تقديم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي اختار العربية لتكون لغة خطاب الوحي الخاتم للعالمين، فأصبحت بذلك لغة الوحي، وكلام الله، أو خطاب الله لعباده جميعا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا الاختيار -والله أعـلم حيـث يجـعل رسـالتـه- أو هذا الجـعل للرسـالة، لا يقتصر على اختيار الإنسان، أو لا يصدق فقط على اصطفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بين سائر البشر -وهو المقصد الأول في الآية- وإنما يصدق كذلك على أرض النبوة، وقوم النبوة الأوائل، وزمان النبوة، ولغة النبوة، وما إلى ذلك من آفاق وأبعاد أخرى، ويكفي ذلك العربية تشريفا، كما يكفيها دليلا على قدرتها وإمكاناتها، واستيعابها لبعدي الزمان (الماضي والحاضر والمستقبل) والمكان (الجغرافيا) ، وما يكون في ذلك من تطور البشرية ونمو فكرها.
فإذا حق لنا أن نقول: بأن القـرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه،
مصداقا لقوله تعالى:
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48) ، فإن لغة التنزيل -العربية- تكتسب بذلك
[ ص: 11 ] خصائص الهيمنة نفسها بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل،
قال تعالى:
( نزل به الروح الأمين *
على قلبك لتكون من المنذرين *
بلسان عربي مبين ) (الشعراء:193-195) ،
وقال تعالى:
( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) (الزمر:28) .
والصلاة والسلام على إمام البيان، الذي ابتعث في الذروة من قومه فصاحة وبلاغة وبيانا، آتاه الله جوامع الكـلم،
( قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوتيت جوامع الكلم ) (رواه
مسلم ) ، وكانت معجزته -التي وسعتها اللغة العربية، وكانت أداتها- بيانية بالدرجة الأولى،
وكان عليه الصلاة والسلام محلا للقول الثقيل:
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5) ،
كما كان المبين عن ربه ما نزل إليه،
قال تعالى:
( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل:44) .
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع والستون: (نحو تقويم جديد للكتابة العربية) للأستاذ الدكتور طالب عبد الرحمن ، في سلسلة
[ ص: 12 ] كتاب الأمة التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة
قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي بدور الأمة الحضاري، وإحياء فاعليتها لاسترداد دورها في الشهادة على الناس، والقيادة لهم إلى الخير وإلحاق الرحمة بهم.
ولقد كان من أهم الأهداف تجديد الذهنية الإسلامية لتلقي عطاء الوحي، واعتماده مصدرا للمعرفة المعصومة وإطارا مرجعيا لمعرفة العقل، وضابطا لمسيرة العلم ليتجه صوب الإنتاج العلمي المحقق لخير البشرية، بعيدا عن البغي وتسلط الإنسان على الإنسان، كما يلح على إحياء الفروض الحضارية من السير في الأرض، والتوغل في تاريخ الأمم والحضارات لتحقيق العبرة والاهتداء إلى سنن السقوط والنهوض، والاتعاظ بأحوال الأمم الماضية، والحيلولة دون تسرب علل التدين التي لحقت بأهل الأديان السابقة فكانت سبب هلاكهم وانقراضهم.
وقد يكون من المهم في هذه المرحلة بالذات، إبراز ما تمتلكه الأمة المسلمة من الإمكان الحضاري الذي يؤهلها للقيام بالدور العالمي والإنساني المأمول، ومحاولة المساهمة بوضع الرؤية المستقبلية الملتزمة بالأوعية الشرعية لحركة الأمة، والمرتكزة إلى
[ ص: 13 ] قيمها الصحيحة في الكتاب والسنة، من خلال حديث القرآن الكريم عن العواقب وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عما سيكون، والتأكيد على عوامل الوحدة، وفتح قنوات الحوار الداخلي لإزالة الحواجز بين المسلمين، وزيادة مساحة القواسم المشتركة، وتوسيع دائرة الوعي والتفاهم، والتبصير بالتحديات الداخلية والخارجية، والاجتهاد المشترك لكيفية التعامل معها، وتحقيق المصالحة بين أبناء الأمة، وإشاعة أدب الاختلاف، والارتباط بخلق المعرفة.
وفي تقديرنا أن السبيل إلى تحقيق ذلك إنما يتمحور حول إشاعة روح التخصص في شعب المعرفة المختلفة، وذلك بإحياء مفهوم الفروض الكفائية، لتحقيق التكامل والوصول إلى الاكتفاء الذاتي، والإفادة مما توصلت إليه تقانة الإعلام والاتصال، وحسن التعامل معها، لتصبح وسيلة لحمل رسالة الدين وإظهاره، والقيام بمهمة البلاغ المبين، وإعادة بناء المسلم المستعلي بإيمانه، القابل للنهوض على الرغم من حالة الانكسار، الذي يعي أبعاد الشخصية الحضارية الإسلامية، ويبصر نقاط الارتكاز الحضاري، ويستوعب خلود قيم الإسلام وقدرتها على الإنتاج المأمول في كل زمان ومكان، ويعيد للعقل مكانته في إطار هداية الوحي
[ ص: 14 ] ووظيفته، وفاعليته في التفكير والاجتهاد لتنزيل قيم الوحي على واقع الناس.
