المعونات الغذائية: من يساعد من؟
تفيد البيانات الواردة في (الجدول رقم5) أن معدل حجم المعونات التي تلقتها المنطقة العربية على امتداد فترة (1990-1992) ، يقدر بالنسبة إلى الحبوب بحوالي 2616 ألف طن متري، ونحو 1303 طن متري من الزيوت، وقرابة 2321 طن متري من الحليب.
وقد استأثرت كل من
مصر والسودان والأردن والمغرب بزهاء 80% من معونات الحبوب، والمغرب
والسودان ومصر
والصومال بنحو 83% من معونات الزيت، وأيضا المغرب والسودان
وتونس ومصر
وسوريا بما يفوق 72% من معونات الحليب.
وتبلغ نسبة المعونات الغذائية الموجهة إلى بعض الأقطار العربية من المعونات الغذائية العالمية أثناء الفترة الآنفة الذكر، 25.6% بالنسبة للحبوب و22% بالنسبة للزيوت و57.4% بالنسبة للحليب. في حين أن أهم الأطراف المانحة لها على المستوى العالمي تتمثل أساسا في
الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 74.4% و74.8% و51.8% لكل من الحبوب والزيوت والحليب، وفي السوق الأوربية المشتركة بنسبة
[ ص: 42 ] 12% و16.7% و32.3% لنفس السلع الآنفة الذكر تباعا.
وانطلاقا من مكان الصدارة الذي تحتله
الولايات المتحدة الأمريكية ، والسوق الأوربية المشتركة، بدرجة أقل، سنحاول أن نتعرض إلى معونة كل منهما بشيء من التفصيل، بهدف استكشاف الدور الحقيقي لمثل هذه المعونات للدول المانحة. وذلك قبل التطرق إلى انعكاساتها على الدول المتلقية لها، لأن تنزيل تلك المعونات في الإطار العالمي الراهن، الذي تشقه التناقضات، وتتحكم فيه المصالح، يجعل منها حسب تعبير جريدة لوموند الفرنسية "هدية مسمومة في تجارة الفلاحة"، وذلك خلافا للطبيعة الإنسانية التي تتراءى -إذا ما اقتصرنا على الجوانب الظاهرة لمثل هذه المعونات، أو إلى ما قد يحاول أن يضفيه عليها مانحوها- تحت شعارات ملغومة
>[1] أ- المعونة الأمريكية والسوق الأوربية المشتركة
إن الحديث بشأن المعونة الأمريكية يحتم العودة إلى القانون رقم 480 الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1954م، لتنظيم معوناتها الخارجية تحت شعار: (غذاء العالم) ، الذي يتضمن أربعة عناوين
>[2] [ ص: 43 ] تحمل طبيعة السلام، على الطريقة الأمريكية.
العنوان الأول: تبيع بمقتضاه
الولايات المتحدة الأمريكية فوائضها الفلاحية للبلدان الصديقة، مقابل عملاتها المحلية، وتودع بالبنك المركزي للبلد المعني، تسدد بها أمريكا حاجاتها في ذلك البلد.
العنوان الثاني: يتعلق بالإعانات الاستعجالية والهبات الغذائية الموجهة إلى البلدان الصديقة لتوزع وفق طرق ثلاث:
- من حكومة إلى حكومة، والبلد الذي يتلقى مثل هذه الأغذية يمتلك حرية توزيعها دون مقابل، أو بيعها داخل حدوده فقط.
- عن طريق منظمات خيرية أمريكية، مثل خدمة الكنيسة العالمية.
- عبر البرنـامج الغذائي العالمي في
روما ، حيث مقر منظمة الزراعة والأغذية.
العنوان الثالث: يتعلق بمقايضة مواد غذائية مقابل مواد أولية. فكل دولة من دول العالم الثالث، والذي تمثل المنطقة العربية الإسلامية أحد أجزائه، تمدها الولايات المتحدة الأمريكية بمعونة غذائية، تدفع قيمة ما يعادلها من موادها الأولية ثمنا لها، خصوصا من المعادن النادرة، وقد مكن ذلك الولايات المتحدة الأمريكية من تكوين مخزونات استراتيجية أساسا لحاجات برنامجها النووي.
