تقديم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي خلق الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبـث منهـما رجالا كثـيرا ونسـاء،
قال تعالى:
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1) ،
وبذلك قرر حقيقة أساسية في بناء الحياة السعيدة، هـي المساواة التي تقتضيها وحدة الأصل البشري، واعتبر الإيمان والتقوى والتدين الصحيح منافيا لأي لون من ألوان التمييز بسبب الجنس أو اللون أو العرق، فالإيمان الصحيح بالله وقاية من الوقوع في التمييز والارتكاس في الجاهلية الذي قد تنزع إليه النفس في فترات الضعف وهبوط أقدار التدين، كما جعل الله الأنوثة جزءا من الذكورة، جزءا زوجيا، حيث لا يستقيم أمر الذكورة ويتحقق بالكمال إلا بالاكتمال بالأنوثة، ولا يستقيم أمر الأنوثة إلا بالاكتمال بالذكورة، قال تعالى:
( وخلق منها زوجها ) ، كمـا جعل استمرار الحيـاة وامتدادها منوطا بهما معا. والصلاة والسلام على البشير النذير، الذي صوب مسيرة البشرية
[ ص: 11 ] بإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإلغاء التمييز، وحقق المساواة في واقـع النـاس، وبلغ بالبشـرية مرحلة الكمال والاكتمـال، تماما كما صوب دورة الشهور والأيام واستدارتها، وأعاد الحق إلى نصابه، واسترد إنسانية الإنسان بشكل عام، وأعاد الاعتبار لإنسانية المرأة المنقوصة وأهليتها المطموسة بشكل خاص، فكانت المـرأة (
خديـجة أم المؤمنين رضي الله عنها ) زوجة مرافقة ومشاركة في ترسيخ الخطوات الأولى لتلقي الوحي وامتداد النبوة.
لقد كانت المرأة في بيت القدوة، محل الاستشارة والرأي والحكمة والبصيرة والتثبيت وحسن التبعل والعطاء والفداء.
وجاء البيـان النبـوي، أن المـرأة هـي الشـق الآخر للحيـاة الذي لا يكتمل إلا بشقـه، كما جعلها الشقيقة بكل ما تحمل هـذه الكلمة من أواصر الحب والود والتعاون والرعاية والحماية وحفظ الحقوق بشكل عام، فقال عليه الصلاة والسلام :
( النساء شقائق الرجال ) (رواه الترمذي) .
وبعد ؛
فهذا كتاب الأمة السبعون: (دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى ) ، للأخت الأستاذة آمال قرداش بنت الحسين ، في
[ ص: 12 ] سلسلة (كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي بدور الأمة وتحريك طاقاتها الفاعلة، واستشعار رسالتها، والتعرف على الإمكان الحضاري، الذي يؤهلها للقيام بمهمة الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم.
إن التعرف على الإمكان الحضاري الذي يشكل مؤهل النهوض، يقتضي استمرار محاولات البحث في شروط النهضة، وإحياء التفكير السنني، وتجديد فرضية السير في الأرض، والتوغل في تاريخ النبوة، والتعرف على أسباب سقوط الحضارات ونهوضها، وإدراك علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، وبيان سبل الوقاية من تسربها إلى أمة الرسالة الخاتمة، وعدم الاقتصار على التجربة الذاتية أو تاريخ الصورة الأخيرة للنبوة في أداء أمة الرسالة الخاتمة، بل تجاوز ذلك إلى استصـحاب التاريخ العام، لأن سنن الحركة التاريخيـة لا تتبـدل ولا تتحول، والسعي الدءوب لإعادة بناء المرجعية، والتعرف على الصفات والخصائص التي تميز بها خير القرون، في محاولة لتنزيلها على واقع المسلمين اليوم، في مجال التربية والتعليم والإعلام والثقافة والدعوة والإرشاد، والتعرف على الظروف والشروط التي توفرت لميلاد المجتمع الأول الأنموذج، لعلنا نجتهد في إدراك أهميتها ومدى الحاجة
[ ص: 13 ] إلى توفيرها لمعاودة النهوض، لأن آخر هـذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها ، أو كما قال
الإمام مالك رحمه الله تعالى.
