الخاصية الرابعة: النـزعـة الجمـاليـة
ما هي النزعة الجمالية؟
يولي
ابن نبي عناية خاصة للذوق الجمالي، وما يؤديه في صياغة الثقافة، وتحديد ذاتيتها، كما يبين أهمية النزعة الجمالية في تحديد اتجاه الحضارة في التاريخ. ويركز في دراسته للحضارة
[ ص: 160 ] على أن النزعة الجمالية والذوق الجمالي ينعكسان على سلوك الفرد والمجتمع، ويظهر هذا في الأفكار، والأعمال، وكل المسـاعـي، أي أن عنصر الجمال مهم لتكـوين الـذوق العام. كما يرى أن الجمال في صورته النفسية هو (الإحسان )
>[1]
ومن وجهة لغة الاجتماع، يرى
ابن نبي : (أن الأفكار -بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها- إنما تتولد من الصور المحسة، الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسـان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة )
>[2]
فابن نبي ينظر إلى الجمال من الوجهة النفسية والاجتماعية، أي إلى ذلك الجانب النفـسـي المسـتوحى من منـظر أو شـكل أو رائحة أو صوت أو لون. هذه الحركات أو الأشكال إما تؤدي إلى إحساس بالقيمة الجمالية، أو إلى سماجة في السلوك إذا كان ما توحي به مستقبحا. وهذا يؤدي بالإنسان إلى سلوك عملي يتوخى فيه
[ ص: 161 ] الإحسان والدقة والإتقان، كما يتوخى كل سلوك محبب إلى النفس وكريم في العـادات. فالجمـال عنـد ابن نبي بما يوحيه في المجتمع من ثراء في الذوق، وما يمثله من نبع، تصدر منه الأفكار وتصدر عنه بواسطة هذه الأفكار أعمال الفرد في المجتمع
>[3]
بعبارة أخرى، أن الجمال يشكل فصلا مهما من فصول الثقافة، التي تشكل المحيط الاجتماعي، وتكون شبكة العلاقات الاجتماعية
>[4] ، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة.. والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال
>[5] والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أوليا عناية كبيرة للبعد الجمالي في شخصية الفرد والمجتمع والأمة، ويظهر ذلك جليا من خلال التأكيد على جانب الطهارة في النفس والجسم والمحيط، حتى اعتبر الإسلام إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وصدقة يؤجر عليها فاعله
>[6]
غير أن ابن نبي لا يهتم بإعطاء تعريف دقيق للجمال من وجهة لغوية، بقدر ما يهتم بهذه النزعة من وجهة دخولها في
[ ص: 162 ] تركيب الثقافة، وتأثيرها على الإطار الاجتماعي. ومن هنا يمكن القول: إن تركيز ابن نبي كان على التحديد الاجتماعي والحضاري للقيمة الجمالية، أكثر من عنايته بالمصطلح ذاته من ناحية النشوء اللغوي، رغم أنه يشير إلى بداياته مع حركة النهضة الأوروبية، ومع بداية الاتجاه الكلاسيكي والرومانسي في الأدب والفن في إيطاليا. ويشير إلى ما لاحظه (تولستوي ) في كتابه (ما هو الفن ) حيث يرى أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة. وأنها استولت نهائيا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر عند ظهور دراسات (وينجهمان ) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال
>[7]
وكما يشير ابن نبي، فإن الجمال ينتشر في المجال الطبيعي في صورة أصوات وألوان وحركات وأضواء وظلال، وفي المجال الاجتماعي تنتظم ألوان الحياة وصورها في قوالب وأشكال وأنماط متعددة، وكل هذه وتلك في المجالين معا يتمثلهما الإنسان في ذاتيته شعوريا ولا شعوريا فتؤثر عليه وعلى سلوكه وتدخل في تشكيل ذوقه ودوافعه سلبا وإيجابا. فالانفعال الجمالي بالأشياء يمنح
[ ص: 163 ] حركة العمل دافعا وإبداعا ويحدث التغيرات العديدة في السلوك والحياة
>[8] أي أن الجانب التربوي هو المهم في الجمال، وهو الذي يوليه ابن نبي عناية كبيرة، وهذا اتساقا مع نظريته في فصول الثقافة التي يعد الذوق الجمالي أحد أبعادها الأربعة.
والذوق الجمالي كقيمة حضارية، له تأثير عام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا مثلا في الملابس والعادات وأساليب الضحك، وكطريقة تنظيم بيوتنا، وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا. كما يرى ابن نبي أنـنا في العـالم الإسـلامي اليـوم لا نمـلك هذه القيمة، ولو كانت عندنا لوظفناها في حل مشكلاتنا باعتبارها أحد فصول الثقافة مثلها مثل المبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، وجانب الفن الصناعي، فيقول: (ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودا في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبا من حياة الإنسان)
>[9] الجمال واتجاه الحضارة
في تحديده لدستور الثقافة، في فصولها الأربعة: المبدأ
[ ص: 164 ] الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والفن الصناعي، يرى ابن نبي أن هناك علاقة خاصة بين الفصلين الأولين; المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. كما يلاحظ أن هناك علاقة صلة خاصة بينهما، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. حيث إن هذه العلاقة تحدد طابع الثقافة كله، كما أنها ترسم اتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه
>[10]
فالنموذج الاجتماعي إما أن يقوم على الدوافع الأخلاقية وإما أن يقوم على الدوافع الجمالية، ومن هنا نكون أمام نموذجين مـن المجتـمـع; تبـعا للـدوافـع التي تحـرك نشاطـاته.. وحسـب
ابن نبي ، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافا شكليا، أو مظهريا، بل هو اختلاف عميق يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبرى. إذ كل من المجتمـعين يتطـور تاريخيـا في اتجـاه يختـلف تمـاما عن اتجـاه الآخـر، بل قد يتـناقـضا في كثير من المـواضع، إذ إن ما يمتنع مجتمع عن فعله بدافع خلقي، يعمل الآخر على تحقيقه بدافع جمالي.
