الفصل الثالث: الإسلام وأمل عودة الوفاق بين الإنسان والبيئة الطبيعية
مدخل
إن لفظة "بيئة" تعني لغويا: الموضع الذي يرجع إليه الإنسان فيتخذ منه منزلا
>[1] واصطلاحا فإنها تمثل الطبيعة أو الكون، ومن ثم الإطار الذي يحيا فيه الإنسـان عموما. لكن الحياة الفعلية لا تتسنى لمختلف الكائـنـات في غيـر الغـلاف أو المحيط الحيوي، المقـدر سمكه بنحو 24 كيلومترا، يبلغ أقصى عمق المحيطات منها حوالي 13 كيلومترا، وأعلى قمم الجبال زهاء 11 كيلومترا
>[2]
ويحتوي هذا المحيط على مكونات حية وأخرى غير حية، تشمل كلا من المحيط المائي Hydrosphere، والجوي Atmosphere، واليابس Litosphere، مترابطة فيما بينها، أي المكونات الحية وغير الحية، بعلاقات ذاتية دائبة وعلاقات تكاملية مع بعضها بعضا ضمن ما يطلق عليه: النظام البيئي Eco-systeme.
ويشكل المحيـط الحيوي Biosphere الذي يتضـمن الأرض
[ ص: 103 ] وما عليها وما حولها من ماء وهواء، وما ينمو عليها من مزروعات وحيوان وغيرها، نموا ووجودا طبيعيا سابقا على تدخل الإنسان وتأثيره المقصود وغير المقصود في البيئة
>[3] ، أولى المنظومات الرئيسة الثلاث التي يعيش فيها الإنسان. يليه المحيط الصنعي Technosphere، الذي يتكون من كافة ما أنشأه الإنسان في حيز الغلاف الحيوي من مستوطنات بشرية ومؤسسات اجتماعية وثقافية ومراكز أنشطة صنـاعية وحرفية وتجهيزات أساسية... ثم يأتي المحيط الاجتماعي Sociosphere، الذي يدير في كنفه الإنسان شبكة علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
>[4]
وتتميز تلك المحيطات الثلاثة بتفاعلات فيما بينها، من شأنها أن تقود إلى التساؤل حول علاقة الإنسان بالبيئة.
هذه العلاقة، يستعرض الدكتور
محمد عبد الفتاح القصاص مختلف أطوارها بقوله: إن الإنسان كان في فجر وجوده يجمع طعامه
[ ص: 104 ] من ثمار النبات وأوراقه أو درناته... وملبسه ومسكنه من قلف الشجر وألياف الأعشاب والأشجار. في تلك المرحلة كان أثر الإنسان على بيئته هينا... ثم تحول إلى مرحلة الصيد والقنص، وأصبح أثره البيئي يجاوز أثر آكلات العشب إلى آكلات اللحوم.. وقد استحدث الإنسان في تلك المرحلة تكنولوجيا الصيد.. وأهم من ذلك كله أنه اكتشف النار، وأصبحت له قدرة على التأثير البيئي تزيد بكثير عن قدرته العضلية. ثم مر الإنسان إلى مرحلة استئناس الحيوان والرعي.. وجعل من هذه الأنواع قطعانا متكاثفة العدد ومتكاثفة الأثر البيئي على الكساء النباتي. وتعلم الإنسان حياة الرحلة الموسمية من المرابع إلى المصايف سعيا وراء التحولات الموسمية في الكساء النباتي، أي إن أثر الإنسان البيئي اتسع مداه.. ثم اتصلت حياة الإنسان إلى مرحلة الزراعة والاستقرار. وهنا استكمل الإنسان سيادته على الأحوال البيئية، فهو يبدل الكساء النباتي البري بأنماط من الكساء النباتي يزرعها ويفلحها، وهو يستعمل مياه الأنهار... وهو يبني قراه حيث تتكاثف الجماعة الإنسانية. واستحدث الإنسان آلات الحرث والري والحصاد، واستخدم الحيوان في عمله، أي إنه استخدم مصادر القوة بالإضافة إلى قوة عضلاته. ونلاحظ في مرحلة الزراعة أن للإنسان آثارا بيئية هائلة، ولكنه لم ينشئ موادا كيميائية غريبة عن النظم البيئية..
