إمكانية قياس القيم إذا كانت معظم الفلسفات تعتبر القيم من حيث بعدها المطلق (ما ينبغي أن يكون) ، فقد أصبحت هناك في الوقت الراهن نزعة إلى تحديد القيم على أساس الدقة، عن طريق قياسها بطريقة إجرائية.. ويمكن التمييز داخل هذه النزعة أو الاتجاه بين أربع فئات: الفئة الأولى تنظر إلى القيم بوصفها اهتمامات أو اتجاهات إزاء أشياء ومواقف أو أشخاص، (لذا فإنه يمكن قياس القيم من خلال تصميم مقاييس معينة يعرض فيها مواقف مختلفة، ويطلب من المرء أن يستجيب باختيار بديلين أو أكثر.. وتضم هذه المواقف اهتمامات الأشخاص بالأنشطة والأشياء المختلفة، أو تتعلق بمعاييرهم ومثلهم العليا)
>[1]
والاتجاه الثاني يقوم على أن المؤشر الرئيس للقيم هو السلوك، وهذا يعني أن تلك القيم تدفع أصحابها إلى أنماط معينة من السلوك، لذا يرى "بارسونز" أن القيم التزام عميق من شأنه أن يؤثر على
[ ص: 66 ] الاختيارات بين بدائل الفعل (السلوك)
>[2]
ومن خلال طرح تلك البدائل أمام الشخص، يمكن معرفة القيم التي يتبناها.
ويؤخذ على هذا الاتجاه والذي قبله -هذا فحوى كلام "د.زاهر"- أن اتخاذ الشخص لموقف معين أو إظهاره التوافق مع اتجاه معين، لا يدل دائما على أنه هو الاتجاه أو الموقف المرغوب لديه، بل قد يكون هو السلوك المرغوب في ثقافته
>[3]
والواقع أننا إذا دققنا النظر في هذه المآخذ التي سجلها "د. زاهر" على الاتجاهين السابقين، أدركنا أنها مصيبة في جانب، مجانبة للصواب في آخر، ذلك أنه إن وجدت في المجتمعات فئات واسعة من الناس تساير المجتمع أنى سار وتخضع للضغط الاجتماعي، بسبب قلة في الوعي وضيق في الرؤية، فإن فئات من الناس -وإن كانت قليلة- تحقق إلى حد كبير التجانس والتوافق بين القيم التي تعتنق والسلوك الذي يصدر عنها. وقد يبلغ بها تمسكها بقيمها حد الاستماتة وبذل النفس في سبيلها، وذلك هو ديدن المصلحين الذين ينشدون تغيير المجتمعات وإنقاذها من الركود وسلطان العادات السيئة والتقاليد البالية.
أما الاتجاه الثالث، فهو الذي يجمع في قياسه للقيم بين مؤشري السلوك والاتجاه. وأخيرا الاتجاه الرابع الذي يقيس القيم من خلال التصريح المباشر بها
>[4] إننا بالنظر إلى هذه الاتجاهات في ضوء التصور أو المذهبية
[ ص: 67 ] الإسلامية، يمكننا أن نمسك بالمقياس الذي يدلنا على نوعية القيم التي يأخذ بها فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعات داخل المجتمع الواحد... إن الإسلام يخبرنا مثلا وهو يتعرض للقيمة الكبرى، وهي الإيمان بالله، التي تنبثق عنها سائر القيم الأخرى، يخبرنا أن مقياس ذلك الإيمان هو العمل الصالح، فالإيمان:
( هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ) >[5]
والفصـل بين الإيمـان والعمل يدخل صاحبه في زمرة المنافقين الذين أعـد الله لهـم الدرك الأسـفل من النـار، مصـداقا لقـوله تعـالى:
( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) (النساء : 145) .
وهكذا، فكل قيمة يتشبع بها المسلم لا بد أن تظهر آثارها من خلال السلوك الصادر عنه. إلا أن القوة التي يظهر من خلالها السلوك، تعرف ولا شك تفاوتا يمكن أن نمثل له بسلم متفاوت الدرجات، يتبارى الأفراد في الإسلام من أجل الحصول على أعلاها، كل حسب قوة إيمانه وخصائصه النفسية وأساسه التربوي .. قال تعالى:
( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) (المطففين : 26) ،
وقال تعالى:
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) (آل عمران : 133) .
وبعبارة موجزة نقول: إن مقياس قيمة أو نسق كامل من القيم، إنما يظهر سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الحضارات، من خلال الآثار التي تترجم عنها الدوائر السابقة.
[ ص: 68 ]