لذلك فقد يكون المطلوب دائما وباستمرار، الاجتهاد في توليد رؤية للنهوض والتفكير في مشاريع النهوض والتجديد، من خلال قيم الأمة ومرجعيتها ومعادلتها الاجتماعية، لأن محاولات التحديث والنهوض المستعارة من خارج الأمة، لم تفلح في انتشالها، وردم فجوة التخلف، وإنما كانت سببا في تكريس التخلف، لأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، كما هـو معلوم.. كما أن الجمود وجعل القداسة لأقوال البشر ونقل القدسية إليها، وإحلالها محل قيم الكتاب والسنة، والتخاذل والعجز عن التوليد لرؤى وبرامج النهوض في ضوء قراءة الواقع واستلهام القيم، في المقابل لم يفلح أيضا في توفير شروط النهوض، ورسم سبل الخروج، فكان الحال لكلا الوجهتين واحدا من حيث المآل، سواء بالنسبة لمن جمدوا على القيم وجمدوها وحاصروا خلودها وعجزوا عن الإنتاج، تحت شتى المعاذير والذرائع، أو بالنسبة لمن خرجوا عليها وحاولوا تجاوزها وتعاطي إنتاج (الآخر) .
ولعل من القضايا الأكثر إلحاحا اليوم، إنما تتحدد بالاستشعار أن التجديد في أمر الدين هـو تكليف ومسئولية ودليل استمرار الحياة وحركة التاريخ، وأن الركود والجمود والاستنقاع الثقافي يناقض أخص
[ ص: 14 ] خصائص وتكاليف هـذا الدين.
وبالإمكان القول: إن التجديد من خلال العودة إلى القيم والينابيع الأولى، ومحاولة معايرة الواقع وتقويمه بها، وتوليد الأوعية الشرعية لحركة الأمة، والاستهداء بمرحلة السيرة في مجال تنزيل القيم على الواقع بحسب استطاعة الناس، ونفي نوابت السوء، ومحاصرة علل التدين، يقوم مقام التصويب الذي تكفلت به السماء في تاريخ تتابع النبوة، لأن الناس في كل زمان ومكان يميلون بطبعهم إلى القبول بالتقاليد والتوارث الاجتماعي، والاستسلام لها، وتقديس المألوف من العادات والتقاليد، والتمنع عن قبول كل جديد، وهذا مناقض لسنة الحياة وطبيعتها المتجددة باستمرار.
وقد تكون الإشكالـية الأخطر على مجتمعـات المسلمين، أن تحتل التقاليد الاجتماعية محل التعاليم والقيم الشرعية، وأن يكون غاية المطـلوب أن يبذل الجـهد للتفتيش في التعـاليم الشرعية لإضفاء القدسـية والمشروعية على التقاليد حتى لو كانت معوقات فاسدة، فهذا مما يفتـح الباب على مصـراعيه للون من الآبـائية وتسلل النـزعات والبذور الجاهلية إلى النفوس، في غيبة من حراسة القيم وهبوط أقدار التدين.
وقد يكون المحور الأساس، الذي تدور وتتسع وتقدس في إطاره
[ ص: 15 ] التقاليد، وتنكمش في مجاله التعاليم والقيم الشرعية، هـو الشأن الاجتماعي، وعلى الأخص في نطاق وضع المرأة وعلاقات الأسرة بشكل عام، التي تشكل المرأة عمودها الفقري.