وقد يكون من الأمور المطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إعادة البناء للعقل القادر على الحوار والتفاعل مع الآخر للإفادة من المنجزات العالمية في إطار التبادل المعرفي تحت شعار: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، وامتلاك المعايير الدقيقة التي تمنحها معرفة الوحي لما يأخذه المسلم وما يرده من الإنتاج العالمي، والقدرة على التمييز بين الغزو الثقافي والتبادل المعرفي.
ذلك أن الدعوة إلى العولمة والحوار الثقافي ضمن استخدام وسائل الإعلام، التي تجاوزت الحدود والسدود والرقابات، تشكل فرصة تاريخية للمسلم الواعي لتقديم الإسلام، الذي يمتلك النص الإلهي السليم والتجربة الحضارية التاريخية، ويبرأ من التسلط والبغي والظلم، ويحقق كرامة الإنسان ويسترد به إنسانيته للعالم، والبصائر من حوله كثيرة، والبشائر موفورة بقوة الإسلام على الانتشار في أكثر المجتمعات تقدما وأكثرها تخلفا في الوقت نفسه، وإلا كانت حالة التخاذل، التي تجعل المسلم محلا لتلقي نفايات (الآخر) الفكرية والإباحية، لأنها الأقدر على التسلل
[ ص: 15 ] والأقرب إلى سهولة التقليد.
ولعل من الأمور الملفتة حقا، على مستوى الأمة، أن القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، وتعامل مع معهود العرب في الخطاب، هو أول كتاب يكتب ويقرأ ويحفظ ويتداول، ويسجل الكثير من قصص الأنبياء وتاريخهم مع أقوامهم، كما يسجل مسيرة الدعوة الإسلامية والسيرة العملية لفترة التنزيل المعصومة، ويجيب عن الأسئلة الكبرى في الحياة، عن كيفية بدء الخلق، ثم كيف ينشئ الله النشأة الآخرة، ويتحدث عن أسباب السقوط والنهوض، ويبين الأحكام الشرعية في مجال الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، والسلم والحرب، وطبيعة العلاقات بين الأفراد والدول والشعوب والقبائل، ليشكل بذلك المنهل الذي يرده كل مسلم، ويستمد منه رؤيته للحياة وثقافته وكيفية تعامله مع الماضي والحاضر والمستقبل، ويرى من خلاله الحياة في آفاقها البعيدة، سواء نظر إلى الماضي أو تطلع للمستقبل.
ومن هذا القرآن، كتاب العربية الأول، الذي بدأ نزوله بطلب القراءة وفرضية التعلم، واعتبر ذلك مفتاح الحضارة، وسبيل المعرفة ووسيلة الثقافة، انطلقت الحركة العقلية واللسانية واللغوية –ففيه
[ ص: 16 ] بـدأت القـراءة وامتدت الكتـابة- للأمـة، فكان القرآن بما دعا إليه وما أصـله وأسسـه محور هذا الإنتاج الثقافي جميعه، ومدار الحركة الفكرية.
وقد يكون إعجاز القرآن البياني، والتحدي بالإتيان بمثله، من بعض الوجوه، نوعا من التحريض العقلي والثقافي لإدراك أبعاد هذا الإعجاز، والتدليل على قدرة العربية على أن تتشكل منها معجزة، ببيان وجوه الإعجاز، ومحاولة محاكاته.
كما أنه يشير من جانب آخر إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه اللغة العربية، التي وسعت هذا القرآن بكل آفاقه وأبعاده، ضمن إطار أبجديتها ومرونتها وسعة مفرداتها وكثرة مترادفاتها التي تعبر عن أدق الحالات الشعورية المتداخلة والمتجاورة، وقدرتها على تقديم القيم التعبيرية لكل إحساسات الإنسان وقيمه الشعورية،
قال تعالى:
( الم *
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (البقرة:1-2) ،
( حم *
والكتاب المبين *
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (الزخرف:1-3) .
وهذه الحروف الأبجدية، تلفت النظر العقلي إلى أن آي
[ ص: 17 ] القرآن مصوغ من هذه الحروف، التي يستعملها العرب في معهودهم للخطاب دون زيادة عليها، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن.
ولا شك أن اختيار لغة للتنزيل لتكون لغة وحي الله أو لتكون خطاب الله إلى جميع البشر، التي يوكل حفظها وكتابتها وقراءتها وإقراؤها للأجيال من خلال عزمات البشر، يحمل من الأبعاد والفاعلية والعبر الشيء الكثير الذي يدعو للتأمل والنظر.
وإذا كان إنزال الوحي على محمد عليه الصلاة والسلام قد وصف بأنه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، وأن من بعض معاني الهيمنة المقصودة هنا: المعيارية، والرقابة، والشهادة، والتصويب، أدركنا بعض أبعاد كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الكتاب والبيان النبوي (السنة) هو الشاهد والمعيار، وأن أمته التي آمنت به وتمثلت وحي الله، وكانت محل التنزيل والتطبيق، هي الشاهدة على الأمم،
قال تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ،
وأن أرض التنزيل مكان قبلته هو وجهة الناس، وأن فهم وحيه ووسيلته العربية لغة التنزيل.
[ ص: 18 ]
فالقرآن هو معيار التصويب والفهم لرسالات الأنبياء.. واللغة العربية هي معيار التصويب والفهم لكتاب الله، وما تمتلكه من الإمكانات يؤهلها للهيمنة على سائر اللغات.