العنوان الرابع: وهو تحوير أدخل على القانون العام 480 لسنة
[ ص: 44 ] 1959م، يتعلق بالبيع مقابل دولارات أو عملات أخرى قابلة للتحويل، التي وقع التخلي عنها في نهاية 1971م، وذلك في إطار عقود طويلة المدى.
لكن، ولئن مثلت العناوين الأربعة الآنفة الذكر مضمون هذا القانون. فماذا عن ظروف نشأته؟
إن سنة 1954م، التي وضع أثناءها هذا القانون، عاشت حدثين بارزين، تمثل الأول في الحرب الكورية ، التي دارت بين سنة 1950 وسنة 1953م، والتي كانت تستأثر باستهلاك قسط كبير من الإنتاج الفلاحي الأمريكي، الذي قفز بسببها إلى مستويات عليا نتيجة الثورة الخضراء، وضمان أسعار مشجعة للفلاحين. في حين أن الحدث الثاني تمثل في إنهاء
أوروبا إعادة بنائها، والتي شكلت بدورها سوقا لذلك الإنتاج طيلة فترة ذلك التشييد الجديد.
وقد كان لكل هذه الأحداث المتشابكة انعكاسات سلبية على صادرات
الولايات المتحدة الأمريكية ، التي بعد أن كانت تمثل نسبة 40% من الحبوب على الأسواق العالمية خلال فترة (1949-1952م) تقهقرت إلى نحو 20% و22% خلال فترتي (1952- 1953م) و (1953-1954) على التوالي
>[3] [ ص: 45 ]
وقد تولد عن ضيق السوق الخارجي تراكم لفوائض الحبوب قدر بحوالي 13 مليون طن أثناء (1952- 1953) ، قفز إثره حجم المخزونات إلى ما يقارب 42 مليون طن خلال (1953-1954م) ، الفترة التي شهدت ولادة هذا القانون. وعلى ضوء مضمون وظروف نشأة هذا القانون العام، فهل من علاقة بين المعونات وفوائض الإنتاج؟
إن سن هذا القانون في خضم ظروف اتسمت بتقليص الطلب الخارجي على الإنتاج الغذائي الأمريكي، ووضع المعونات الغذائية في إطار القيم الفردانية الغربية السائدة، المتمثلة في الإنتاج للسوق لتحقيق أقصى الأرباح، لا يجعل منها إلا أداة لتنشيط الصادرات بهدف التخلص من الفوائض. وفي هذا الإطار توصلت بعض الدراسات
>[4] ، إثر المقارنة بين القيمة التراكمية للمعونة التي تقدمها أمريكا وواردات بعض الدول منها العربية الإسلامية، إلى أن حجم الواردات التراكمية أصبح يفوق حجم المعونات التراكمية الذي تتلقاه تلك الدول... الظاهرة التي أقروا على ضوئها، أن المعونة لعبت دورها كما ينبغي في تنشيط الصادرات التجارية.
وعموما، إذا كانت هذه المعونات لا تمنح إلا على أساس
[ ص: 46 ] الاعتبارات التي تمليها المصالح الأمريكية، فماذا عن معونة السوق الأوربية المشتركة؟
إن هذه المعونة التي حددت بعض أهدافها وثيقة 1974م، المتعلقة بسياسة المعونة الغذائية للسوق، انطلقت منذ سنة 1968م. ومن بين تلك الأهداف
>[5] :
- خلق وسيلة هامة للسياسة العامة للسوق الموسعة إزاء الدول النامية، التي تمثل الأقطار العربية الإسلامية جزءا منها.
- تشجيع الصادرات التجارية للمواد الفلاحية، وذلك بالاعتماد على التعليمات، التي يمكن استخلاصها من تجارب بعض البلدان المانحة للمعونة تقليديا.
وعلى هذا الأساس، فإن المعونة الغذائية لا تعمل إلا على تنشيط صادرات الدول المانحة، مقابل تكريسها تبعية الأطراف التي تتلقاها، أي تبعية المنطقة العربية الإسلامية في هذا الإطار، وذلك إذا ما تجاوزنا المسكنات والخدمات الظرفية التي تقدمها.