ولا بد من الاعتراف أن قضية المرأة وأبعاد دورها في المجتمع والحياة ما يزال من الثغور المفتوحة في الفكر الإسلامي، والسبب في ذلك -فيما نرى- العجز عن التعامل مع الواقع وتقويم مسيرته من خلال القيم الثابتة الواردة في الكتاب والسنة، وعن التعامل مع قيم الكتاب والسنة من خلال إدراك الواقع، وأننا حقيقة ما زلنا بشكل عام وفي هـذه القضيـة بشكـل خاص، نراوح في مـواقع الفكر الدفاعي، وما تزال معظم اهتماماتنا أو الخارطة التي نتحرك من خلالها لم تتجاوز مسألة الحجاب وتعدد الزوجات والطلاق والإرث والشهادة، وما نزال نبدي ونعيد في هـذه القضايا وكأننا نشعر أننا لم نكن مقنعين بعد، وهذا يعني أننا ما نزال مستمرين في حالة الهزيمة.
كما أنه لا بد من الاعتراف أيضا أننا أتينا من قبل المرأة، بسبب من عجزنا عن كيفية التعامل معها، وإعطائها ما أعطاها الله، وتنمية شخصيتها، وتطوير وظيفتها، ووضع الأوعية الشرعية لحركتها وممارسة دورها في الحياة.
لقد انشغلنا بأمر الدفاع عن المرأة وبيان حقوقها ومكانتها في
[ ص: 16 ] الإسلام عن بناء شخصيتها، واستيعاب دورها واستشراف المستقبل الذي ينتظرها، والقدرة على استلهام قيم الوحي واستيعاب الواقع لتوليد الفقه المناسب لحركتها وممارساتها الشرعية.
ولعلنا نقول: إن القيم المتحكمة في وضع المرأة في كثير من بلدان العالم الإسلامي هـي التقاليد الاجتماعية، التي لا تخلو من جاهليات لا جاهلية واحدة، وليس التعاليم والقيم الشرعية في الأعم والغالب، وإن هـذه التقاليد مشبعة بصور من الوأد الثقافي أو الوأد المعنوي بشكل عام.
وهذا الوأد المناقض للخلق، المعاند للفطرة والمخالف لقيم الوحي وتعاليم الشرع، أحدث فراغا ثقافيا واجتماعيا، مكن لامتداد (الآخر) بكل موروثاته الثقافية والفكرية، وأحدث تمردا وخروجا وكسـرا للموازيـن، إلى غيـر ذلك من الأمور التي ندينها ونرفضها ولا نكلف أنفسنا بدراسة أسبابها.
ولو أنـنا استشرفنـا المستقبل بشكل صحيـح، وأعطيـنا المـرأة ما أعطاها الله، وطورنا رؤيتنا لهذا العطاء ضمن الضوابط الشرعية، واعترفنا بدور المرأة الشرعي، وتجاوزنا التقاليد الجاهلية إلى التعاليم الشرعية، لما صرنا إلى ما نحن عليه، ولشكل الإسلام عقيدة واختيارا للمرأة وامتيازا لها عن غيرها في الثقافات الأخرى، وليس وراثة
[ ص: 17 ] وتقليدا هـشا آيلا للسقوط والانكسار عند الصدمة الأولى.
والناظر في أدبيات الفكر الإسلامي على مدى نصف قرن أو يزيد بالنسبة لدور المرأة وموقعها في الحياة، يجد أقدارا من التناقض والتناكر والاضطراب والتحليل والتحريم والتبعثر الفكري.. ولعل هـذه الإصابات الفكرية والفقهية وانتشار عقلية المسوغات والذرائع، إنما حصلت بسبب العجز عن إدراك الواقع وإبصار وجهته المستقبلية، وسوء النظر إلى محل تنزيل النص على حياة الناس بحسب استطاعتهم. فالتسويغ والاستسلام، دائما هـو مركب العاجز المتخاذل.
وقد لا نكون بحاجة إلى القول: إن شريعة الله اعتبرت المرأة مخلوقا كامل الأهلية ومحلا للخطاب السماوي والمسئولية الفردية، ومساويا للرجل في الحقوق الإنسانية العامة والموالاة الاجتماعية وممـارسـة الإصلاح،
قال تعـالى:
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97) ،
وقال:
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (التوبة:71) .
