ثالثـا: الموضوعيـة
في الحقيقة، يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن الموضوعية بمفهوم متفق عليه بين الجميع، غير أن هذا لا يحول دون محاولة إعطاء محددات ولو إجرائية تمكن من النظر إلى مدى موضوعية
ابن نبي في دراسته للظاهرة الحضارية الغربية، ولذا فإن الموضوعية في استعمال هذ البحث تمتد إلى النظر إلى ما قدمه ابن نبي (رحمه الله) -فيما يتصل بدراسة الحضارة- في ثلاثة مستويات; من حيث الرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة في دراسة ونقد الحضارة الغربية، ومن حيث النظر إلى الحقيقة التاريخية وتسجيل أثر الفكرة في التاريخ وتوجيهها للواقع التاريخي، ومن حيث نقد الأفكار في نسقها الداخلي، ثم من حيث المنهج المعتمد في تحليل الظاهرة وتركيبها، لمعرفة عناصرها الأساسية وكيفية تكونها وأدائها لدورها كوحدة مركبة.
ولقد تبين من خلال البحث أن ابن نبي قد رجع إلى كثير من المراجع الأساسية المعتمدة عند الباحثين الغربيين أنفسهم، وإن لم يقم بتتبع كلي لكل من كتب عن الحضارة الغربية من الغربيين، إلا أننا نجد أعمدة الدراسات الحضارية، ورواد الحضارة
[ ص: 186 ] الغربيـة حاضـرة ضمن تحليـلاته، وهو كثـيرا ما يحيلنا إليهم، أو يوظف مصطلحاتهم إذا تعلق الأمر بالحاجة إلى حضورهم كحجج علمية من داخـل النسـق الغربي معرفيـا وحضاريا. كما أنه مارس دور الشاهد والمراقب من الداخل، من خلال الإقامة الطويلة في أوروبا، وانخراطه في كثير من النشاطات العلمية والاجتماعية، ومتابعته لتطور الأفكار وتأثيرها في توجيه التاريخ الغربي.
وملاحظة ابن نبي (رحمه الله) عن دور المسيحية في قيام الحضارة الغربية في غاية الأهمية، إذ يرى أن المسيحية مرت بتحولات جذرية منها تشكلت الفكرة التي صاغت نظرة الغربي للعالم ومنحته الدفعة الأولى.
لقد كانت المسيحية تمثل الدافع الروحي والمبدأ الأخلاقي الذي كان الغربي يتحرك وفقه وهو يبسط هيمنته على العالم، باسم الذهب حينا وباسم المسيح أحيانا أخرى، يقول
ابن نبي : (لقد أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع
[ ص: 187 ] الاستعمارية)
>[1] كما أن
ابن نبي عندما أتى إلى دراسة تأثير المسيحية في نشأة الحضارة الغربية رجع إلى كل من (
كيسرلنج ) ، و (
جيزو ) ، و (
توينبي ) ، و (
توسيديد ) ، وغيرهم ممن أرخوا لنشأة الحضارة الغربية .
أما المادية فإنه أعطاها موقع النظرة الكلية والإطار التصوري الذي يحكم الحضارة الغربية، كما أن لها أبعادها الاجتماعية والنفسية، من خلال الطابع الاستهلاكي للحياة الغربية، والتوجه نحو تنميط الحياة على أساس الاقتصاد والدخل الفردي، والتمركز حول القوة باعتبارها نفسية ذات جذر مادي. هذه المادية لها صلتها بالعالمية الغربية التي تحاول إصباغ نموذجها على العالم، كما لها صلتها بالعقلانية الغربية التي تعتبر في جوهرها تمحور حول المادة ونفي عملي للغيب.. والمادية متصلة بنموذج الفعالية الغربية التي تنحو في أغلبها إلى الجانب الكمي، وتتجه نحو منطق الحسم بأية وسيلة، مما ينزع عنها الجانب الأخلاقي الملتزم بالقيم إلى حساب تحقيق أكبر كمية من النفع والتنظيم وإشباع الحاجة، التي هي في غالبها اقتصادية.