وإذا كان الاختيار يعني التشريف والدلالة على شرف وقيمة ومكانة المختار، فإنه من وجه آخر يعني التكليف، ووجود الإمكانية والمؤهل للقيام بالمهمة، وحمل الأمانة، والقدرة على حسن أدائها. ذلك أن الاختيار لا يمكن أن يكون عبثا أو عشوائيا، فمصطلح الاختيار يعني النظر والمقارنة والبحث والموازنة بين المؤهلات والقدرات، ومدى ملاءمتها للمهمة، ومن ثم يكون حصول الاختيار.. فالاختيار إنما يكون لوجود المؤهل، إذ لا يمكن أن تختار للحمل الثقيل اليد الشلاء، وللأمور والمهمات الكبرى الهمة القعساء.. لذلك نقول: الاختيار هو تشريف، ودليل على مكانة المختار وعلو شرفه وإمكاناته، وهو تكليف أيضا ودليل على مؤهلاته وقدراته لأداء المهمة.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن اختيار اللغة العربية لتكون لغة الوحي الخاتم أو لغة التنزيل الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، القادر على استيعاب التنزيل على الواقع واستيعاب الاجتهاد
[ ص: 19 ] والحركة العقلية في كل زمان ومكان، وتقديم الأوعية اللفظية أو القيـم التعبيـرية لكل القيـم الشـعورية حتى يرث الله الأرض وما عليها، دليل على الطاقات الهائلة والمؤهلات المطلقة التي تمتلكها العربية، فهي التي حملت وحي الله المطلق المجرد عن حدود الزمان والمكان ونسبية الزمان والمكان، الأمر الذي يدعونا للقول -والتاريخ الثقافي هو الشاهد-: بأن العجز، حتى ولو بدا لنا واضحا في فترة الضعف والهبوط، إنما هو في الإنسان وليس في اللغة نفسها.
ولعلنا من هنا ندرك، ولو من بعض الوجوه، لماذا أنزل القرآن بلسان عربي مبين، واعتمد العربية، وأنه لم يقم وزنا لقضايا اللون والجنس والقوم، لكنه لم يتنازل عن قضية اللغة. وحسبنا أن نقول: بأن قضايا الجنس واللون والقوم هي أمور قسرية ليست من صنع الإنسان، كما أنها ليست من اختياره، ومن الظلم الرهيب اعتمادها سبيلا للكرامة أو ميزانا للكرامة والتمييز، أما أمر اللغة فهو أمر كسبي تعليمي وتعلمي بمقدور كل إنسان أن يحصله.
وقد لا تكون هذه القضية بحاجة إلى أي تدليل، فاللغة في مراحلها البدائية الأولى وحتى صورها الذهنية المجردة المتقدمة هي كسبية تعلمية، إضافة إلى أن غير العرب استطاعوا أن يتعلموا
[ ص: 20 ] العربية ويبدعوا ويؤلفوا فيها، ويبلغوا الذروة.. فالكثير من محتويات المكتبة الإسلامية واللغوية منها بشكل أخص، هي من إنتاج غير العرب.. الأمر الذي يؤكد أن الخطاب القرآني للعالمين الذي جاء بالعربية، استوعبه المخاطبون على اختلاف لغاتهم ولم يشكل لهم أية عقبة.
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها، وبناء ذاكرتها، وتكوين هويتها وثقافتها، وضمان تماسكها، وتواصل أجيالها، وتوسيع دائرة تفاهمها وتفاعلها، والمساهمة بتشكيل نمط تفكيرها، والتأثير في مسالكها وأخلاقها، وتحريكها، وتغيير واقعها، والإفادة من مخزونها التاريخي، وحماية رقعة تفكيرها من التبعثر والتفكك.
فاللغة في النهاية هي الترسانة الفكرية والثقافية، التي تبني الأمة، وتحمي كيانها، وتحافظ على شخصيتها.
ولذلك تعتـبر اللغة هي المقوم الأسـاس لبـناء الأمة وقـيامها -على اختـلاف الآراء حـول عـوامـل تكويـن الأمم- لأنهـا لغـة التـواصـل والاتصـال والصـياغة لكـل الأفكـار، وتفعيـل العوامل الأخرى.
[ ص: 21 ]
وليس ذلك فحسب، وإنما هي المدخل الأخطر لبعثرة الأمة، والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها، وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، ومحاولة تشكيلها من جديد في إطار معطيات لغة أخرى.. لذلك كان عزل اللغة والتهوين من شأنها، من أخطر مداخل الغزو الفكري والارتهان الثقافي.
لقد دلت الدراسات المتقدمة جدا من الناحية التربوية واللسانية، بأن السنوات الأولى من حياة المواليد لا بد أن تتمركز حول اللغة الأم، لأنه من خلال ألفاظها وأصواتها تتشكل الذهنية وتبنى المرجعية، ويتحقق التواصل، وتكون الحصانة، ويضمن سلامة السلم الصوتي.. وقد أوصل بعض العلماء ضرورة العكوف على اللغة الأم إلى اثني عشر عاما، ثم يكون بعد ذلك تعلم اللغات الأخرى، لأن اللغة هي الوطن الحقيقي الذي يشكل الهوية والخصوصية، ويمنح الرؤية للحياة وفلسفة التعامل معها، وهي جماع الشخصية.
