- مقارنة ودراسة
بعد التطرق للقيم التربوية في الإسلام وفي المجتمع المعاصر، يجدر بي أن ألقي نظرة شاملة أقارن فيها بين نسقي القيم التربوية في الإسلام والمجتمع المعاصر، وسوف تتمحور هذه المقارنة حول نفس النقاط التي تناولها التحليل، بصورة إجمـالية، على أساس أن تلك النقاط أو المحـاور حلقات مترابـطة يأخذ بعضـها برقاب بعض، فالنسق القيمي لا مناص له من رؤية تصورية أو أساس عقدي منه ينبثق، ومنه يستمد إمكانية الحركة وخط السير، ولا مناص له من منهج نحلل من خلاله الظواهر على اختلافها، ولا بد له بعد ذلك من قيم جزئية تستقي مقوماتها منه...
الجانب العقدي هناك مجموعة من التساؤلات حول القضايا
[ ص: 118 ] الوجودية الكبرى التي تشرئب الفطرة لمعرفة الإجابة عنها، هذه القضايا ترتبط بالأصل والمصير. ورغم أنها تستأثر باهتمام الناس بشكل متفاوت (المفكرون والعامة) ، فإن الإجابة عليها -على كل حال- تظل قضية مصيرية بالنسبة للمجتمع، إذ عليها يتوقف معنى الحياة والوجود الإنسانيين.
(وحين تضل الإجابة، يضل السلوك، وتقع الحيرة، ويحدث التمزق، إن الحيرة الكبرى التي تعيشها (الجاهلية) الحاضرة هي الإجابة على هذه الأسئلة: من أين جئنا؟ لماذا جئنا؟ إلى أين نذهب؟ ولماذا نعيش؟ ولأنهم لا يجدون الإجابة على هذه التساؤلات التي تلح على فطرتهم، فإنهم يمرقون ويعربدون في الأرض، ويقولون: نبحث عن وجودنا، نريد أن نعرف لماذا نعيش؟ نريد أن نحس طعما لحياتنا، نريد أن نرى معنى لوجودنا في الأرض)
>[1]
لقد أجاب الإسلام إجابة شافية للنفس مقنعة للعقل، على هذه الأسئلة الجوهرية، فحدد الأصل الذي جاء منه الإنسان بكل الوضوح والدقة، وحدد الوظيفة التي خلق من أجلها الإنسان، وهي القيام بمهمة الخلافة على الأرض، وحدد المنهاج المتبع في هذه المهمة والكفيل
[ ص: 119 ] بإنجازها على الوجه الأكمل، وحدد المصير الذي ينتظر الإنسان الخليفة بعد رحيله من هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية. أما الحضارة المادية المعاصرة، فقد ظلت تتأرجح بين المذاهب والتصورات البشرية القاصرة، ولم تثبت على حال، ولم ترح عقل الإنسان الذي ينتمي إليها، لأنها لم تفلح في الجواب على أي سؤال من الأسئلة السابقة، ومن أين لها ذلك وهو يتجاوز طاقتها، ولا هو من شأنها؟!
فالعقل الإنساني ليس بقادر على اختراق حجب الغيب والكشف عما يستجد في حياة الإنسان من أوضاع وأحوال، وهو قبل ذلك جاهل بحقيقة النفس الإنسانية وأوتارها وآلياتها، فهو (أي العقل) يظل حبيس ما يكتنفه من أوضاع اجتماعية واقتصادية وغيرها.
إن الاختلاف بين الإسلام والفلسفة المادية في المنطلق العقائدي، كان له أثره الحتمي على خصائص القيم المنبثقة عن كل منهما.. فبينما القيم في الإسلام يطبعها الثبات والعمق والوحدة، فإن القيم المادية لا تنعم بأية خاصية من تلك الخصائص، ولذلك فإننا نجد المجتمعات الغربية المعاصرة (تكيل بمكيالين، وتتعامل بوجهين، وتطبق الدساتير العادلة داخل بلادها دون أن تستخدمها في مستعمراتها)
>[2] [ ص: 120 ]
وإذا كان الإسلام يتسم في نظرته إلى الإنسان بالواقعية، التي يأخذ بموجبها كل أبعاد الإنسان الحيوية بعين الاعتبار والتقدير، فإن المذاهب المادية التي حفل بها المجتمع المعاصر كثيرا ما سقطت في الطوباوية والخيال المجنح بعيدا عن الإنسان الواقعي، وما ذلك إلا للجهل المطبق بالإنسان ومكوناته.
إن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة تكريمية، تعتبره خليفة في الأرض، مفضلا على كل ما فيها من كائنات.. أما النظرة المادية فهي تهدر كرامة الإنسان وتمرغها في الأوحال، فهو عندها لا يعدو أن يكون فصيلة من فصائل الحيوان.
