والشعور معهم، وحب خدمة المجموع، والمحافظة على المواعيد...)
>[9]
ولسنا نشك لحظة واحدة في أن القادر على تخليص البشرية من شقوتها، وتزويدها بمنهج الحياة الصالح هي هذه الأمة الإسلامية. ومن هنا بات من اللازم أن تبادر هذه الأمة إلى الاستجابة لأجيالها الشابة، التي تتوزعها لحظات التمرد والحلم، وتتعطش لمنهج يعطيها الأمن، ويلبي مطامحها، ويردم الهوة التي حفرتها الحضارة بين روح الإنسان وجسده، فعرضته بذلك للتمزق والضياع
>[10] [ ص: 52 ]