ب- من المعونة إلى التبعية
إن التبعية في هذا الإطار تتجسد على أكثر من صعيد؛ لأن
[ ص: 47 ] المعونة، علاوة على كونها تشكل أحد المسالك الذي تتراكم عبره الديون الخارجية
>[6] ، فإنها تساهم في خلق طلبات جديدة لا تلبى إلا من طرف الدول المانحة لها، وذلك طبقا للآلية التالية:
معونة ----> استثمار ----> طلب جديد ----> توريد ----> تبعية
أو بعبارة أخرى، أن هذه المعونة، يستثمر عموما جزء منها بالقطر الذي تلقاها، ويخلق هذا الاستثمار طلبات جديدة تنتجها أو توفرها الدولـة التي منحت المعـونة، ولتلبيتـها لا بد إذا من التـوريد حتى لا يتوقف النشاط، ومن ثم السقوط في أيدي أخطبوط التبعية.
لكن الأخطر من ذلك كله، أن إقحام مواد استهلاكية عبر المعونة الغذائية، يؤدي إلى تغيير العادات الاستهلاكية، وذلك بالقضاء على الأذواق المحلية التي كان إشباعها يعتمد على ما يوفره الإنتاج الفلاحي الداخلي، لتحل محلها الأذواق الدخيلة أو المستوردة التي أحدثتها المواد الغذائية الأجنبية المقحمة...
[ ص: 48 ]
وكلما قضت تلك الأذواق على الأذواق المحلية، استوجب تلبيتها اللجوء إلى الخارج شيئا فشيئا، مقابل الإعراض عن طلب واستهلاك مواد الإنتاج الفلاحي الداخلي الذي تفقد من جرائه -بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها بالمقارنة مع الأسعار المتدنية نسبيا والتي تباع بها الواردات الغذائية- كل تكافؤ في المنافسة، فيتضاعف حجم تلك الواردات على حساب تشجيع الإنتاج الغذائي الداخلي، الذي ما يفتأ يتقهقر بسبب تقلص الطلب وضيق السوق، لتتولد عنه التبعية الغذائية، التي لا يبقى لنا إلا أن نتساءل على ضوئها: من يساعد من؟ لقد تبين من خلال ما تقدم، أن المعونة تحولت من هدية -في بعدها الظاهري- لمساعدة الأطراف المتقبلة لها، إلى هدية -في بعدها الحقيقي- تساعد بها الدول المانحة نفسها على تجاوز أزماتها، وتصريف فوائض إنتاجها، ومن ثم فإنها ما فتئت تمثل أداة مراقبة بأيدي المانحين، يعملون من خلالها على الحد من إرادة شعوب المنطقة في التوق والتطلع للقضاء على دابر التخلف، الذي تشكل التبعية أحد أبعاده، وفي اختيار اتجاه غدها بكل ما لهذا الغد من أبعاد حضارية، وخصوصيات دينية، وثقافية، واجتماعية... بعد أن باتت خاضعة لرحمة تلك الدول التي توفر لها لقمة العيش، تملي عليها شروطها وتفرض عليها تبني قيمها، وأنماط عيشها، في المأكل، والملبس،
[ ص: 49 ] والمسكن..... ولو بطرق غير مباشرة، مثل تغيير العادات الاستهلاكية، والاعتماد على اغتراب النخبة، وغربة الشعوب...
اغتراب النخبـة، التي أضحت بمقتضـاه منبـتة عن واقعـها، تقلد مناهج الحياة الغربـية، على أساس أنها رمز التـمدن والازدهار، وتتقبل تبرعات الدول الغربية، وتلهث وراء مساعدة مستشاريها، وتعمل على جلب الشركات الاحتكارية العالمية، سعيا وراء سراب الانطلاق الاقتصادي.
وغربة الشعوب، التي شوه هويتها العربية الإسلامية الغزو الثقافي، وهمشها الاستبداد السياسي ، وتفشي الأمية في صفوفها، وأثخنها الظلم الاجتماعي الذي جعلها أسيرة الجري وراء لقمة العيش، دون الخروج من الخصاصة والحرمان... فإذا ما شكلت كل هذه العوامل السابقة الذكر، المتفاعلة فيما بينها، بعض مظاهر مشكلة الغذاء في الوطن العربي، فماذا عن أسبابها؟
[ ص: 50 ]