[ ص: 105 ] ثم جاء عصر الصناعة، وأصبح في إمكان الإنسان أن يعيش في بيئة من صنعه... وطوع الإنسان مصادر للقوة جعلت بين يديه من الآلات الهائلة ما جعل لآثاره البيئية امتدادا على مساحة الأرض وفي البحار والهواء
>[5] ...
وفي نفس هذا السياق، وعند محاولة عرض فكرة عامة عن تلك العلاقة على امتداد العشرة آلاف سنة الأخيرة، فإن "
أيان ج. سيمونز " وبالاعتـماد على فكـرة مراحـل "أيكولوجـيا ثقافية" التي طرحـها "
و. آي. تومسون "، أورد ما يلي
>[6] :
- القنص وجمع الغذاء وأوائل الزراعة
مارس جميع البشر هذا النوع الأول من الاقتصاد إلى أن عرفوا كيف يدجنون النباتات والحيوانات. وقد استقر هذا النمط لأول مرة سنة 7500 قبل الميلاد في جنوب غربي آسيا... ولئن تأثر العالم في سنة 5000 قبل الميلاد بهذه الآلاف من السنين من حياة القناصين الجماعيين والزراع الأوائل، فإن طابعهم عليها كان في معظمه خفيفا، وكثيرا ما كان مؤقتا...
- الحضارات النهرية
هذه الاقتصادات الكبرى نهضت على
[ ص: 106 ] الري، على ضفاف نهر النيل وفي بلاد ما بين النهرين على سبيل المثال.. وحاولت تلك الحضارات من خلال التكنولوجيا، أن تتحرر من بعض القيود التي يفرضها فصل بلا أمطار... وإسهام المجتمعات النهرية في التطور البشري اللاحق إسهام عظيم، لا تزال أصداؤه الكثيرة تتردد في مجتمعنا، ويخص منها بالذكر تقسيم المكان والزمان إلى وحدات ستينية. وقد استطاع التحالف بين هذه القدرة الإبداعية وبين السيطرة المركزية على الحياة الاجتماعية والسياسية، أن يحدث في الأرض تحولات واسعة النطاق، وأن يتحكم في المياه عبر مساحات شاسعة..
- الإمبراطوريات الزراعية
ابتداء من سنة 500 قبل الميلاد إلى عشية الثورة الصناعية في عنفوانها (حوالي سنة 1800 ميلادية) ، وجدت في عدد من مناطق العالم التي يغلب عليها الحضر، إمبراطوريـات سياسية أحيانا وتجـارية أحيانا أخرى.. وأخـذ عدد كبيـر منها بالتـكنـولوجيا لتـذليل الحواجز البيئية التي تحول دون المزيد من الإنتاج مثل تخزين المياه، وزراعة المدرجات، والتربية الانتقائية للمواشي.
- العصر الصناعي الأطلنطي
منذ حوالي سنة 1800 ميلادية وحتى الوقت الحاضر، كان حزام من المدن يمتد من
شيكاغو إلى
بيروت ، فضلا عن بعض مدن شواطئ آسيا حتى
طوكيو ، يشكل نمطا
[ ص: 107 ] لحياة اقتصادية يقوم في معظمه على الطاقة المستمدة من أنواع الوقود الأحفوري . وكانت هذه هي المرحلة التي بلغ فيها تأثير النوع البشري على بيئته أقصاه.
- العصر الصناعي الهادئ العالمي
حدث منذ الستينيات تحول إلى حوض المحيط الهادئ باعتباره المركز الرئيس للاقتصاد الصناعي، وإن كان قد حدثت في الوقت نفسه عولمة حقيقية للاتصالات يسرت نشوء اقتصاد عالمي متكافل، مثلا في مجال العمليات المالية والشركات المتعددة الجنسيات. واقترن ذلك بتحول في الوعي نحو نظرة عالمية، من دلائلها عودة الاهتمام بتنويع أساليب الحياة تبعا للخصائص البيئية المحلية (انتهى) ... الظاهرة التي تقودنا إلى محاولة فهم بعض الأسباب الكامنة وراء هذه العودة، والمتمثلة في اعتقادنا في علاقة الصراع والسيطرة بين الإنسان والبيئة، التي ما فتئت تكرسها الرؤى السائدة، وفيما تولد عنها من تأثيرات سلبية على البيئة، أحدثت نوعا من الاضطرابات على بعض النظم الأيكولوجية..
