الانتقادات الموجهة للإعلان الغربي
شن الأخلاقيون ورجال الدين في الغرب حملات على الإعلان، ووجهوا له الكثير من الانتقادات القاسية، وعابوا على مؤسساته الإعلانية عدم مراعاتها للجوانب الأخلاقية في تصميمه وإخراجه.
>[1]
وقد وجه الباحث الأمريـكي الشهـير (فانـس باكـارد) VANCE PACHARD
[ ص: 51 ] الانتقادات الأولى للإعلان في بداية الخمسينيات، حيث يرى في الإعلان مجرد وسيلة تستغلها كل جهة معلنة أو منتجة للتأثيـر على سـلوك المستهلـكين، بحيث يقبلون عـلى شـراء أشياء لا يريدونها في حقيقة أمرهم. كما أنه يوجه سائر سلوكياتهم وتصرفاتهم الاستهلاكية بما يعود على الإدارة الإعلانية وعلى المشروعات الرأسمالية بالربح الوفير دون مراعاة مصلحة المستهلكين الاجتماعية والاقتصادية.
>[2]
ويضيف قائلا: (.. وما الحملات القوية التي يشنها الأخلاقيون والعمال المستهلكون وغيرهم ضد الإعلان إلا لأنه يكلف أموالا كثيرة. وهذا ما يجعل العمال ينادون دائما بضرورة رفع أجورهم بدلا من تبذيرها في الإعلانات، كما يرى المستهلكون أيضا أن هذه النفقات كان يمكن أن ينتفع بها في عمليات الإنتاج والتوزيع، مما يؤدي حتما إلى خفض سعر السلع والمنتجات ..) .
>[3]
والمتمـعن في مضـامين وأهداف الإعـلانـات، يجـدها تستثير في المقام الأول غريزة الطمع، وغريزة الرغبة الملحة في الحصول على الراحة والانتعاش، والطموح المتزايد لدى جمهور المستهلكين بتحقيق كافة الرغبات.
>[4] [ ص: 52 ]
كما أنه لا يمتنع عن إثارة رغبات الجمهور وتهييجها لشراء السلع المغرية والكمالية عن طريق إعطاء المستهلك كل التسهيلات دون أن يأخد بعين الاعتبار جانب إمكاناته المحدودة.
>[5]
ولهذا يرى كثير من الأخلاقيين وقادة الرأي في المجتمعات الغربية، أن الإعلان المنحل من القيم النبيلة والممتلئ بالصور العارية والفاضحة، والمناظر المنحرفة، والأصوات الصاخبة المثيرة، والحافل بالأغاني التافهة، وغيرها من أشكال التردي القيمي، وجه من وجوه الاستغلال البشع للإنسان، وتصرف حقير للعبث بالمشاعر والغرائز، وهبوط شنيع بمستويات الذكاء والكرامة الإنسانية.
>[6]
فيما عاب كثير من النقاد والدارسين الاجتماعيين -أثناء نقدهم للفلسفة الإعلانية وفنياتها التقنية الإخراجية- اهتمام الإعلان الشديد والملح بالصفات الأساسية للمميزات المادية للأمور المعلن عنها فقط، دون غيرها من الصفات والعوامل والظروف المحيطة بجمهور المستهلكين، وذلك باستغلاله لحوافز الطمع والطموح من جهة، وإثارة تطلعات المستهلكين في الوصول السهل لتحقيق رغباتهم الموجودة في السلع التي يعلن عنها من جهة ثانية، ولاستخدامه لكل الأساليب الفنية الإغرائية لاجتذاب القدر الكبير من عموم المستهلكين الحقيقيين والمحتملين في المجتمع من جهة ثالثة.. ثم لاستخداماته الساحرة
[ ص: 53 ] والمغرية لكل طرق الاستوداد والاستلطاف والاستهواء الخفي، ودغدغة الرغبات الخفية والكامنة، وتحريكه للعواطف العميقة، مخاطبا عالم العواطف والمشاعر والأحاسيس والرغبات والتطلعات في الفرد فقط، مبتكرا حيلا غير معقولة أصلا ومستبعدة -في نفس الوقت-من عالم الواقع، هابطا بمستوى الفرد العقلي والأخلاقي إلى مستوى القاصر الذي تعوزه سلامة التفكير وحكمة التدبير، مبعدا عامل الفكر والنظر من فنياته وتقنياته الإخراجية.
