القيم التربوية المادية (في المجتمع المعاصر) بعد انتهائي من الحديث عن القيم التربوية في الإسلام، أشرع في التطرق إلى القيم التربوية في المجتمع المعاصر، وأول نقطة تستوقفنا في هذا الصـدد، هي الأسـس الفلسـفية التي تقوم عليها تلك القيم.. فما هي هذه الأسس؟ وبعبارة أخرى: ما الذي يحدد النظرة المادية إلى الكون والإنسان؟
أ) تنظير أسس القيم التربوية المادية
لقد تشكل فكر الغرب ومنظوره للكون والإنسان والحياة، في خضم مؤثرات تاريخية تمتد بجذورها إلى آماد بعيدة، وقد عرف ذلك المنظور عدة تطورات، انتهت إلى صورته الحالية.. (فقد انتقل الغرب
[ ص: 105 ] من الإيمان بآلهة اليونان والرومان الوثنية، إلى الإيمان النصراني ضمن المفاهيم الكنسية والنظام الكنسي (الأكليروس) ، ثم أخيرا إلى الإلحاد والمبالغة في الاتجاه العقلي في القرن التاسع عشر الميلادي، مما أدى إلى التفلت من الكنيسة ومعتقداتها، حيث اعتبرت حليفة للإقطاع والرجعية، ومخدرة للشعوب ومناقضة للعلم، فظهرت العلمانية والنزعة غير الدينية التي انحرف في أحضانها منهج البحث الغربي عن أصوله الإسلامية، فلم يعد يعترف بعالم الغيب أو ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقية) ، وإنما يعترف بالعالم المادي المحسوس وحده)
>[1]
ومن هنا، فإن الحضارة الغربية المعاصرة تنكر وجود الله والدار الآخرة، وتؤكد هيمنة الإنسان. وقد كانت هذه النتائج في الحقيقة، بالإضافة إلى جذورها التاريخية المشار إليها، ثمرة لذلك الفصام النكد بين الحضارة الغربية والكنيسة الضالة... وعبرت تلك النظرة اللادينية عن نفسها في مجموعة من النظريات الفلسفية، تلتقي كلها عند قاسم مشترك، كالوضعية التي تنظر إلى الإنسان باعتباره صانعا لقيمه ومتخذا لنفسه دينا وضعيا يستغني به عن الأديان والقيم القديمة، والماركسية التي جعلت من الإنسان كائنا يتشكل مصيره في ضوء تغير أدوات الإنتاج، فأخضعت سلوكه من ثم للعامل الاقتصادي، والداروينية التي نظرت إلى الإنسان نظرة حيوانية، على أساس التشابه الظاهري في
[ ص: 106 ] القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات، مغفلة الفرق النوعي بين الحيوان والإنسان الذي يتمثل في تميز الإنسان بالعقل والإرادة... وهكذا أثرت هذه النظرة تأثيرا خطيرا على الموقف من القيم والإنسان، ظهر من خلال (إنكار ثبات الصفات الخلقية والإنسانية والقيمية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيوانا اجتماعيا متطورا، لا ضوابط لتغييره، إلا في إطار تكوينه الحيواني )
>[2]
ويمكن أن نجمل العناصر المشتركة بين الاتجاهات الغربية في النظرة إلى التاريخ والإنسان فيما يلي:
أ- إن النفس الإنسانية لا تتمتع بحرية الإرادة، لأنها مقيدة بحدود الزمان والمكان.
ب- إن الوجود الجماعي الموضعي هو وحده الوجود الحقيقي، أما الوجود الفردي المتنقل فما هو إلا وهم.
ج- إن القوة الاجتماعية هي المسئولة مسئولية كاملة عن تشكيل قدرة الإنسان، وليست الذات الإنسانية.
د- لا توجد حقيقة خالدة، ولا يوجد معيار موضعي عام للأخلاق والعدل. وترتبط هذه المفاهيم الغربية بالزمان والمكان، أي أنها نسبية، ومن ثم فليس هناك قانون عام
>[3] [ ص: 107 ]
إن تأملنا في الاتجاهات أو النظرات السابقة التي تسري روحها في كل من النظام الرأسمالي والماركسي والشيوعي يبرز لنا تركيز هذين الأخيرين اهتمامهما على الجانب الخارجي للإنسان، أي ما يتعلق بحاجاته المادية من أكل وشرب وثروة واكتشاف لقوانين الطبيعة ومعالجة لمشكلات الإنتاج والطبقات.. ويعتقد النظام الرأسمالي والشيوعي أن الاهتمام بالقضايا المذكورة كفيل بحل مشكلة الإنسان، (وأن التغيير الخارجي يؤدي حتما إلى التغيير الداخلي، وأن تحسين وضع الإنسان المادي والاجتماعي يؤدي حتما إلى تحسين روحيته وأخلاقه وقيمه وإنسانيته. وهذا صحيح إلى حد.. فتأمين ضروريات العيش تحسن وضع الإنسان، ولكن الإنسان في النهاية يستيقظ وينتبه للهم الأساسي الذي يضرب نفسيته، الهم الذي اكتشفته الفلسفة الوجودية ولم تستطع معالجته، لأنها ألغت الدين والقيم الروحية) (19) .
