سيادة القيم التربوية الإسلامية في المجتمع الإسلامي (عصر النبوة فما بعد)
من المعروف أن شخصية الإنسان تخضع لعنصرين، عنصر الوراثة وعنصر البيئة، فمبقتضى هذا الأخير، إما أن تنفتح الفطرة وتجد مرتعها الخصيب الذي يضمن لها السلامة والطهر، وإما أنها على العكس من ذلك -تصطدم بشتى العوائق التي تسد دونها المنافذ وتحكم حولها طوقا من الظلمة الدامسة. وإذا نظرنا إلى الإنسان في ظل عصر النبوة والعصور الزاهية التي عرفتها الحياة الإسلامية، وجدنا أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد سعدت بإطارها الرحيب الذي أعطت فيه ثمارها.. وقدمت مباهج إبداعها.. وما ذلك الإطار الرحيب سوى نسق القيم، الذي حركت دفقاته العظيمة مكامن الإنسان، فراحت تعرض لنا من المشاهد الرائعة والصور الجميلة ما هو
[ ص: 77 ] جدير بالوقوف عنده، بكل خضوع وإجلال..
ولقد سبق لنا أن عرفنا أن من أخص خصائص التصور الإسلامي للألوهية والحياة والكون والإنسان، الشمول.. ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه أن ذلك التصور مع شموله فهو واقعي إيجابي، وهو يكره بطبيعته أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي، لأن هذا يخالف طبيعته وغايته.
فإذا أتينا إلى القيمة الإيمانية، وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجدنا أن هذا الإيمان هو الآصرة التي تجمع بين القلوب، والمقياس الذي يقوم عليه الحب والكره والوئام والخصام.. فإذا انفصمت هذه الرابطة لم تفد في تعويضها أواصر الدم والقربى. فالأخوة الحقة إنما تنحصر في نطاق الإيمان بالله عز وجل مصداقا لقوله تعالى:
( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات : 10) ، ويكون ولاء المؤمنين فيما بينهم قائما على رابطة الإيمان وما يقتضيه من تبعات لا تنفك عنه،
قال تعالى:
( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) (الأنفال : 72) .
إن العقيدة التي تدفع صاحبها لأن يضرب صفحا عن العرى الكاذبة والخيوط الواهية لخليقة بأن يفيض من ينابيعها أروع القيم،
[ ص: 78 ] التي تختلط بالمشاعر، فينطلق منها أريج لا ينقطع شذاه، هو تلك المواقف الخالدة التي لا تنفك أصداؤها تتردد في الآفاق لتعلن للعالمين أن أمثالها لا يمكن أن تحدث إلا في ظل الإسلام العظيم.. لقد انطلق تيارها ليجوب نفوس المسلمين بجميع فئاتهم من الأئمة المسلمين.
ولقد أعطى الجيل القرآني الفريد -الذي تربى في رحاب مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم - البرهان الساطع على الثبات أمام مطامع الدنيا وشهواتها وهم على قدرة على الإمساك بها. لقد انحنت جاثية عند أقدامهم، ولكنـهم زهـدوا فيها في إباء وشموخ، وأشاحوا عنها بوجههم حتى لا يسقطوا صرعى لغوايتها وسحرها.
وأنى وليت وجهك وأنت تبحث عن تجسيد للقيم السامية التي تتسنم بها النفوس القمم السامقة، وجدت ما يروع وما يعجب، في التواضع والمساواة والكرم، وفي الإخلاص ونكران الذات، والصدق، والتعاون، وغيرها من المثل العليا.
وهذا التجسيد للقيم لم ينضب معينه، ولم ينحصر في عصر النبوة وحسب، ولكنه ظل يترى ويظهر عبر عصور التاريخ الإسلامي على تفاوت فيما بينها في الإشعاع والتألق، وذلك بمقدار ما كانت تتفاوت في الاقتراب من النبع والاغتراف من خيراته وكنوزه والتزود من طاقاته، وعلى تفاوت كذلك في الكثرة.
[ ص: 79 ]