وإذا كانت المذاهب المادية المعاصرة تنحو منحى متطرفا في تعاملها مع الكيان البشري، بحيث إنها تضرب على أوتار المادية الغريزية وتكبت فيه أشواقه الروحية، فإن الإسلام يحقق توازنا رائعا بين مطالب المادة والروح، بحيث لا نجد أدنى تناقض بين القيم ذات الوجه المادي، والقيم ذات الوجه الروحي.
وإذا كانت النزعة المادية لدى الإنسان الغربي، والقيم الصادرة عنها، تصور علاقته مع الطبيعة في صورة الصراع العنيف الذي يسعى الإنسان من خلاله إلى السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لرغباته، فإن
[ ص: 121 ] قيم الإسلام تبرز العلاقة القائمة بين الإنسان والطبيعة في صورة تجانس وانسجام بينهما، وفقا للسنن التي بثها الله تعالى في الكون.. والقرآن الكـريم يعبـر عن هـذه العلاقة بالتسخير:
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) (الجاثية : 13) .
- ارتباط الأخلاق بالدين في الإسلام وانفصالها عنه في الغرب
بقيت أمامنا في مجال المقارنة بين الإسلام والغرب، قضية هامة تتعلق بصلة الأخـلاق بالدين.. وليـس المطلوب هنا حديثـا نظريا عن نشأة الأخلاق والدين، وإنما عن علاقة الدين بالأخلاق من حيث تحديد القيم الواجب التحلي والاتصاف بها، أولا، ومن حيث تأثير هذه العلاقة في إعطاء القيم والفضائل أكلها في مجالات الحياة والعلاقات الإنسانية.
لقد سبق القول في مكان آخر من هذا البحث: إن الإسلام يربط الأخلاق بالشرع، فالشرع هو الذي يحسن ويقبح ... وليست الأخلاق متروكة للإنسان ينظر فيها بعقله، لأنه فضلا عن كونه بطبيعة آفاقه المحدودة عاجز عن العثور على نسق شمولي يستجيب لحاجيات الإنسان وتطلعاته الحضارية، فضلا عن ذلك، فإن نسقه ذاك حتى وإن كان فيه قدر من الصواب، فإنه يظل جسدا راكدا لا حياة فيه...
[ ص: 122 ] فالعقيدة هي التي تبعث الحياة في القيم، إذ هي التي تحفز الفرد إلى الفعل أو الترك. إذا كانت الأخلاق على هذه الصورة في الإسلام، فهي في الغرب أخلاق نظرية باردة تفتقد إلى المحرك الذي يصلها بقلب الإنسان ووجدانه.
فإذا كان المـوت والفناء، وليـست الحـياة الآخرة هي مآل الفرد، كما تعلمنا الحضارة الغربية، وكما يؤكد
ماركس ولينين ، فسينهض بالضرورة سؤال كهذا: (لماذ نهتم بالأهداف الاجتماعية، ولماذا نكد ونكدح في سبيل إسعاد غيرنا، ونضحي باللذة وبالسرور الذي يتيحه لنا وجودنا الوقتي القصيرالذي ينتهي إلى فناء محض، من أجل أناسي آخرين محكوم عليهم بالفناء والبلى؟)
>[3]
إن الإسلام يربط ربطا محكما بين العقيدة والعبادة والأخلاق، فالعقيدة الصحيحة لا بد أن تعبر عن نفسها في العبادة الخاشعة الصادقة، وهذه لا بد أن تؤدي إلى ممارسة الفضائل الأخلاقية، فهي (أي العبادة) (ما لم تثمر الأخلاق الفاضلة من أمانة وصدق وإخلاص وحب وإيثار وبر، فلا قيمة لها)
>[4]
غير أننا حتى لا نحيد عن الموضوعية والعدل في الحديث عن
[ ص: 123 ] حالة القيم في الغرب المعاصر، وفي إصدار الحكم عليه، لا يذهب بنا الشطط بعيدا فننفي عنه كل وضع إيجابي، نعم هناك بعض الإيجابيات، وبعض العناصر ذات الوجه الإنساني. ولكن الحقيقة المرة التي تكتسي الطابع المأساوي، هي أن تلك العناصر الإيجابية هي التي بفضلها لا يزال المجتمع الغربي، بحضارته المسرفة في المادية، قائم البنيان.... ولكن بفعل طغيان عناصر الفساد، فإن ذلك البنيان كأنه يقف على جرف هار يهدده بالسقوط.. وسيسقط بعد حين.
[ ص: 124 ]