>[7]
فيما يحاول الإعلان -عبر نشاطاته الاتصالية الترويجية المختلفة- إحداث نوع من التأثيرات الفاعلة في مناطق حساسة من بؤرة التفكير والرغبات في دماغ الإنسان، مناسبة لتحريك عجلته الترويجية من جهة، ومتفاوتة التأثير والخطورة بين إنسان وآخر، بحيث يستسلم معها قطب العقل مباشرة دونما أية مقاومة، ويتوقف نشاطه عن التفكير، ويستعد لاستقبال كل ما سيرد عليه من إيحاءات النشاط الترويجي للإعلان الساحر، وقبول كل إغراءاته وخيالاته وتأثيرات بريق العلامة (الماركة) الفارقة، ثم يستسلم لرغباته التي ستتحقق في الإقبال على الإعلان.
وعليه، فإن الإعلان يؤثر تأثيرا مباشرا وفاعلا في عملية تخزين
[ ص: 54 ] المعلومات والحقائق والمعارف، كما يؤثر في عملية بناء الصور الكلية في الحياة عن غالبية الأحداث، مما يساهم في عملية التكيف مع المواقف والأحداث الكلية للفرد، كما يساهم في قتل المعرفة وتحويلها إلى شتات أفكار غير مترابطة، وغير متناسقة، ممزوجة بكثير من الأهواء والرغبات والغرائز.
>[8]
وقد بينت الدراسات الميدانية أن الإعلان كثيرا ما يستغل -في تقنياته الإخراجية- مفاهيم الرجولة والأنوثة والجمال والجاذبية للجنس الآخر، ورغبات السعادة الكامنة في الفرد، ويعطيها تفسيرا مبهما على ضوء التوسع في عالم الرغبة الواسع، والسياحة في عالم الإشباع الشهواني المادي، الذي لا يتأتى أكبر قدر منه إلا عبر إقبال الفرد على استهلاك ما في الإعلان.
>[9]
كما بينت نفس الدراسات أن الإعلان -بتقنياته وفنياته الإخراجية الجذابة- يدفع الجمهور إلى التسرع في إصدار أحكامهم، واتخاذ قراراتهم بعجالة بعيدا عن التفكير والتعقل والنظر، وذلك عن طريق التداعي والتقمص والاستوداد والاستلطاف والطموح والتطلع، وغيرها من طرق الاستهواء النفسية، بدلا من إعمال الفكر والنظر، حيث يستغل المشاعر ويعبث بالعواطف، ويتلاعب بالأحاسيس والأمنيات السامية، وكل أشكال العواطف الإنسانية النبيلة، والمواقف المؤثرة والحساسة، يصوغ ذلك ويشكله عبر تقنيات خداع متعددة،
[ ص: 55 ] وفنيات إقناع وهمية وكثيفة.
>[10]
ولذلك يعتبر الاجتماعيون والأخلاقيون والنفسيون الإعلان نوعا من أنواع الخداع العاطفي، ونمطا من أنماط الاستغلال البشع لقيم الإنسانية الفاضلة، ووجها من وجوه التحضيض من قدر الكرامة البشرية للإنسان. وهو فوق ذلك تهديد للذاتية الثقافية والأخلاقية والدينية للأفراد والمجتمعات.
>[11]
كما أضافت تلك الدراسات الميدانية، أن الإعلان يحمل جمهور المستهلكين تكاليف مادية زائدة عن إمكاناتهم الحقيقية، ويخدر عقولهم، ويلغي ذاتيتهم، ويتهدد قراراتهم الواعية، ويجعلهم مجرد جمهور غبي مستهلك. وذلك بما يهيمن به عليهم من إيحاءات الإغراء، وبريق التشويق، وبما يورده عليهم من أنماط وسمات ثقافية متأنقة الأشكال، وبما يقدمه لهم من عادات وسلوكات اجتماعية جديدة، وبما يطرحه عليهم من صيغ تفاعل وتفاهم مبهمة، وغير مؤصلة قيميا. فيغدون بتأثيراته الإخراجية نمطا بشريا هجينا يختزل أمشاجا من القيم والمعارف والمشاعر والتطلعات غير المتجانسة.
>[12]
وقد صور أحد الدارسين الإعلانيين الإعلان بقوله: (.. فكثيرة هي صور الإعلان التي تحمل لك سحر الطبيعة الأخاذة، وترسم بريشتها العطرة لوحات خالدة، تدخل إلى قلبك داخل غرفتك
[ ص: 56 ] الصغيرة، وقد تحملك على أجنحة الخيال إلى ذكريات الطفولة التي قضيتها في أحضان الطبيعة مما يبعث في دفائن النفس الإنسانية ذكريات وأحلاما جميلة ينشأ معها الحنين إلى الماضي، وينمو الحب بالتالي بينك وبين الصورة -المؤثر- التي يرسمها الإعلان.. هكذا تسقط السلع من صور الإعلان، ويبقى ذلك العالم، عالم ألف ليلة وليلة..) .
>[13]