[ ص: 188 ]
وفي الحقيقة، كما رأى
ابن نبي من قبل، فإن (
اغروس وستانسيو ) يؤكدان أن (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقا لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها )
>[2] فإذا كانت الرؤية الكونية للحضارة الإسلامية تقوم على أساس التوحيد، وتجمع بين عالمي الغيب والشهادة، وتتكامل فيها المادة وما وراء المادة، فإن (الحضارة الغربية ما برحت، منذ عصر النهضة، تخضع لسلطان العلم التجريبي.
بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحديا من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين... النظرة القديمة والنظرة الجديدة )
>[3] هذا الذي يسميه ابن نبي الصراع الحادث بين علم أوروبا وضميرها، ذلك أن التقدم التكنولوجي والاطراد
[ ص: 189 ] التاريخي يقود الحضارة الغربية إلى التقدم والتقرب نحو الإنسانية في مصيرها المشترك، وتطلعاتها نحو الوحدة، غير أن ضميرها المتخلف، وريث عصر الفتوحات الجغرافية والاستعمار، يكبح أوروبا والغرب عموما من أن تتوحد في نظرتها مع الإنسانية، وذلك بفعل النظرة القديمة هذه، أي النظرة المادية التي أسست الغرب الحديث، وما زالت تهيمن على مناهج العلم، وتوجهات الفلسفة، ويوميات الحياة الغربية.
هذه النظـرة المادية، وثيقة الصلة بالخصائص الأخرى التي رأيناها في الحضارة الغربية، فالعقلانية الديكارتية، وإن لم يكن (
ديكارت ) ماديا بالمعنى الإلحادي، فإن فلسفته العقلانية كانت الأساس لكل التوجهات الفلسفية الحديثة في الحضارة الغربية من خلال تركيزه على المنهج، والفلسفة النقدية، وتأكيده على دور العقل على حساب الجسم، كما يقول (
برتراند راسل ) : (هناك مسألة رئيسية أخرى كانت تشغل مفكري ما بعد عصر النهضة، هي أهمية المنهج، وهي مسألة لاحظناها من قبل في حالة (بيكن) و (هوبز) . ولقد امتزج هذان العاملان عند (رينيه ديكارت) ليؤلفا مذهبا فلسفيا جديدا... ومن هنا كان
[ ص: 190 ] يعد، عن حق، مؤسس الفلسفة الحديثة )
>[4]
وكما أشار
ابن نبي فإن التحديد الإيجابي الذي قام به (ديكارت ) والمدرسة العقلانية في الثقافة الغربية يكمن في أن (
ديكارت ) اهتدى إلى أربع قواعد، هي منهجه في التفكير كما يرى (
راسل ) ; (الأولى هي ألا نقبل أي شيء إلا الأفكار الواضحة والمتميزة. والثانية هي أن نقسم كل مشكلة إلى أي عدد من الأجزاء يلزم لحلها. والثالثة هي أن نسير في تفكيرنا من البسيط إلى المركب... أما القاعدة الرابعة فتدعونا إلى أن نقوم دائما بمراجعات دقيقة كيما نتأكد من أننا لم نغفل شيئا.. هذا هو المنهج الذي استخدمه ديكارت )
>[5]
وعلى الرغم من أن (ديكارت ) قام بهذا التحديد الإيجابي، الذي أخرج العقل الغربي من أوهام الخرافة والتفسير الخرافي، وهيمنة التفسير الكنسي للعالم والتاريخ والوجود، فإنه اعتمد مبدأ كان مآله العلمانية التي تعيشها الحضارة الغربية، إذ إن
[ ص: 191 ] (
ديكارت ) ، كما يقول (