[ ص: 18 ]
إن شريعة الله للناس لم تقم -في الحقوق الإنسانية العامة- وزنا للذكورة أو الأنوثة، لأن من الظلم ومجانبة العدل الذي تنأى عنه شريعة خالق الذكر والأنثى، اعتماد هـذه الفوارق القسرية التي ليست من صنع الإنسان حتى يحاسب عليها، وإنما جعلت ميزان الكرامة: التقوى والعمل الصالح،
قال تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم ... ) (الحجرات:13) ،
وجاءت مشاركات المرأة وممارساتها في مرحلة السيرة تجسيدا لهذه الكرامة، وتنزيلا للأحكام الشرعية على محالها، حتى لا يكون هـناك مجال للعبث أو التأويل الباطل، وليكون ذلك دليلا ومعيارا لأبعاد دور المرأة في الحياة الإسلامية على مر العصور.
فلقد بايعت المرأة، وجاهدت، وهاجرت، ومرضت، وعلمت، وكانت من رواة الأحاديث، واستدركت
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الصحابة، وقدمت
أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها المشورة والرأي والحكمة للرسول صلى الله عليه وسلم -الموحى إليه المستغني عن الشورى بالوحي- في صلح الحديبية عندما اختلطت الرؤية وكادت أن توقع في الهلكة، الأمر الذي شكل منعطفا تاريخيا وكانت له أبعاده الممتدة في التاريخ الإسلامي.
لقد أقام الإسلام العلاقة بين الرجل والمرأة على المودة والرحمة،
[ ص: 19 ] قال تعالى:
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم:21) ،
على عكس الفلسفات الأخرى القائمة على الصراع والمواجهة بين الرجل والمرأة، وجعل القوامة التي ناطها بالرجل درجة إشراف وإدارة وليس درجة تشريف وكرامة، لأن الأكرم هـو الأتقى، كما قدم كلا باختصاصه على الآخر، وطلب التعامل بالإحسان بينهما حتى في حالة الكراهية قال تعالى:
( ... فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) (النساء:19) ،
وقال:
( ... ولا تنسوا الفضل بينكم ... ) (البقرة:237) .
وجعل الأم المرأة أحق الناس بحسن الصحبة، فقد
( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟، قال: ثم أمك، قال: ثم من؟، قال: ثم أمك، قال: ثم من؟، قال: ثم أبوك ) (رواه البخاري) ، كما جعل حق المرأة في الميراث بعد أن كانت محرومة منه معيارا لحق الرجل:
( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... ) (النساء:11) .
[ ص: 20 ]
وقد لا تكون المشكلة المطروحة اليوم في مشاركة المرأة أو عدم مشاركتها في الحياة، وإنما المشكلة الحقيقية اليوم في المحاولات الدائبة لإبعادها عن قيمها وإسلامها باسم المشاركة وتحت شتى العناوين، وكيف يمكن أن تصبح المشاركة وسيلة لإخراجها من دينها ؟! والواقع دليل على أن المشكلة ليست في المشاركة أو عدمها، فكم من المشاركات رفضت وحوصرت بسبب التزام المرأة بقيمها الإسلامية، فالمشكلة إذن في الاستمرار في التزام المرأة القيم الإسلامية.
ومن الأمور اللافتة حقا أنه على الرغم من حصول المرأة المسلمة على أعلى الدرجات العلمية، وتبوئها أرقى المستويات الاجتماعية، إلا أنها تبقى في نظر بعض من يدعون الديمقراطية والمساواة رجعية ومتخلفة، بسبب تمسكها بقيمها الإسلامية ولباسها الإسلامي.