وقد تنبه لأمر اللغة الكثير من الدول، ففي إطار مواجهة
فرنسا لغزو اللغة الإنجليزية، والانبهار بكل ما هو أمريكي، وشيوع لغة الاستهلاك، والإغراء بالعادات والأنماط والتسميات الأمريكية،
[ ص: 22 ] وحرصا منها على هويتها وثقافتها، أصدرت عام 1994م قانونا باسم: (لزوم الفرنسية) ، يحظر على الفرنسيين أن يستخدموا أي لغة أجنبية في خطابهم العام، مشيرا إلى كافة الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية والأفلام الدعائية، التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون والمحلات التجارية والشركات العاملة على الأرض الفرنسية.. ونص القانون على عقوبة مغلظة هي غرامة تصل إلى ألفي دولار، والسند في ذلك كما تقول ديباجة القانون: إن اللغة الفرنسية فيها من الألفاظ والمعاني ما يغني عن استخدام لغات أجنبية في الخطاب العام.
لكن إلى أي مدى يستطيع هذا القرار الصمود، في عصر العولمة، والهيمنة، وإلغاء الخصوصية الثقافية، التي تمثلها اللغة أدق تمثيل؟!.
وفي محاضرة ألقاها في
تونس قبل ما يقارب السنتين في ندوة موضوعها: (التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم) ، فسر
فيديريكو مايور مدير اليونسكو، التطور السياسي والاقتصادي لأمة من الأمم في ضوء عامل الثقافة، مشيرا إلى خطورة العولمة التي تتجه بقوة إلى صبغ العالم بثقافة واحدة ولغة
[ ص: 23 ] واحدة حتى تفقد الشعوب هويتها، وتنصهر في ثقافة العولمة .. وفي قمة الفرانكفونية التي انعقد مؤتمرها في
هانوي بفيتنام ، حذر
الرئيس الفرنسي شيراك من محاولة سيطرة لغة واحدة وثقافة واحدة على العالم تطيح بخصوصيات ثقافات الشعوب. (انظر الأهرام: 26 / 12 /1997م) .
فاللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير أو أداة للتوصيل والتواصل والتفاهم، أي ليست وعاء تصب فيه المعاني المراد نقلها، وإنما هي بالإضافة لهذا وعاء للتفكير وأداة للعمليات التفكيرية، إذ لا ينكر اليوم علاقة التعبير بالتفكير، والتفكير بالتعبير.
فالألفاظ واللغة بشكل عام هي مشحون حضاري وثقافي، ومخزون تراثي، وهي ظاهرة اجتماعية تاريخية تتطور وتنمو بتعدد وتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، وأن تنمية اللغة وتطويرها هي قضية سياسية اجتماعية وإنتاجية، فعندما يتطور المجتمع حضاريا وإنتاجيا تتطور اللغة، وعندما يتقدم الفكر وتتقدم اللغة يتقدم المجتمع، فكثير من الألفاظ والمصطلحات تغيب في مرحلة ثقافية معينة وتبرز غيرها، لتتوافق وتتسع للمرحلة الثقافية.. كما أن اللغة كظاهرة
[ ص: 24 ] اجتماعية، تتشكل مصطلحاتها ومفهوماتها من خلال الأداء الاجتماعي والسياسي.
ولا أحد يشك في أن استخدام بعض المصطلحات بما تحمله من معان، والأمثال وما تختزله من مساحات ثقافية، والألفاظ والدلالات، تساهم إلى حد بعيد بالتغيير الاجتماعي والحضاري. فكثيرا ما تكون حالة الإنسان الثقافية والفكرية قبل قراءة كتاب غير ما تكون عليه بعد القراءة، وكثيرا ما كان لبعض الفتاوى والخطب والروايات والقصص والشعر وسائر فنون الأدب، مساهمة كبرى في الحراك الاجتماعي والثقافي والتغيير السياسي، وتشكيل المنعطفات التاريخية في حياة الأمم.
لذلك رتب الإسلام مسئوليات كبرى على عملية الكلام، واعتبر الكلمة الطيبة صدقة، كما اعتبرها كالشجرة الطيبة المثمرة الممتد أثرها على الزمن في أبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فأصلها ثابت وفرعها ممتد، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأن المسئولية يوم القيامة سوف تتركز على القول وأثره في صناعة السلوك المستقيم أو المساهمة بالانحـراف،
قال تعالى:
( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) (ق:18) .
[ ص: 25 ]
يضاف إلى ذلك أن اللغة مرآة نفسية، وأوضح نوافذ ووسائل الاستبطان النفسي، الذي في ضوئه يمارس الإنسان أنشطته وعلاقاته مع بني جنسه في المجالات المتعددة.
فاللغة من الناحية الثقافية، وعاء تفكير وأداة تعبير.. واللغة هي الثقافة.. واللغة هي التنمية.. واللغة هي الوطن والأمة، وإحدى مقومات نسيجها الاجتماعي وبنائها الثقافي.
لذلك اعتبر كثير من العلماء أن العروبة اللسان، وأن الكلام بغيرها لغير حاجة يخشى أن يورث النفاق،
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق ) (أخرجه
الحاكم في المستدرك) . وكان
شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون (اقتضاء الصراط المستقيم) .
