بـدايـة الصـراع
لقد ظلت القيم الإسلامية تهيمن على حياة المسلمين منذ عصر النـبوة وعبر العـصور التـاريخية المخـتلفة، ولكن بمقادير متفـاوتة، كما سبقت الإشارة، إذ بقدر ما كان المسلمون يتشبثون بالينابيع الصافية لدينهم الحنيف، بقدر ما كانت آثارذلك تظهر على سلوكهم، وتعبر عن نفسها أبلغ تعبير فيما كانوا يحققونه من عطاءات ثرية للحضارة الإنسانية في الميادين الإنسانية الخلقية، وكذا في مجال الإبداع العلمي. وظلت منارات الإسلام ترسل إشعاعاتها حتى في بعض الظروف التي تميزت بالضعف والارتخاء، إلى أن جاءت الضربة القوية من جانب الاستعمار، الذي بدأت طلائعه السوداء تخيم على ربوع العالم الإسلامي، فبدأت القيم الإسلامية في التلاشي، وبدأ كيان
[ ص: 87 ] المجتمع الإسلامي في الانحلال.
وإذا كانت المعاول التي استخدمها الاستعمار (التنصير، البعثات الدراسية إلى الخارج، وسائل الإعلام، نشر المدارس الأجنبية في البلدان الإسلامية، الاستشراق) قد تضافرت في الإجهاز على الكيان الإسلامي وعلى الشخصية الإسلامية، فإن حركة الاستشراق الماكرة قد كان لها الدور الفعال في بث السموم ونشر الأباطيل التي تفعل فعلها المدمر في عقل المسلم ونفسه، وتحوله إلى جسم مشلول أو مقطوع الصلة بأمته وكيانه الحضاري الأصيل، بل أكثر من ذلك تجعله يتحول إلى عنصر هدم وتدمير في بناء الأمة، بحيث يتنكر لها ويناصبها العداء.
لقد وجه الدارسون للإسلام والحضارة الإسلامية من المستشرقين، جهودهم إلى تمهيد نفوس المسلمين لقبول واستقبال الهيمنة الأوروبية بكامل الرضا والاطمئنان، والإقرار لها بالولاء .ومعنى ذلك، بل وسيلة ذلك هي إضعاف القيم الإسلامية عن طريق تقديم شروح وتأويلات تعسفية ومشوشة لمفاهيم الإسلام وقواعده، وصولا بشباب المسلمين إلى مرحلة الشك واهتزاز اليقين بتعاليم الإسلام وقداستها، فـ "رينان" على سبيل المثال يصور عقيدة التوحيد في صورة قاتمة، تجعل منها عامل قلق وحيرة، وهي التي توحد القلوب والمشاعر، وتصنع التماسك بين الأفراد.
[ ص: 88 ]
إن السموم الناقعة التي دأب المستشرقون - ويعمل تلامذتهم الآن في ديار المسلمين- على نفثها، قد آتت أكلها وأعطت ثمارها المرة في صفوف أجيال الشباب الإسلامي.. وأخطر وسيلة اتخذت لذلك، قنوات التعليم التي يمارس من خلالها المعلمون والأساتذة المستلبون أثرهم السحري، فيخرج على أيديهم أجيال فارغة الفؤاد، بليدة الإحساس، يصدق عليها بحق قول المفكر والشاعر الإسلامي الكبير "محمد إقبال" رحمه الله: (إن الشباب المثقف فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح، مستنير العقل، كليل البصر، ضعيف اليقين، كثير اليأس، لم يشاهد في هذا العالم شيئا، هؤلاء الشبان أشباه الرجال ولا رجال، ينكرون نفوسهم، ويؤمنون بغيرهم (...) إن المدرسة قد نزعت منهم العاطفة الدينية وأصبحوا في خبر كان، أجهل الناس لنفوسهم وأبعدهم من شخصياتهم، شغفتهم الحضارة الغربية، فيمدون أكفهم إلى الأجانب ليتصدقوا عليهم بخبز شعير، ويبيعون أرواحـهم في ذلك (...) إن الإفـرنج قد قتلوه من غير حرب وضرب، عقول وقحة، وقلوب قاسية، وعيـون لا تعف عن المحـارم، وقـلوب لا تذوب بالقـوارع، كل ما عنـدهم من عـلم وفن وديـن وسيـاسة وعقل وقلـب، يطـوف حـول الماديـات، قلوبهم لا تتـلقى الخواطر المتجددة، أفكارهم لا تساوي شيئا، حياتهم جامدة
[ ص: 89 ] واقفة متعطلة)
>[1]
هذه هي الوضعية الأليمة المحزنة التي آلت إليها نتيجة الصراع بين حضارة الإسلام، بل بين مسلمين لم يحفظوا حضارتهم ولم يراعوا ميثاق وعهد ربهم، وبين حضارة الغرب... ولكن لسوء حظ هذا الغرب الشارد، فخزائن الإسلام لم تنفد، وجذوة الإسلام لا يكاد يخبو أوارها، حتى تعيد الكرة من جديد، فتينع وتتوهج لاستعادة الحياة الإسلامية، على أساس القيم الإسلامية.. فما هي هذه القيم التربوية، وما مقابلاتها في المجتمع المعاصر؟
هذا ما سأتناوله في الفصل القادم بإذن الله.
[ ص: 90 ]