وبشأن تلك العلاقة، يعتبر "
لينتون ك.كالدوال " أنها مثلت في المسيحية مصدر تأمل وجدل ساهمت الكنيسة في تغذيته. وقد تمخض عنه سيادة المذهب الذي يفصل بين كل منهما
>[7] [ ص: 108 ]
ويرى
الأستاذ عزام محجوب ، أن جذور ذلك الفصل، الذي قامت
[ ص: 109 ] على أساسه الحضارة الغربية، تعود إلى الفكرة اليونانية التي تعتبر أن الإنسان خارج عن الطبيعة
>[8] وبسيادة ذلك المذهب، واقترانه بمبدأ ندرة الخيرات الطبيعية وعجزها عن تلبية حاجات الإنسان، ولد لدى الغرب الرأسمالي ضرورة التنافس للحد من تلك الندرة ولو على حساب الآخر، ينهبه ليستغني، ويستغله ليترفه، ويقتله ليعيش...
لكن، وإذا كان حقل هذا التنافس هو البيئة الطبيعية، مصدر كل الموارد، فلا بد إذا من السيطرة عليها، ومن ثم الدخول معها في صراع، لتأمين إشباع تلك الحاجات.
وعلى هذا الأساس، فإن تلك الحضارة، التي ترعرعت في أحضانها الرأسمالية ، مهدت منذ بداية خطواتها الأولى لإقامة علاقة مسيطر (الإنسان) بمسيطر عليه (بيئته الطبيعية) ، أو علاقة: فاتح براضخ
>[9] وذلك باعتمادها على مستوى من التطور العلمي والتقني كان قد تحقق على صعيد عالمي خلال تلك الفترة، مما سمح للرأسمالية أن تطور بالدرجة الأولى آلتها العسكرية العتيقة إلى جانب التطور
[ ص: 110 ] التقني الإنتاجي
>[10] ، الذي استعاضت بمقتضاه بالآلة عن الإنسان، ومن ثم خففت عنه المشقة في ميادين شتى، مكنته بذلك من قطع أشواط عملاقة تجاه الغاية التي رسمها لعلاقته ببيئته... العامل الذي لم يزده إلا غرورا بنفسه وافتتانا بعقله... فطفق يبدد الموارد الطبيعية، المتجددة وغير المتجددة منها بشكل خاص، في الإفراط في إنتاج الكماليات ووسائل الرعب والدمار، متناسيا أنه بصنـيعه ذاك لا يبدد ولا يدمـر إلا نفسـه. لأن الإسـراف في ذلك النـوع من الإنتـاج الذي لا يمت لطلبات الإنسان المادية الأساسية بصلة، والتكالب عليه لتكديس الأرباح، ليس إلا تدميـرا للبيئة مصدر عيشه، والذي من أبرز مظاهره: الجفاف والتصحر، والتلوث الضوضائي، والنفايات (الصناعية والغـازية) ، والإشعاع والتغـيرات الكيميائية، وتلوث الهواء والميـاه، وثقـب طبقة الأوزون التـي تحمي البيـئة من أذى الأشعة فوق البنفسجية، وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في الهواء وتسخين حرارة الأرض، وإلى غير ذلك من التغييرات التي انعكست على المناخ ككل...
وأمام هذه التأثيرات البيئية التي أضحى الإنسان يساهم في
[ ص: 111 ] صنعها من خلال تحطيم أسس إمكانيات وجوده، بالاعتداء على حدود النظام الطبيعي
>[11] ، ما فتئت الأصوات تتعالى من كل أصقاع العالم مطالبة بالمزيد من حماية البيئة، وبالتخلي عن علاقة الاستنزاف والصراع معها التي طالما كرستها الحضارة السائدة، منذ أن جهزت الإنسان بتكنولوجيا في أوج التطور، ليصبح معها أشد خطورة على كل أشكال الحياة بما فيها حياته
>[12]
وفي هذا السياق، سنحاول عرض ملامح رؤية بديلة تقف على أرض الإسلام الرحبة، تندرج في تقديرنا في نفس هذا التوجه، الذي يدعو إلى إرساء علاقة متميزة مع البيئة وإلى الحفاظ عليها.