وكره
الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها، أو يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وكان يؤكد على أن كل من يقدر على تعلم العربية فإنه ينبغي عليه أن يتعلمها، لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه.
وكان
شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الطريق الحسن في ذلك
[ ص: 26 ] هو (اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب) .
ومن الجدير بالتنبه، تلك الرؤية الدقيقة والمبكرة لأثر اللغة ودورها في التفكير وصياغة الشخصية عند الإمام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: (إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخـلق، والديـن، تأثـيرا قـويـا بيـنا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق ) .
ويؤكد على أن (نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
وقد " ... (كتب
عمر إلى
أبي موسى رضي الله عنه : " أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي " . وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم "
[ ص: 27 ] .. وهذا الذي أمر به
عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه، لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله " (انظـر: اقتضـاء الصـراط المستقيم،
لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تحقيق د. ناصر العقل، ج1) . إن التأكيد على اللغة العربيـة وتعلـمها هو الذي حفظ هوية الأمة المسلمة وكيـانها في الكثـير من البلاد الإسلامية المسـتعمرة، مثل
الجزائر وغيرها.. وإن الدعوة لغير العربيـة، ومحاولة إحيـاء اللهجات العامية أو اللغات واللهجات القديمة، ترافقت تاريخيا مع التحرك الشعوبي والعمالة الثقافية، في محاولة للكيد للعروبة والإسلام، وعزل النص الديني عن عقل وحس وسلوك الأمة المسلمة.
ولعل من حسنات التيارات والاتجاهات القومية العربية، أنها اعتبرت اللغة العربية الفصحى هي إحدى مقومات وجود الأمة العربية، ودافعت عنها، ومكنت لها في معاهد ومؤسسات التعليـم، فأدت بذلك دورا إيجابيا غير مغـموط في حفظ كيان الأمة وضمـان امتدادها واستمـرارها، لأن المستعـمر بـدأ
[ ص: 28 ] خطواته باتجاه القضاء على كيان الأمة بفرض لغته وثقافته وعاداته ومبادئه.
وقد يكون من أخطر الدعوات المعاصرة -التي بدأت تشكل قناعات مزيفة، وتتسلل إلى معاهدنا ومؤسساتنا العلمية والإعلامية، ونحن نعاني من التخاذل والتراجع الحضاري، وذلك عندما عجز أعداء اللغة عن مدافعتها وتجاوزها- محاولة التفريق بين لغة العلم ولغة الدين، بحيث لا تلغى العربية، حتى لا تستفز الأمة وتشعرها بالتحدي، وإنما تفصل عن حياة المجتمع، كلون من فن التطبيق العلماني في مجال اللغة، التي تحمل قيم الدين ومقاصده ودلالاته، حيث تحاصر في (المعابد) لتكون لغة العبادة، مثل الآرامية، والسريانية القديمة التي تقتصر على رجال الدين أو المتخصصين.
فاللغة العربية -لغة التنزيل- دون غيرها من لغات الدنيا، مشبعة بالمعاني والدلالات الشرعية التي تؤكد على شمولية الإسلام، وتنظيمه لجميع شئون الحياة، وأن عزلها عن الحياة أو فصلها عن الحياة، وطردها إلى (المعابد) ، واقتصارها على رجال الدين، يجعل التدين نوعا من العطالة والتسليم غير العاقل وغير
[ ص: 29 ] المفهوم، وبذلك يتم إشباع التطلع الديني بلون من التدين المغشوش، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع... لأن لغة العلم والمصادر والمراجع والتكنولوجيا هي اللغة الإنجليزية أو غير العربية، وبذلك تتسلل اللغات الأخرى بمفرداتها ومدلولاتها ومصطلحاتها وفلسفة حياة أهلها إلى احتلال لسان الأمة وعقلها وقلبها.
وهذه الذريعة الخطيرة، ساهمت إلى حد بعيد ولا تزال، برفع العربية من المعاهد والجامعات، ونسبة العجز لها وليس لتخاذل أهلها وتخلفـهم، وهذا لون من التفكيـر الذرائعي الذي يأتي ثمـرة لحيـاة التخـلف وفلسـفة العجز.. وأصحـاب هذا الاتجـاه ما يزالون أكثر عجزا، لأنهم يعيشون على إنتاج (الآخر) ، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا في موقع التلقي، فلا هم احتفظوا بذاتهم وفكروا بتطويرها، ولا هم خرجوا عن طور التقليد (للآخر) ، فخسروا أنفسهم قبل أن يخسروا لغتهم، أو خسروا أنفسهم بخسارة لغتهم.
ولا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن الكثير من الأمم المتقدمة اليوم، حققت سبقا بالعلم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية من خلال لغاتها الوطنية، ذلك أن من أخطر إصابات الأمة أن يكون
[ ص: 30 ] تعليمها بغير لغتها، وتفكيرها بغير أدواتها، وقياس حاضرها على أصول حضارية غريبة عنها.
لذلك بدأت الكثير من الجهات المشبوهة تنسب إلى العربية صفات التقعر والجمود، وصعوبة التعلم، وصعوبة الكتابة، والعجز عن الاستيعاب، وتتهمها بإيجاد الحواجز النفسية بينها وبين الجمهور، وبذلك يفسح المجال للعامية والأجنبية وكل ما هو غريب وهجين على حياة الأمة وامتدادها، باسم التمدن والتقدم والمواكبة والعولمة، وما إلى ذلك من المصطلحات الخادعة، علما بأن الإنسان إذا فقد ذاته، لم يعد موجودا ولا مؤهلا للتعامل مع هذا جميعه.
