التمهيد: عناية الإسلام بالمرأة تعليما
إن أول مشروع وضع للمجتمع الإسلامي الأول هـو التعليم، فقد عني به الإسلام عناية تتكافأ والرسالة العظمى المنتظر تحملها وأداؤهـا للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من باشر هـذه المهمة بين أصحابه، إذ هـو المبلغ عن ربه، ومن ثم كان أشرف بشر لأشرف مهمة. ولم تكـن عنايتـه صلى الله عليه وسلم بتعليـم المـرأة أنها جزء من المجتمع وحركته فحسب، ولكن بحكم تأثيرها القوي في أحداث مجتمعها.. وقد تعددت مظاهر التعليم النبوي للمرأة ورعايته لها، نجملها في العناصر التالية:
1- الإعداد النفسي
كـان النـداء الإلـهي الأول للناس:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1) ،
أول تكليف لهم.. والمرأة بخاصة تلقته وقد أوقد في ضميرها ووجدانها لهفة لنهل العلم والاستزادة من المعرفة بشئون دينها، وأحيا فيها لأول مرة الشعور بالمسئولية التعليمية، ولم
[ ص: 35 ] يكن قد بقي لهذا الشعور سوى أن يتحول إلى إقدام وتحصيل، فجاء المعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعم هـذه القابلية بتوجيهاته وهديه للمسلمة، ويطلق ملكاتها ويفك الحجر عن عقلها، ويفسح لها المجال لبث نتاج مؤهلاتها وقدراتها في الحياة، ومن ثم كان استقباله عليه الصلاة والسلام للمسلمات، وإجاباته على أسئلتهن، وتفقد أحوالهن، وحسن الاستماع لهن، وزيارتهن والمكوث عند بعضهن، والدعاء لهن ونصحهن، وتوجيههن لما فيه صلاحهن في الدنيا والآخرة.
فكانت أحواله صلى الله عليه وسلم هذه مع المسلمات، خطوات هـادفة ساهمت في زرع الثقة في نفوسهن، فكانت دفعا قويا لهن لتحصيل العلم الشرعي من منابعه الأصيلة بعد تشرب الإيمان بالله في صدورهن، وقد فاضت كتب التاريخ والسير والحديث بذكر أخباره صلى الله عليه وسلم مع عامة النساء، مما يوحي بفائق العناية تجاههن مع إرادة تأهيلهن للأمانة التي عجزت السماوات والأرض أن تحمـلنها، ولتحقيق هـذا الـهـدف كان لا بد من إزالة كم هـائل من رواسب الجاهلية، وإعادة تشكيل نفسية وعقلية جديدة لا تخضع إلا لموازين الشرع
>[1] .
[ ص: 36 ]
ولم يكن سهلا على المرأة المسلمة أن تباشر حياتها الإسلامية بمتطلباتها الشرعية الجديدة لولا مراعاته صلى الله عليه وسلم لأحوال النساء وتشجيعهن ومساندتهن في الإقبال على العلم والعمل، وتوفير جو الحصانة الأدبية وإشعارهن بالأهمية والفاعلية في حركة المجتمع، وعلى هـذا الخط سار عليه الصلاة والسلام مع النساء.
فكان من عادته صلى الله عليه وسلم زيارة بعض النساء الفاضلات يتفقد أحوالهن، وقد يقيل عند بعضهن، فتكون فرصة لتربية أخلاقية أو سلوكية، أو موعظة تحييها، أو دعاء تنال بركته، والمقام لا يتسع لسرد الروايات الواردة في هـذا الصدد، ولكن يلزم علينا ذكر بعض النماذج لتوضيح عنايته صلى الله عليه وسلم بالإعداد النفسي.
فهذه الصحابية
أم حرام بنت ملحان >[2] رضي الله عنها ، تروي لنا قصتها مع النبي صلى الله عليه وسلم حين زارها في بيتها وقال عندها، إذ سجل لنا التاريخ جلسة رائعة تبدي فيها
أم حرام رضي الله عنها رغبتها في أن ينالها ما ينال المجاهدين من الأجر والرفعة، فلم يذكرها
[ ص: 37 ] بأنوثتها وضعفها، ولم ينكر عليها تطلعها ومشاركتها الرجال في الخير، بل
( قال لها: أنت منهم ) >[3] ، فكانت كلمة طيبة فتحت لها آفاقا كبيرة، تحققت بها أمنيتها، فنالت الشهادة.