برنال ) : (صاغ بدقة أكثر ممن سبقوه تقسيم الكون كما نراه إلى جزء مادي وآخر معنوي... وبالنسبة لديكارت أصبح هذا التقسيم منطقيا وجزءا أساسيا في الفلسفة ونتيجة بدهية للتقليل من الخبرات الحسية والاتجاه أولا نحو الميكانيكا ثم إلى الهندسة. ويرى أن الانتشار والحركة هما الحقيقتان الماديتان التي يعتبرهما الخواص الأساسية، أما المظاهر الأخرى كاللون والطعم والرائحة فيعتبرها خواص ثانوية.. وبجانب هذا تمتد منطقة ثالثة ربما لا يصل إليها علم الفيزياء، وهي الانفعالات والعواطف كعاطفة الحب والإرادة والإيمان... وليس للعلم صلة بالمجموعة الثالثة حيث إنها تقع في محيط الرؤية والإلهام)
>[6]
وهذا الذي أحدث الصراع بين العلم (بمفهومه الغربي ) والضمير الذي يرتكز على الإيمان ويتعلق بالغيب.. وبما أن الإيمان -وفقا لهذا المفهوم الغربي- لا صلة له بالعلم ولا يمكن إجراء التجربة عليه، فإنه من قبيل الشئون الذاتية التي لا يقام
[ ص: 192 ] عليها البرهان، ولا تتدخل في الحياة العامة ولا في توجيه التاريخ، لبعدها عن العلم، فالعلم وحده المؤهل لقيادة العالم. وهكذا كما يقول (راسل ) أيضا: (فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الأفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرق إليها شك، وقد كان تأثيره على الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي أم في اتجاهها التجريبي )
>[7]
وكما أنتجت الحضارة الغربية فصام العلم والضمير، فإنها أنتجت الخواء الروحي بفعل تضافر المادية والعقلانية المبعدة للغيب عن التاريخ، يقول (
اشفيتس ر ) : (والحقيقة الرهيبة -وهي أن تنمية الحضارة الحقيقية قد أصبح أشدا عسرا من جراء تقدم التاريخ وتطوير الاقتصاد في العالم -هذه الحقيقة لم تجد من يعلنها )
>[8] .. كما يؤكد أمر المآل الرهيب الذي آلت إليه الحضارة الغربية بفعل تمركز المادة، وما أنتجته من آثار فيقول: (والخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدا من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها... فإننا نغالي في
[ ص: 193 ] تقدير إنجازاتها المادية، ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره... إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكـب ذلك نمو متكـافئ في ميـدان الروح هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها )
>[9]
وهذا ما لاحظه ابن نبي عند تسجيله لنتائج الإفراط في الكمية والاعتماد على لغة الأرقام في تقدير السعادة الإنسانية، مما أدى إلى إلغاء كثير من القيم لأنها لا تدخل ربحا ماديا، وهذا نتج عنه إتلاف الكرامة الإنسانية والمفهوم التسخيـري للكون، أو بتعبير ابن نبي: أن الحضارة الغربية أتلفت قداسة الوجود. وهذه العقلانية ذات الجوهر المادي أنتجت صراع الأخلاق والسياسة، كما تبين ذلك في الإنتاج العلمي الذي خلفه (ميكيافلي ) الذي يشارك العقلانيين رأيهم في الرفض التام لأي خارق للطبيعة، وينكر معهم تدخل الله ( سبحانه وتعالى ) في شؤون الحياة اليومية للبشر، من خلال فصله التام بين الأخلاق وممارسة السياسة، ورفضه لوجود قيمة عليا أو مصدر أعلى
[ ص: 194 ] خارج الإرادة البشرية، ويتدخل في السياسة والحكم
>[10]
