مناقشة الحجة الثانية
اتخذت هذه الحجة من تعدد أشكال كتابة الحرف الواحد مطعنا في الكتابة العربية، ونود أن نشير في هذا الخصوص إلى ما يأتي:
1. لا يقتصر هذا الأمر على العربية، فالإنجليزية مثلا تكتب حروفها بأربعة أشكال: كبير وصغير وكل منهما يكتب بشكلين: كتابة منفصلة وأخرى يدوية. ونجد في العبرية حروفا طباعية كما نجد أشكالا يدوية
>[1] ، كما أن السريانية تكتب الحرف بأربعة أشكال أيضا (انظر الملحق ذا الرقم2) .
2. يستشف الناظر إلى الأشكال المتعددة للحرف العربي الواحد علاقة وثيقة قد لا يجدها في غيرها من الحروف الأجنبية، فحرف الفاء مثلا يكتب منفصلا على هذا النحو: ف، بيد أن هناك مبدأ عاما في الكتابة العربية وهو مد خطيط أفقي من الجهة التي يتصل بها بحرف آخر، ومن ثم يقتصر الشكـل الجـديد المتصـل للحرف، قيـاسا بشكله المنفصل،
[ ص: 87 ] على مراعاة هذا الاتصال بإجراء تحوير طفيف عليه لتسهيل عملية الاتصال.
فإذا وصلنا الفاء السابقة من اليسار، في كلمة (فلس) ، فإننا لم نكتب حرفا جديدا كل الجدة غير ذي علاقة بالشكل المنفصل للحرف، وإنما اقتصر عملنا على إزالة الارتفاع الرأسي في نهاية الجهة اليسرى بغية إتمام عملية الوصل. أما الجانب الأيمن فبقي على حاله، والأمر نفسه يحدث فيما إذا اتصلت الفاء بالجهة اليمنى، مثل: أنف. ولا أعتقد أننا نحتاج إلى دليل لإثبات أن الفاء في (أنف) هي نفسها في كلمة (جاف) ، حيث الفاء منفصلة.. وما قلناه عن الفاء ينطبق على معظم الحروف العربية التي يمكن وصلها.
فالعلاقة إذا، بين الأشكال المختلفة للحرف الواحد علاقة وثيقة لا يخطئها العقل الإنساني.. بعبارة أخرى، لا يحتاج الذهن الإنساني إلى الجهد ليستنتج التشابه الموجود بين (ت) و (تـ) ، أو بين الباء في (برتقال) والباء في (قريب) ، وإن كانت الآلة (لا العقل) تنظر إلى كل منهما على أنه شكل منفصل كل
[ ص: 88 ] الانفصال عن الأشكال الأخرى، مما سنتطرق إليه بعد قليل.
وقمين بنا أن نشير إلى العلاقة بين مجموعة من الأحرف اللآتينية قد تكون معدومة، مثل: g و G، و A و a، و H و h .
3. تنقض النقطة السابقة (أي: التماثل بين الأشكال المختلفة للحرف الواحد، وسهولة تبين العقل الإنساني لذلك التماثل) الدعوى بأن تعدد شكل الحرف سبب بلبلة المبتدئين في تعلم الكتابة العربية وإطالة زمن التعلم، ونود أن نسأل سؤالا: هل هذه البلبلة وذلك التأخر في تعلم الأبجدية والتهجئة، مستنبطان عقليا أم أنهما ثابتان تجريبيا؟ بعبارة أخرى: هل (استنتج) المنتقدون هذه النتيجة (أي: البلبلة والتأخر) من (مقدمتهم) القائلة: بأن تعدد أشكال الحرف الواحد خلل في الكتابة العربية، أم أنهم أقاموا كلامهم هذا على أساس دراسات علمية، وخاصة بالموازنة بطلاب أجانب يدرسون لغات أخرى؟ وإذا كان التلميذ العربي يتباطأ في تعلم الأبجدية موازنة بنظيره الأجنبي، فهل يعود السبب إلى كون الحرف
[ ص: 89 ] العربي الواحد يتخذ أشكالا عدة (مع ملاحظة تساوي المتغيرات الأخرى، مثل عمر الطالب، ونوع المعلم ...إلخ) ؟ وما المدة التي يتخلف فيها العربي -إن تخلف فعلا؟ ونحن إنما نتساءل لأنني لم أعرف -على قدر ما أعلم- بوجود مشكلة من هذا النوع (وقد كنت يوما ما تلميذا) إلا من الداعين إلى تغيير الكتابة العربية.
4. نقر بأن الكتابة العربية كانت تقاسي من المطبعة العربية، وأن الصناديق التي تحتاجها العربية أكثر من الصناديق التي تحتاجها الكتابة اللاتينية بما يقارب ثلاث مرات.
بيد أن هذه المشكلة باتت قديمة، وانقرضت بدخول الحاسوب (الكمبيوتر) ، بدليل أن الجهاز الذي يطبع الحرف اللاتيني هو نفسه بحجمه الصغير، يطبع الحرف العربي أيضا. وتولى الجهاز نفسه عملية الوصل بين الحروف. فإذا طبع على الحاسوب لفظ مثل (أب) ، بالباء المنفصلة، ثم أراد الطابع زيادة ياء الضمير، أي (أبي) ، فلن يعمد الطابع إلى إلغاء الباء المنفصلة ليحل محلها الباء المتصلة، وإنما سيطبع الياء وستتحول
[ ص: 90 ] الباء -آليا- إلى باء متصلة. وكأن الحاسوب ببرمجته أدرك العلاقات الوثيقة بين الأشكال المختلفة للحرف الواحد، مما أشرنا إليه، وهو ما فشلت المطابع القديمة في إدراكه.
ومما يجدر ذكره هو أن الحركات في الحاسوب تختص بمفاتيح منفصلة. وعلى هذا يستطيع الطابع أن يضع الفتحة أو الضمة أو الكسرة أو الشدة ... إلخ، على الحرف الذي يريده.