ولا بد من الاعتراف، أنه على الرغم من الانحياز العاطفي للغة العربية، ومحاولات الدفاع عنها، وأنها لغة التنزيل، إلا أن الملفت هذا التخاذل عن تطوير خدمتها وتقنية توصيلها بالشكل المطلوب المتوازي معها.
ولو ألقينا نظرة متأملة لمجموعة البرامج والوسائل وتقنيات الصوت واللون والأسلوب والوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة، التي تحظى بها اللغات اليوم، ومحاولة الوصول بها إلى العالمية،
[ ص: 31 ] وإثارة الإغراء بها، ونظرنا إلى الحواجز التي تقـام لمحاصـرة العربيـة من أبنـائها، وكيـف أن مجامع اللغة أصبـحت أشبـه بخيـام معزولة تعاني الكثير من غربة الزمان، والقطيعة مع الواقع الثقـافي واللغوي، والسيـر وراءه بدل تقدمه، أدركنا عظم البلاء الذي لحق بالعربية على يد أبنائها، حتى المتحمسين لها، لأن الحماس هنا لا يفيد أكثر من شحذ الفاعلية التي تتضاءل إذا لم تتوفر لها الاختصاصات المطلوبة والخبرات الضرورية.
وأكثر من ذلك، فإن (الآخر) المتحكم بالعالم اليوم، أصبح بما يطرح من اهتمامات وأفكار، قادرا على توجيه اللغة العربية نفسها، وتحويل مصطلحاتها إلى الوجهة التي يريد، وأصبح بإمكانه تغييب بعض المفردات والمصطلحات، واستدعاء أخرى لتملأ الذهنية الثقافية العربية الإسلامية، ويمكن أن تتسرب إليها بعض المدلولات الإضافية التي تخدم ثقافته وتمهد لتشربها من خلال اللغة العربية، ولولا القرآن الكريم لأصبحت العربية على يد أبنائها أثرا بعد عين.
والعجيب أن الكثير من مؤسسات العمل الإسلامي والدعوي، بمختلف مواقعها، لم تدرك العواقب البعيدة لعدم
[ ص: 32 ] خدمة اللغة بالشكل المطلوب، وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها على السواء، إما بسبب المدافعات المستمرة والمواجهات التي تفرض عليها، والتي لم تتح لها الوقت الكافي للتأمل والتحقق بالرؤية الإستراتيجية، أو لبطء المردود على المستوى الحزبي والسياسي، الشأن في ذلك شأن التربية، أو لأن رؤية موقع العمل المجدي واعتلاء المنبر الفاعل يحمل الكثير من الغبش والاستعجال.
لذلك نعتقد أن الكثير من مـؤسسات العمل الإسلامي حاصرت نفسها أكثر من محاصرة أعدائها لها، كما أنها وبسبب من التحزب الممقوت أو التفسير الحزبي للإسلام، تركت هذا الفضـاء الكبـير للعمـل الإسـلامي، ولم تبـصر إلا موقعا واحدا ما تزال تكرره وتقدم الضحايا في محرقته، على الرغم من غياب الجدوى وضياع الأعمار.
ونظرة واحدة إلى المكتبة العربية الإسلامية أو المكتبة العامة، كافية لبيان الفقر الرهيب في تقنيات تعليم العربية، والزخم الكبير في توصيل غيرها من اللغات الأجنبية، مما ينبئ عن حال
[ ص: 33 ] القوى التي تحكم العالم، وتحتل المكتبات، سواء في إطار النشر الثقافي أو في إطار خدمات اللغة.
ولعلنا نقول هنا: إن الدعوة للتعريب والترجمة، والاستغناء بها عن الإنتاج بالعربية، على الرغم من بعض فوائده، إلا أنه يشبه إلى حد بعيد الدعوة إلى أسلمة العلوم المنتجة من (الآخر) ، المشبعة بثقافته وفلسفته وعقيدته.. فقد يصلح التعريب والترجمة لمرحلة، لكنه في نهاية المطاف الجسر الذي تمر من خلاله الثقافات والفلسفات الأخرى إلينا، وتجعلنا في موطن التلقي والتقليد وتكريس التخلف.
وهذه الدعوة المحذرة من الارتماء، لا تعني بحال من الأحوال الانكفاء، وإنما تعنى استعادة الذات اللغوية والثقافية القادرة على التعرف على الحكمة لتصبح الأحق بالاستفادة منها.. أما الأمة العاجزة لغويا وثقافيا -واللغة هي الثقافة- فهي الأكثر عجزا عن إدراك ما تأخذ وما تدع، وما يشكل حكمة وما يعتبر ضلالة.