تحديد المراد بالقيم التربوية المادية
نقصد بالقيم المادية تلك القيم المنبثقة من التصور المادي، أي القيم التي تأخذ في حسبانها حاجات وتطلعات الإنسان المادية، على اعتبار أنها وحدها الموجودة، أما الجانب الروحي فيبقى عرضة للإهمال لأنه ليس معترفا به أصلا... وما يبدو في إطار النسق القيمي الغربي ذا مسحة روحية، فإنه لا يحمل تلك الصفة عن حق، لأنه يفتقد إلى الشحنات الروحية الحقة التي تمده بقوة الوجود والاستمرار، فقد
[ ص: 108 ] يتحدث أصحاب التصور المادي عن بعض المعاني الإنسانية كالعدل والحرية والمساواة والتعاون والكرم وغيرها، ولكن هذه القيم تفقد مضمونها في غياب الجانب الروحي الذي يشكل معينها الثري ورصيدها الدائم، الذي لن يكون لها من دونه وجود.
(ب) القيم التربوية المادية
1- القيم العقدية إن العقيدة في ظل النظريات الفلسفية والتربوية في الغرب، تتشكل طبقا للرغبة.. فالرغبة في شيء معين هي التي تولد في العقل حوافز الاعتقاد بالكون أو الوجود حسب مقتضيات تلك الرغبة. وعلى المناهج التربوية -هناك- أن تيسر للعقل سبيل هذه الحوافز
>[4]
ومن هنا فلا مفر من أن يقع الإنسان في الغرب عرضة لتضارب العقائد، ونهبا للتيارات التي توزع عقله وتشتت قواه، فيشعر وكأنه في دوامة عاصفة:
( فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) (الحج : 31) .. والنظريات الفلسفية التي سبق أن تطرقت إليها، دليل واضح على هذا.
2- القيم المنهجية الموجهة لنظرة الغرب لقد رأينا عند التطرق إلى القيم المنهجية في الإسلام، أن تلك القيم مستوحاة من توجيهات القرآن الكريم، الذي حرك العقل السليم ليتدبر في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل في آفاق خلقه الواسعة، ولينتهي به ذلك
[ ص: 109 ] الجهد الفكري التأملي إلى وضع يده على دلائل النظام وآيات التنسيق التي تقوده إلى اليقين بوجود تلك القوة الخفية المدبرة لهذا الكون.. فالروح المنهجية التي تشبع بها علماء الإسلام قد استمدت لحمتها وسداها من داخل الإسلام، ولم تكن في يوم من الأيام تعيش في انفصال عنها. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين، فإن القيم المنهجية عند الغربيين قد عرفت انفصالا عن الدين، ونمت وتطورت في معزل عنه.
فإذا تعلق الأمر مثلا بالمنهج التجريبي، فإن عالم الطبيعة الغربي يقف عند حدود القوانين المادية التي تكشف أبحاثه وتجـاربه عنها، ولا يتجاوز إلى ما وراءها، أي إلى علة العلل أو مسبب الأسباب وهو الله عز وجل. أما إذا كان المجال هو مجال علم الاجتماع، فإننا نجد عالم الاجتماع الغربي أبعد ما يكون عن التوجه بأشعة النقد إلى الأهداف والغايات النهائية للمجتمع، وقصارى جهده، إنما يتركز على الوسائل المؤدية إلى تحقيقها، فهو إذن يقف عند وصف تلك الأهداف ليس إلا... وهذا على عكس عالم الاجتماع المسلم الذي يظل حريصا على القيم الإسلامية، بحيث يبادر إلى نقد كل الأوضاع والتغييرات
[ ص: 110 ] الاجتماعية التي تتعارض مع طبيعة الإنسان وفطرته
>[5]
إن إفراغ العلوم من شحنتها الدينية، أصابها بالعقم والانحطاط، وأوصلها إلى الطريق المسدود، (فعلى الصعيد الفردي، دعت العلوم الاجتماعية إلى الاعتماد على الذات، وتقويتها لأنها منبع القيم المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده، وأصبحت الحرية في نظر الغرب كافة متساوية مع الممارسة، التي لا تخضع لمبدأ أو قانون، بل تصدر عن الإرادة الشخصية مجردة)
>[6]
نخلص من المعطيات السابقة إلى أن أحادية النظرة التي حكمت الرؤية المنهجية عند الغربيين، سواء تعلق الأمر بعلوم الطبيعة أو علوم الإنسان، أفضت بشكل حتمي إلى أزمة خانقة، عبرت عن نفسها أبلغ تعبير فيما يصيب الغرب من انتكاس على مستوى الأخلاق والعلاقات الإنسانية بصفة عامة، بعبارة أخرى في القيم التي تسود تلك العلاقات.
وفيما يلي نظرة على بعض تلك القيم المنبثقة عن رؤية الغرب للحياة والكون والإنسان.