ولعل المشكلة غير المصرح بها، أن المعيار اليوم هـو واقع المرأة الغربيـة، على الرغم من كل الإصـابات والأزمات التي تعيشـها وما انتهت إليه في مجتمع الإباحة من المتع الرخيصة وصور الرقيق الأبيض، الأمـر الـذي أدى إلى وجود اجتماعي بلا آباء وأحـيانا بلا أمهات، حيث صارت المرأة في الغالب سبيلا لمتعة الجسد، ووسيلة للإعلان وإنفاق البضائع والإغراء بالاستهلاك،
قال تعالى:
( ودوا لو تكفـرون كـما كفروا فتـكونون سـواء ... ) (النسـاء:89) ،
[ ص: 21 ] وقال:
( ... ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ... ) (البقر:217) ،
فميدان المعركة الحضارية أوسع مدى من مجرد المعارك ذات الشوكة.
إن مبدأ سد الذرائع الذي كان اعتماده بإطلاقه سببا في حرمان المرأة من كثير مما أعطاها الله، درءا لذريعة الفساد التي أسأنا تقديرها، إذا لم ندرك أبعاده بشكل صحيح، ونحسن تطبيقه بالأقدار الموزونة والمدروسة، سوف يتحول إلى لون من التستر على الحال، والركود ومحاصرة الحراك، وقتل روح التجديد.. وسوف يقود إلى فقه الذرائع والمسوغات، فيسود فقه المخارج ويغيب فقه المقاصد والأهداف.
وهنا قضية على غاية من الأهمية -فيما أرى- وهي أن الله سبحانه وتعالى -الذي خلـق الإنسان والأكوان والأزمان، وأنزل شريعته الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، وأوحى بالقيم الضابطة، لمسيرة الحياة حتى تقوم الساعة- أعلم بتقلبات العصور وما يطرأ عليها من الفساد والصلاح.. والخطورة كل الخطورة في محاصرة الأحكام الشرعية القطعية الدلالة، وتوقيفها وإلغائها تحت ذريعة فساد العصر وشيوع الفتنة. وبذلك يصبح مبدأ سد الذرائع هـو الأصل
[ ص: 22 ] وليس الاستثناء، وكأن الله الذي شرع الأحكام لا يعلم بفساد العصر وشيوع الفتنة!
وهذا الأمر إضافة إلى ما يورثه من تعطيل الأحكام الشرعية بحجة سد الذرائع، فإنه من وجه آخر كأنه يحكم عليها بعدم الصلاحية لهذا الزمان أو ذاك، وبذلك نقع -نحن الذين ننحاز إلى الإسلام عاطفيا- بنفس الحفـر التي نأخـذها على الآخرين، الذين انطلقوا من أن الإسلام جاء لمعـالجـة مشـكـلات مجتـمع معـيـن انتـهى زمـانـه ولا يصلح لمعالجة واقعنا بكل ما فيه، فالنتيجة واحدة وإن تغير المنطلق وتناكرت الفلسفة.
لقد حرمت المرأة من بعض ما أعطاها الله من الحقوق باسم سد الذرائع.. حرمت من المشاركة في الحياة، والذهاب إلى دور العبادة والعلم، باسم حمايتها من الفتنة والفساد، فشاع الجهل وضعفت عرى التدين وفسدت التربية الأسرية والتربية الاجتماعية معا، بسبب أمية المرأة وجهلها، وقد لا نحتاج لكثير أمثلة، لأنها تملأ الواقع، ولا يتسع المجال للإتيان على ذكرها.
وقد لا نرى أنفسنا بحاجة إلى التأكيد على أن المدافعة بين الخير الشر والصلاح والفساد، تؤدي إلى النمو والارتقاء وتحرير الحقيقة وتقود إلى النصر، وأن الضرب بين الحق والباطل هـو من سنن الحياة التي
[ ص: 23 ] تحقق استمرارها، كما يؤدي إلى ثبات الحق وجفاء الزبد،
قال تعالى:
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هـاديا ونصيرا ) (الفرقان:31) ،
وقال تعالى: ....
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40) ،
وقال:
( ... كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) (الرعد:17) .