وقد تكون المشكلة في شيوع فلسفات الهزيمة والعجز والتخلف ومسوغاتها، لذلك فبدل أن تتحول الهزيمة إلى استفزاز
[ ص: 34 ] وتحد وشحذ للفاعلية، تجمع طاقات الأمة وتشعرها بالخطر وتدفعها إلى النهوض، تصبح وسيلة للركود والتقليد والاطمئنان المغشوش. وبدل أن تترجم معطيات عقيدتنا وثقافتـنا إلى اللغات الأجنبية الأخرى، لنشر الإسلام ومخاطبة الناس بلسانهم، لإلحاق الرحمة بهم، واستنقاذهم من ضلالاتهم، وتقديم الإسلام على أنه دين الله للإنسان وليس دين العرب ولا غيرهم، أصبحنا نترجم ثقافات وفلسفات (الآخرين) ، ونعربها ونصبها فوق رءوس قومنا.
وكم كانت النتائج ملفتة وكبيرة لو أننا ترجمنا الإسلام إلى لغات الأمم الأخرى بدل أن نترجم فلسفات اليونان والرومان في القرون السابقة إلى العربية، وندخل الأمة في أنفاق من الجدل الكلامي أدى إلى تقطيع أوصالها وبعثرة تفكيرها.. فالترجمة والتعريب التي لم تدرس مضموناتها وجدواها بدقة، سوف تتحول إلى جسور لعبور الغزو الثقافي.
ومن مظاهر فلسفة العجز والتخاذل والهزيمة وإيجاد المشروعية لذلك، محاولة التفريق بين التفكير والتعبير، وعدم القدرة على
[ ص: 35 ] إدراك الصلة والتلازم بين التعبير والتفكير، وأن التعبير أداة التفكير ووعاؤه، وأن التفكير يتشكل ويتطور وينمو من خلال دلالات التعبير ومصطلحاته، وبحسب الإنسان تخلفا ألا يدرك هذه العلاقة من أثر التعبير في التغيير والتفكير، والأبعاد النفسية لعلاقة اللغة بصياغة الشخصية وبنائها الفكري، لأن اللغة أهم مصادر التشكيل الثقافي، كما أسلفنا.
وقد لا نستغرب أن يوجد على ساحة العمل الإسلامي اليوم من يقوم بهذا التفريق، ويقول: المهم أن يكون التفكير إسلاميا، أما التعبير فيمكن أن يكون بأية لغة، ويكتفي من العربية بأن يحفظ بعض السور القصار من القرآن ليؤدي بها الصلاة، ويخرج من عهدة التكليف -في ظنه-، أما فيما وراء ذلك فكل مصادر تشكيله الثقافي يتحصل من غير العربية!.
ولا أدري كيف يكون التفكير إسلاميا وكيف يصاغ ذلك التفكير مع فقـدان وسيلـته وأداته العربيـة؟! ذلك أن المعـروف أن الترجمات تفقد النص الكثير من المعاني وتضيعها في المسافة بـين الكاتب والمتـرجم، وأن الفـهم الصحيـح والسليم لأي نص
[ ص: 36 ] لا يتحقق ولا يحتج به ما لم يتم من خلال اللغة التي كتب فيها النص، لذلك نص القرآن الكريم على أنه بلسان عربي مبين، وبذلك لا يـدرك إلا من خـلال معهود العرب في الخطاب، وأنه لا يجـوز ترجـمة ألفاظه وإنما تـتـرجم المعـاني، وأن الـترجمـة لا تسمى قرآنا.
هذا علاوة عن أن اللغة العربية تمتلك من الطاقات والإمكانات ومخزون الألفاظ المترادفات ما يستطيع التعبير عن أدق الأحاسيس وأبسطها.. وحسبنا أن نقول: بأن الإعجاز البياني بها ملفت من بعض الوجوه إلى هذه الإمكانية الكبيرة.
إضافة إلى أن تعلم أصواتها يمنح السلم الصوتي للإنسان مرونة عجيبة تجعله يستطيع النطق بأي حرف أو تركيب لغوي عربي أو غير عربي، فهي تستخدم جميع أجزاء السلم الصوتي للإنسان على عكس اللغات الأخرى.. فالناطق بالعربية لا يعاني من احتباس اللفظ أيا كان، ولا من العجز عن التعبير عن أي معنى مهما دق أو جل.
وباعتبار أن الكثير من بني قومنا أصبحوا لا يقتنعون إلا
[ ص: 37 ] بدراسات وبحوث (الآخر) ، ننقل لهم هذه الشهادة:
تذكر الباحثة سهير أحمد السكري اختصاصية اللغويات في جامعة جورج تاون، واشنطن، قصة مثيرة ذكرها الكاتب الإنجليزي E.H.Janser في كتابه: الإسلام المقاتل، يقول: إن
إنجلترا وفرنسا قد أجرتا بحوثا عن أسباب قوة وصلابة الإنسان العربي، وتمكنه من فتح البلاد المحيطة به من
الهند إلى تخوم
الصين ... فوجدتا أن السر في ذلك كان طريقة تعليم الطفل العربي، وكيف أنه بدأ قبل الخامسة بحفظ القرآن وختمه، وهو الكتاب الجامع لأفصح التراكيب اللغوية وأجمل الصيغ البلاغية التي تنطبع في الذاكرة، فلا تزول، مما يحميه من الوقوع في مرض الازدواج اللغوي، وهو الضياع بين لغتين عامية وفصحى، لا يتقن إحداهما.. كما يعطيه القرآن طاقة نضالية، وصلابة خلقية، وزخما إيمانيا، وصلة بالغيب، لا تتخلى عنه طوال عمره، فهو يشعر دائما أنه ليـس وحـده وإنما يـوقن بأن الله مـعه... (انـظر: الأهـرام، 28 نوفمبـر 1998م) .
