خاتمة
لئن استهدف هذا البحث تسليط بعض الضوء على مشكلة الغذاء بالمنطقة العربية الإسلامية، ففي ثنايا خاتمته تجدر الإشارة إلى جملة من الملاحظات منها:
- الإقرار بأن دراسة هذه المشـكلة لم تسـتوف كل شروطها، نظرا للخصوصـيات التي ينطـوي عليـها كل قطر من أقطار المنطقة العربية الإسـلامـية، وللوظائف التي ما فتـئت تتبؤها، والتحولات التي أضـحت في إطار العلاقـات الاقتصـادية العـالمية، التي سـاهمت بقسط هام في تكريس التخلف بالمنطقة، الذي تشكل المشكلة الغذائية فيها أحد أبعاده.
ومن ثم، فهذا البحث أعجز من أن يلم في هذه الصفحات المعدودة، بمختلف تلك الخصوصيات، ليقدم صورة أشمل وأعمق عن هذه المشكلة، بل إنه باقتصاره على بعض القواسم المشتركة الكبرى مثل تدني مستوى الاكتفاء الغذائي، والانفتاح على الخارج، ودور الاستعمار الذي تتجاوز أهدافه فرض السيطرة الاقتصادية، لتشمل البعد الثقافي خاصة والحضاري عامة... لا يشكل إلا مدخلا لدراسة أعمق، مجالها كل جزء من المنطقة العربية الإسلامية على حدة، تأخذ بعين الاعتبار مختلف خصوصياتها، دون هدر قواسمها المشتركة،
[ ص: 131 ] ذلك ما يجب أن تتوحد الجهود نحوه كل في مجال اختصاصه.
- إن التنمية بالمنطقة العربية الإسلامية، ما فتئت تنفذ بمفهوم يخلط بينها وبين النمو، لتتحول إلى زيادة لا نهائية للإنتاج، وذلك رغم حملة النقد التي استهدفتها منذ منتصف السبعينات
>[1] ، للخروج بها من الإطار الاقتصادي الأبتر إلى الإطار الاقتصادي- الاجتماعي الأشمل من ناحية، ورغم وضعية التبعية الشاملة التي آلت إليها من ناحية أخرى، والمتمثلة في بعض جوانبها في كل من البعد الغذائي والتكنولوجي والمالى.
فهل كتب على المنطقة العربية الإسلامية العيش تحت رحمة الغرب، في حين أن الموارد الطبيعية عامة والزراعية منها خاصة الكفيلة بكسر أطواق هذه التبعية تشكو سوء وقلة الاستعمال؟
ولعل بعض الموارد التي تندرج في هذا السياق والجديرة بالدرس، تتعلق بكل من المياه والأراضي الصالحة للزراعة في المجال الغذائي، وهجرة الأدمغة والاستثمار في الموارد البشرية في المجال التكنولوجي،
[ ص: 132 ] وهروب رءوس الأموال في المجال المالي، التي تفيد المعطيات بشأنها أن كل دولار استثمر في الوطن العربي استثمر مقابله 56 دولارا في الأسواق الدولية
>[2] ، وأن حجم استثمارت أقطار الخليج العربي
بالولايات المتحدة الأمريكية لوحدها يعادل ما بين أفراد وحكومات: 250 مليار دولار في شكل ودائع وعقارات وأسهم
>[3] ، أما مجموع الفوائض العربية المهاجرة إلى الأسواق المالية الدولية فتقدر بنحو 670مليار دولار
>[4]
إن الحديث عن التصنيع، أساس الاستراتيجيات التنموية مسألة جد متشعبة؛ لأن كل محاولة للإحاطة بها، ليست إلا الخطوة الأولى نحو الغوص في أعماق الواقع المعقد والمثلوم لفهم علله، وذلك من بين الألف خطوة التي يجب قطعها للارتقاء به إلى مستوى دخول الدورة الحضارية مجددا التي يشكل التصنيع أحد أبعادها المتشابكة، وإلى مستوى طموحات الجماهير العريضة المستضعفة التي دأبت النخب السياسية الحاكمة على تجاهل رأيها عند وضع الاختيارات التنموية، بل
[ ص: 133 ] كل الاختيارات، التي ما فتئت تكرس التجزئة، ومن ثم الاندماج والتفصل Articulation مع الاقتصاد العالمي، على حساب التفاعل والتكامل الاقتصادي العربي، الذي ما فتئ يشكل أحد المطالب الضرورية والملحة أكثر من أي وقت مضى، للصمود أمام التوجه العالمي الكاسح نحو التكتلات الذي أضحى يميز هذا العصر..
- إن عملية البحث عن تصور مستقل للتنمية نابع من الذات ومتفاعل مع الآخر تمثل، على ضوء كل ما تقدم، إحدى أوكد مهام كل الحريصين على تجاوز مآزق اختياراتنا التنموية الراهنة... لكن، هل يمكن تحقيق مثل هذه المهام الجسام دون ضمان مبدأ تشريك واسع وفعلي لمختلف المشارب الفكرية، في كنف حوار جاد ومسئول، يتجاوز كل رواسب الاستبداد بالرأي، وإقصاء الأفكار المخالفة؟ والذي بدونه لن يتسنى دفع حركة الإبداع باتجاه استشراف مستقبلنا الحضاري، وتجديد مسيرتنا الحضارية الشاملة... مسيرة محورها الإنسـان لتحقيـق التـوازن المفقود بين بعديه المادي والروحي:
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77) .
وأساسها الإحسان، الذي تتحول معه المراقبة إلى نبع متدفق من أغوار الكينونة البشرية، مستمدة جذور
[ ص: 134 ] شرعيتها من خارج القوانين والأعراف الاجتماعية الضرورية لتوجيه السلوك البشري في مختلف مسالك الحياة،
( فالإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) >[5] .. وقوامها العدل في مختلف المجالات:
( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8) ...
أما غاية هذه المسيرة فهو تحقيق حرية الإنسان في أعلى مراحلها وأتم أشكالها: توحيد الله عز وجل ، حيث تقترن الممارسة بالوعي، والوعي بالمسئولية، والمسئولية بالآخرة... ويمتزج الإيمان بالإخلاص، والإخلاص بالتقوى، والتقوى بالعمل.
والحمد لله رب العالمين
[ ص: 135 ]