(ب) علاقة التصنيع بمشكلة الغذاء
إن التصنيع بالمفهوم الآنف الذكر، وطبقا للمكانة التي يحتلها باعتباره درب الانعتاق من التبعية، والخروج من التخلف، استوجب تكثيف الجهود كلها، وتعبئة الطاقات كلها، للنهوض بالاستثمارات في القطاع الصناعي، التي استأثرت بما يقارب 14.4% من مجموع الاستثمارات المنفذة بالمنطقة العربية الإسلامية خلال الفترة (1970-1980م) و22.1% على امتداد الفترة (1981-1986م) ، حين قفز حجمها من 51812 مليون دولار بالأسعار الجارية إلى 161385 مليون دولار (جدول رقم 6) ، وذلك على حساب بقية القطاعات، وخصوصا منها الفلاحة التي لم تستأثر إلا بحوالي 23.0، و63.8 مليار دولار بالأسعار الجارية، أو ما يقارب 9.8%، و9.3% من مجموع الاستثمارات المقدر بحوالي 339.6 مليار دولار و683.5 مليار دولار خلال الحقبتين الآنفتي الذكر تباعا
>[1] ..
وقد تواصل انخفاض الاستثمارات الزراعية خلال عامي 1993م و1994م في عدد من الدول العربية، في مقدمتها
اليمن بنسبة 65%،
[ ص: 76 ] والجزائر بنسبة 39%، ومصر بنسبة 7%
>[2] ... ولعل مرد ضعف هذه المعدلات يعود إلى الاستراتيجيات التنموية المتوخاة، التي تعتبر أن الفلاحة مماثلة للاستعمار والتخلف
>[3] ، ومن ثم وجب تسخيرها لخدمة التصنيع قطعا لدابريهما. وإن أول خدمة تقدمها الفلاحة - بالإضافة إلى تهميشها على مستوى الاستثمار كما تقدم- تمثل في تمويل القطاع الصناعي الحديث. لكن التمويل يعني في جزء مهم منه دفع فواتير واردات معدات وآلات التجهيز والمدخلات من مواد وسيطة وأولية، العمود الفقري للازدهار الصناعي، وهو العامل الذي يتطلب الحصول على العملة الصعبة.
ولهذا الغرض فإن الاستراتيجيات التنموية المتبعة بتركيزها على النمو السريع للاستثمارات والتشغيل، بالقطاع الصناعي الحديث، الممول في معظم الأحيان بفضل التحويلات الصافية من القطاع الفلاحي، اهتمت عموما بالزراعات التجارية الصالحة لتموين الحضر، وللحصول على العملة الصعبة.
وللذود عن هذا التوجه، فإن البنك العالمي أكد حضوره حين أورد
[ ص: 77 ] في تقريره لسنة 1982م، ما يلي: حتى إذا ما برهنا على أن الزراعات التصديرية تطورت على حساب الإنتاج الغذائي، فإن استراتيجية اكتفاء ذاتي لا تعترض بالضرورة تعويض الزراعات الغذائية بزراعات تصديرية
>[4] ؛ لأن مثل هذه الزراعات هي الكفيلة لوحدها بالحد من مخاطر العجز عن تسديد القروض التي تتلقاها بعض أقطار المنطقة، كجزء من العالم الثالث، من البنك العالمي.
وفي ضوء ما تقدم تتراءى إذن علاقة بين التصنيع ومشكلة الغذاء، لأن التصنيع بالإضافة إلى استئثاره بقسط مهم من حجم الاستثمارات، فرض نوعا من الإنتاج لا يمت إلى تلبية طلبات السوق الداخلي بصلة، وحتى بعـض الأنشـطة الفلاحية التي ظفرت بشيء من الاهتمام في غمـرة التحديث، كانت تلك المعـدة للتصدير، حتى لا ينضب تدفق العملة الصعبة، فتتعثر المسيرة التنموية...
أو بعبارة أخرى، بإيلاء التصنيع كل هذا الاهتمام، أهمل الإنتاج الغذائي خصوصا، والقطاع الزراعي عموما، الذي ظلت أهمية ناتجه المحلي إلى الناتج المحلي الإجمالي متدنية نسبيا.