وقد لا يكون المجال متاحا للكلام عن الإنتاج العلمي والثقافي
[ ص: 38 ] الذي أحدثه القرآن في حياة الأمة المسلمة، والعلوم والمعاجم والقواعد اللغوية والنحوية، التي ألفت لحماية النص القرآني من التحريف والتصحيف، وبذلك حفظ لفظه ومعناه.. وليس هذا فقط، وإنما حفظ ونقل رسمه أيضا، فكان بذلك كتابا منقولا بالكتابة والرسم، وكان أيضا قرآنا منقولا بالمشافهة، وكانت المحاريب وحلقات الذكر والمدارسة ومراكز التحفيظ وفنيات الخط العربي، كفيلة بسلامة نقله كتابة وقراءة ومشافهة كما أنزل على قلب
محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا ما يزال الرصيد الباقي والخالد للأمة، الذي يشكل لها الإمكان الحضاري والرصيد الثقافي، حتى إن بعض الشعوب الإسلامية أعادت كتابة ألفاظ لغتها بالحرف العربي تبركا به.
وخلود القرآن واستمراره رسما ومشافهة، كان الوسيلة الوحيدة لاستمرار التواصل مع التراث، والقدرة على قراءته وإدراك معطياته، كما كان الوسيلة الأساس لتطور اللغة العربية ضمن ضوابط سليمة تسمح للمتعلم اليوم أن يقرأ الإنتاج الفكري والثقافي في كل العصور الإسلامية.
[ ص: 39 ]
وهذا التطور الطبيعي وعـدم الانفلات اللغـوي، أدى إلى التماسك في نسيـج الأمة الثقافي، وتواصل أجيالها، وبذلك أصبحت اللغـة العربيـة ليست مجرد وسيلة للتعبـير، لكنها مشحونات لتـراث من الفـكر والثقـافة والقيم، والتراكمـات من التجارب والخبرات، بين ماض عريق وصولا إلى واقع نعيشه وغد نأمله.
فاللغة تبقى من أهم مقومات الارتكاز الحضاري وامتلاك القدرة على رسم ملامح الشخصية الحضارية للأمة، وبيان قسماتها، والتعبير عن ثقافتها، وتأمين تواصلها مع الأجيال، وإيصالها (للآخر) .. ويتوقـف نجاحها في ذلك على مدى قدرتها على استيعاب حركة المجتمع ونمو الثقافة، وحمل رسالة الأمة إلى (الآخر) .
لذلك فإن محاربة الرسم العربي، ومحاولات إشاعة العاميات، وبدء زحفها على وسائل الإعلام والتعليم من خلال الرطانات اللغوية والتكسرات الجسدية والتبذلات اللسانية التي بدأت تمارسها بعض المحطات الفضائية، ومحاولة الإغراء بها من خلال
[ ص: 40 ] اختيار المقدمين والمقدمات للبرامج، وإدخال بعض المصطلحات الأجنبية، وبالمقابل ما يتم من الحديث بالفصحى، حيث تختـار له الألفاظ الموحشة غير المأنوسة، والمقدم المتجهم، البعيد عن روح العصر، وكـأنه قادم من عمـق التـاريخ، يعاني غربة الزمان والمكان، يحمل المخاطر الكبيرة التي لا يمكن تحديد مـداها في جيل أو جيلين.. كما أن المحاولات الدائبة للكتـابة بغير الألفاظ العربية، يمثل أخطر قطيعة بين الأمة وتراثها، وبذلك تلغى ذاكرتهـا وتبعثر شخصيتها.
والكتاب الذي نقدمه اليوم، يشكل محاولة جادة لمناقشة مشكلة تعتبر من أخطر المشكلات، التي تتعرض لها الكتابة العربية، بعد أن اتسعت فجوة التخلف في عالم العرب والمسلمين، وما رافق ذلك من التطور الهائل لتقنيات الكتابة والاتصال، والدعوة العريضة إلى ضرورة استبدال الحروف الأجنبية بالكتابة العربية، الأمر الذي يعني أول ما يعني إحداث القطيعة مع القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث التاريخي للأمة المسلمة، ومسح ذاكرتها، بحجة أن تعلم الكتابة العربية ورسمها وحروفها
[ ص: 41 ] صعب، قياسا ومقارنة بالكتابة بالحروف الأجنبية.
والباحث حاول تفنيد المآخذ المنسوبة إلى العربية، وعقد مقارنة متخصصة مع الفرنسية والإنجليزية، مبرزا النقائص والمزالق الموجودة في أشهر لغات العالم المعاصر اليوم.
وتـأتي ميـزة الكتـاب في أنـه ركـز على مناقشة الأفكـار لا الأشخاص، وحاول التفريق بين مناقشة القيمة (الفكرة) بعيدا عن الذات، مبينا أن دعاة التغيـير لم يكونوا موضوعيـين في عرضـهم الحقائق.. إضافة إلى أن الباحث تمكن من عرض النقاط الفنـية المتخصصة بأسلوب سهل واضح، ليصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء.
والله نسأل أن ينفع به، ويجزي المؤلف خير الجزاء على دفاعه عن رسم القرآن ولغة القرآن.
والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 42 ]