إن الخروج من المجتمع يعطل سنن الحياة ويوقف التاريخ ويطفئ الفاعلية.. ذلك أن الاستفزاز والتحدي يصلب العود ويجمع الطاقة ويقضي على الرخاوة وحياة الدعة، ويدعو للتحصن والصمود ومحاولة الإقلاع من جديد.. وكم من الفرص أضعناها بسبب الانكفاء ولم يعد لنا منها إلا البكاء على الأطلال! وكم من الطاقات والإمكانات النهضوية أهدرناها بسبب الارتماء على الآخرين! وكم من الطاقات النسائية عطلناها حتى أصبحت طاقات فائضة تشكل عبئا على أصحابها، وتفتح الباب واسعا أمام الإصابات النفسية، لعجزنا عن استيعاب الواقع ووضع المناهج والبرامج للتعامل معه من خلال
[ ص: 24 ] الضوابط الشرعية، حتى أدى الأمر بسبب هـذه التراكمات، إلى انهيار الجدار وتكسير الموازين الشرعية والانفلات من كل قيمة.
ولو حاولنا المقارنة بين واقع التدين في إطار المرأة في البلاد الإسلامية، التي سبقت إلى تعليم المرأة وأتاحت الفرصة أمامها لتأخذ دورها في الحياة ومواجهة المنكر، وبين واقع المرأة في البلاد التي حالت دون تعليم المرأة بحجة الحيلولة دون الفساد وشيوع الفتنة وعزلتها عن قضايا الحياة، لتبين لنا أن حالة التدين والوعي الإسلامي والالتزام والتضحية وحمل الرسالة عن اختيار وإرادة بالنسبة للمرأة، وليس عن مواريث تقليدية إسلامية شكلية، أفضل بما لا يقاس.
وقد تكون المشكلة اليوم، في انتزاع الأحكام الفقهية الشرعية، بالنسبة لقضية المرأة بشكل أخص، من سياقها وإطارها ومجتمعها، في محاولة لإيجاد مشروعية لبعض التصرفات والممارسات في المجتمعات التي لا تدين بالمشروعية العليا للإسلام، حيث لا يستفتى الدين إلا بهذه الجزئية أو تلك، وتكون كل الممارسات فيما وراء ذلك لا علاقة للدين بها.
فدور المرأة لا بد أن ينظر إليه ويمارس ضمن الرؤية الإسلامية الشاملة والإطار المرجعي الإسلامي والضوابط الشرعية التي تحكم حركة المجتمع الذي يدين بالمشروعية العليا للإسلام، ويعمل لبلوغها
[ ص: 25 ] ويتعاون في ذلك جميع أفراده ويستفتي الإسلام في المواقع المتعددة، لا أن تكون الأحكام الفقهية محلا للعبث تقطع بحسب الأقيسة والأحجام والرقع المطلوبة.
والكتاب الذي نقدمه، محاولة أكاديمية لإبـراز وتأصيل دور المرأة وعطائها في الحياة الإسلامية، حيث كانت في تراثنا الثقافي من ورثـة النـبـوة راوية للنص الديني الملزم، لعل ذلك يصبح دليل عمل للمرأة المسلمة في كل عصر، حيث يعتبر هـذا العطاء من أعلى أنواع الأهلية وأرقـى مراتـب التكـريم والقيـمة الإنسـانيـة، فأحـكام الديـن بكـل مـا تصـوغـه من حياة النـاس تتلقى وتنـقل من المـرأة، كما تنـقل من الرجل.
ومما يعطي الكتاب تميزه، أنه في أصله رسالة للماجستير خضع للمناقشة والمعايير الأكاديمية.
وخلاصة القول: إن المرأة المسلمة -تاريخيا- لم تكن غائبة عن الحياة، وإنما شاركت الرجل في بناء المجتمع، ومارست دورها ضمن إطار القيم الإسلامية والرؤية الإسلامية الشاملة، ولم تكن سلعة رخيصة للاستهلاك، تنتهي إلى التحلل وإهدار الكرامة باسم التحرر.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 26 ]