أما على صعيد الأقطار النفطية، كجزء من المنطقة العربية الإسلامية، فقد أهدرت الفلاحة، لاعتماد تلك الأقطار على ريعها
[ ص: 78 ] خاصة في تمويل الواردات الغذائية من حبوب، وغلال، ولحوم.... وذلك على حساب تمويل الإنتاج المحلي للنهوض بالفلاحة إجمالا، التي رغم أهميتها، فإنها لا تمثل من الناتج الداخلي الخام
>[5] سنة 1985م إلا 0.6% في
الكويت ، و 1%
بقطر ، و 1.4%
بالإمارات العربية المتحدة ، و3.5%
بليبيا ، و 4.4%
بالمملكة العربية السعودية ، و 9.4%
بالجزائر .
وفي سنة 1995م فإن تلك النسب، ولئن سجلت بعض التحسن، فقد كانت لمختلف الأقطار الآنفة على التوالي: 0.4%، و 1.1%، و 2.5%، و 7.8%، و 6.8%، و 10.3%.
لكن، وإذا كان تدعيم الإنتاج التصديري لتمويل التصنيع يعتبر العلاقة المباشرة بين التصنيع ومشكلات الغذاء، لما تسبب فيه من إهمال للإنتاج الغذائي، فإن بين كلتا الظاهرتين علاقة غير مباشرة ساهمت بدورها في هدر الفلاحة، لأن تحويل الأرباح التي تحققها الفلاحة إلى التصنيع، دون أن تعود عليها في شكل استثمارات اقتصادية لتطويرها وتحسين إنتاجيتها، وكذلك استثمارات اجتماعية لتوفير المرافق الضرورية للعيش في المناطق الزراعية..، يعني الحفاظ على تدهور ظروف الإقامة في الريف، خصوصا الحفاظ على تدني المداخيل الفلاحية، التي إذا ما قورنت بما عليها في القطاع الصناعي، وبما توفره للمدينة نسبيا من مرافق، فإن الفوارق تبدو مجحفة بين بؤس
[ ص: 79 ] الريف، وبريق المدينة وصخبها... الظاهرة التي أضحت تشكل الأرياف بمقتضاها عامل دفع لأبنائها والمدن عامل جذب لهم.
لكن النزوح في إطار هذا التفاوت الجهوي، لا يعني إلا تضخيم الأفواه المستهلكة على حساب السواعد المنتجة، واليد العاملة الفلاحية، التي ما فتئت تنخفض نسبتها، على مستوى المنطقة العربية الإسلامية، مع تقدمها في السن.
فالتصنيع الذي كان من المنتظر أن يحرر المنطقة من براثن الاستعمار الجديد، ما فتئ يعمق أواصر تبعيتها، باعتبار أنه يعتمد في تمويله وتقانيته، وتجهيزاته، ومدخلاته، على الخارج، دون أن يكون له تمفصل أو تفاعل يذكر مع الفلاحة التي استنزفها بتحويل أرباحها إليه، فأصبحت تشكو بذلك نقصا في هياكل النقل والتتجير والتشجيعات التي يمكن أن تمنح للفلاحين، بالإضافة إلى خنقه أسعارها التي بقيت متدنية، وخصوصا أسعار مواد الإنتاج الغذائي بالمقارنة مع أسعار الإنتاج المعد للتصدير، أو إنتاج المواد الصناعية، لأنه يمثل إحدى السبل الناجحة للضغط على تكاليف الإنتاج، من خلال الحفاظ على تدني الأجور بصفة عامة، والصناعية بصفة خاصة، حتى يتسنى لأرباب رءوس الأموال استغلال اليد العاملة، وتحقيق أقصى الأرباح تحت شعار تدعيم التمويل الذاتي.
لكن التصنيع، ورغم علاقته العضوية بمشكلة الغذاء، فإنه لا يعد
[ ص: 80 ] المسئول الأوحد عن أزمة الفلاحة، لأن المشاكل الداخلية التي يعيشها القطاع الفلاحي، تتمثل في التوزيع العقاري الذي يشكو التشتت والتفاوت، ومن ثم ما فتئ يعوق تحسين مردودية وإنتاجية عناصر الإنتاج الفلاحية
>[6] ..
وبهذا العرض المقتضب للهيكلية العقارية نأتي على أحد الأسباب الأخيرة المباشرة لهذه المشكلة الغذائية، والتي لا يبقى لنا أن نتساءل إثرها إلا عن بعض الأسباب غير المباشرة لها.