وممن كانت تلقى الرعاية النبوية الربيع بنت معوذ
>[4] ، فقد زارها النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسها صلة لرحمها، وذلك بعد غزوة بدر.. وأثناء زيارته لها كان يرشد النساء إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة.
كما كان عليه الصلاة والسلام يزور
أم ورقة >[5] ، ويسميها الشهيدة، وكانت قد أغرمت بالعبادة والصلاة، وشغفت بالقرآن شغفا فجمعته، فأذن لها في اتخاذ مؤذن وإمامة أهل بيتها في الصلاة
>[6] ، فكـان هـذا اعتـرافا منـه صلى الله عليه وسلم باجتهـادها، وتشجيعا لمزيـد مـن الحـرص والتزكية.
[ ص: 38 ]
وكان من ثمرة إعداده صلى الله عليه وسلم للنساء وتربيتهن أن برزت نماذج من النساء النوابغ، سطرن لجميع المسلمات عبر العصور سبيل الفلاح في الدين والدنيا والآخرة. فكانت المسلمة تسأل وتراجع وتستفسر وتجادل وتحرص على الاستكثار من التوضيح النبوي، وتسعى إلى فهم الحكم الشرعي لتكون واعية بالتزاماتها، فنالت بهذا العلم الوافر والفهم الثاقب ثم السلوك القويم بعد الإيمان الحق بالله تعالى. فهذه خطيبة النساء
أسماء بنت يزيد الأنصارية >[7] ، وما أدراك ما الأنصاريات (لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين )
>[8] ، فهذه الصحابية الجليلة التي انتخبتها النساء للتمثـيل لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفع (عريضة) باسمهن إليه، فأدت المهمة على أكمل وجه، وكانت خطيبة بليغة ألمت بالقضية المشتركة فأحسنت التمثيل والأداء، فأعجب عليه الصلاة والسلام بكلامها وأثنى عليها على ملأ من الصحابة، وأشهدهم على كفاءتها، وأجابها على مطلبها بأحسن جواب، رضيت به وطربت له.
[ ص: 39 ]
فهذه الجرأة والشجاعة التي حظيت بها المرأة المسلمة مكسب عظيم حازته، فأحسنت استخدامه فيما ينفعها، تزكية وفلاحا، وبلغت به مبلغا عظيما.
وكثيرا مثـلا ما تذكر قصـة المـرأة التي استدركت على عمر في المسجد في شأن المهور
>[9] ، للاستشهاد على تسليم
عمر رضي الله عنه للحق على ما عرف به من الحدة، لكن الذي ينبغي التنويه له في هـذه القصة هـو جرأة المرأة أمام عمر رضي الله عنه وثقتها النفسيـة، فموقـفها أعجـب من موقـف عمر رضي الله عنه . ثم لا نستغرب بعد ذلك إذا أقدمت المرأة على الدين والدنيا بعقلية ونفسية واعية ناضجة مسئولة، تتحسس مواطن الخير ليكون لها حظ منه، وتتبع مواطن الغموض بالاستفسار والسؤال لتنال الفقه والفهم، فكانت النساء في عهده صلى الله عليه وسلم يطالبن بيوم خاص يعظهن فيه
>[10] ، وهذا من تمام الحرص على العلم والشجاعة في طلبه.
والجيل العظيم الذي واكب العصر النبوي قد تشكل حقا بالتعاليم الربانية والتوجيهات النبوية، فسلم من السلبية والعجز والإحباط، فكان بحق الجيل النموذج واستحق الاتباع، وقد يعتقد أن
[ ص: 40 ] اتباعنا لهم رضي الله عنهم جميعا مقتصر على طريقة حياتهم وشكلها، لكن الأعظم من ذلك اكتساب إيمانهم وهممهم العالية وعمليتهم في الحياة، وأملهم وثقتهم الدائمين.
والمرأة المسلمة في أيامنا أكثر الناس حاجة إلى الدعم المعنوي والإعداد النفسي كي تسجل في قائمة العاملين، وتتخلص من عنصر السلبية والإهمال، وإذا لم تعرف مكنون نفسها من المؤهلات والملكات المودعة فيها، فلا أحد يقوم مقامها في ذلك، ولتستوحي ذلك من حياة من صاحبت خير الأنام رسول الله صلى الله عليه وسلم .