إضافة إلى أن السلوك والأذواق والمناظر، واللباس، وكل النسيج الاجتماعي، والعمراني، يخضع في تشكيله إلى العلاقة بين المبدأ
[ ص: 165 ] الأخلاقي والذوق الجمالي. فالمجتمع الغربي مثلا اشتهر بفن التصوير، وتصـوير المرأة العارية على الخصوص بسبب الدافع الجمالي، بيـنما المجـتمع الإسلامي -كما يـرى ابن نبي- لا نجد فيه أن للفن الإسلامي آثارا في التصوير، مثل ذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية، وفي آثارها المتبقية مع الزمن. وما ذلك إلا لأن المبـدأ الأخـلاقي في المجتـمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل أنواع الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية
>[11]
فالمعيار الذي تقيس به الحضارة الغربيـة هو معيار الجمال، أما معيار الحكم على الأشياء في الحضارة الإسلامية فهو معيار القيمة الأخلاقية. وهذا في نظر ابن نبي (رحمه الله) ليس معناه افتقاد الحضارة الإسلامية عنصر الجمال، وإنما موضعه يأتي متأخرا عن القيمة الأخلاقية في سلم ترتيب القيم
>[12]
فالمسـألـة في وضـعيـة إحـدى هاتـين القيـمتين: الأخـلاق، أو الجمال، باعتبار إحدى القيمتين محورا، والأخرى تابعة.. وهذه المحورية ترجع إلى أصول كل ثقافة وما تركبت منه في بداياتها، وإلى جذورها الأولى، فإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج خط النبوة
[ ص: 166 ] وتعاليم الوحي، مما جعل (الحقيقة ) محورها، فإن الحضارة الغربية تعود في أصول ثقافتها إلى ذوق الجمال الموروث من التراث اليوناني الروماني; الذي كان شغوفا بالتماثيل والرسوم، مما جعـل الثقافة الأوروبيـة تـركب في مضمونها مزيجا من الأشياء والأشكال، أي من التقنية والجمالية
>[13]
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية، قد وضعا دستور الجمال المؤسس على المبدأ الأخلاقي، فذلك يبين موقع الجمال في المنظور الإسلامي، الذي يعد قيمة غير قابلة للانفصال عن القيم الأخلاقية.. ولهذا فإن مسألة اللباس فيما يخص المرأة، منضبط بقيم الحياء والستر، وغض البصر، وعدم التبرج، وإخفاء المفاتن. أما الجمال في المنظور الغربي، وباعتبار أن الحضارة الغربية تتمحور حول الـذوق الجمالي، فإن هذا أنـتج موجات الموضة والأزياء التي لا تراعي قيم الحشمة والستر والحياء، وتعتبرها لا قيمة لها قياسا إلى المنظر الجمالي. وليس هذا في مجال الأدب والـزي فقط، بل إن العـلاقة: (مبدأ أخلاقي-ذوق جمالي ) ، تدل دلالة واضحة على عبقرية أي مجتمع، وتحدد اتجاهه في التاريخ.
[ ص: 167 ] نتائج النزعة الجمالية
وما يمكن ملاحظته أن ابن نبي يعتبر أن هذا الاختيار، الذي انتهت إليه الحضارة الغربية، أي تقديمها للذوق الجمالي على المبدأ الأخلاقي في سلم ترتيب القيم، أحدث في الثقافة الغربية انفصالا عن الثقافة الإنسانية، كما أحدث خللا منهجيا أدى إلى قلب القيم، وإلى نتائج خطيرة على مصير الحضارة الغربية نفسها، وعلى الإنسانية عموما. فأدت النزعة الجمالية إلى الاستعمار، والإباحية والعبثية، وتفكيك الروابط التي تحفـظ المجتمع من الانحـلال، وإلى تمـركز الإنسـان. ويضرب ابن نبي مثلا بظاهرة الاستعمار باعتباره (ظاهر ثقافية ) تعبر عن نمط ثقافة معينة قائمة على السيطرة، فالعقل الأوروبي المحكوم بإطار ثقافي قدم الجمال على المبدأ الأخلاقي في ترتيب القيم، فإن هذا الترتيب أثر في علاقة الغربي بالإنسانية
>[14]
ويضيف
ابن نبي (رحمه الله) أننا لو تتبعنا الاعتبارات هذه، إلى أبعد مدى، لرأينا كيف أن الثقافة التي تمنح الأولوية لذوق الجمال، تغذي حضارة تنتهي إلى فضيحة حمراء، وذلك لأنها تسيطر عليها دوافع الأنوثة
>[15] [ ص: 168 ]