وحتى خاصية الفعالية، التي تعتبر من أهم الميزات الإيجابية للحضارة الغربية حسب ابن نبي، فإنها وارتباطا مع نمط الثقافة الغربية القائم على تصور مادي للحياة، لا تنفك في صلتها مع الخصائص الأخرى من أن تصير كابحا للتوجهات الروحية، ومجمدا لنوازع تطلعات الروح، بفعل الإفراط في التنظيم، والخضوع للمؤسسات بشكل يقضي على إنسانية الإنسان، ويجعل منه رقما يضاف إلى بقية الأرقام الأخرى من الآلات والوسائل، وهذا الذي نبه إليه (
اشفيتسر )
>[11]
أما حديث
ابن نبي عن العالمية الغربية باعتبارها قرينة للعامل الصناعي، فإن ذلك يفهم منه أن الصناعة والتطور التكنولوجي هي أكبر جوانب التقدم الغربي، والعنصر الأكثر عالمية في الحضارة الغربية، التي في حقيقة أمرها، كما يذكر (
هانتجتون )
>[12] ، أنها غير عالمية بالمعنى الذي يحمله مفهوم
[ ص: 195 ] العالمية بشكل مجرد. ولهذا فإن ابن نبي ينظر إلى هذه العالمية كنتيجة للاطراد التاريخي لحركة الحضارة الإنسانية، التي تقودها الحضارة الغربية منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وهي من جهة أخرى مصبوغة بنظرة الغرب للعالم باعتباره دار نفوذ، ومسرح السيطرة الأوروبية التي غذاها الاستعمار والعنصرية، ونشأت نفسيتها في ظل الاكتشافات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، ووجدت تأسيسا لها في جهود حركة النهضة الأوروبية، وروادها الأوائل (
ميكافلي ) و (
ديكارت ) وغيرهما، ثم (
هيجل ) والفلاسفة الألمان، ثم
ماركس >[13] ، كلهم كانوا من -جهة أو أخرى- يشرعون لسيادة أوروبا على العالم
>[14] ومن منطلق التفوق الأوروبي.
فهي عالمية، تهدف إلى تأكيد المركز الأوروبي الغربي للعالم، وطرفية الآخرين، وبخاصة أن أوروبا التي ركبت في
[ ص: 196 ] ثقافتها مزيجا من المـادية والفعـالية -كما يقـول
ابن نبي - تحسـب موقـع العـالم بما يؤثـر بـه في حـركة التـاريخ. ولـهذا لـمـا كتب (
فرانسيس فوكوياما ) كتابه (نهاية التاريخ ) اعتبر دول محور طنجة-جاكرتا عالما هامشيا، وليس له موقع مركزي في مستقبل الإنسانية، وعلل ذلك بأن الذي يحكم تصنيفه هو مقدار تأثير كل أمة في توجيه التاريخ المعاصر
>[15]
وفي الحقيقة، إن عصرنا هذا يشهد فعل عوامل عديدة ذات إمكانات عظيمة لتحقيق وحدة الإنسانية والحضارة، ومن هذه العوامل، عاملان اثنان:
أولهما: تقدم العلم المتسارع، نظرا وتطبيقا، واتساع مدى تطبيقاته في العالم أجمع. هذا العلم قرب المسافات والأبعاد، وأنشأ روابط مادية وفكرية توصل بين الأمم والشعوب. ومن هذه الجهة يمكن الحديث عن عالمية الحضارة الغربية، في وجهها السطحي التقني، وانتشار منتجاتها وسلعها، ووسائلها وآثارها في أساليب العيش وطرق التنظيم، وأذواق الناس في الملبس والمأكل والمشرب، وطريقة العيش، وهذا هو العامل الموحد.
[ ص: 197 ] وثانيهما: انتشار الوعي بين الشعوب، وتجاوز وعيها للحدود التقليدية، بفعل العامل الصناعي.. ورغم ما يحمله الضمير الأوروبي من مركزية وتخلف يميل إلى القهر والتحكم والاستغلال
>[16] ، فإن الاطراد التاريخي للنمو التكنولوجي وتوسع طرق توظيف التكنولوجيا، وانتشار مراكزها في العالم، كل هذا سرع من نضج الإنسانية ووعيها لكثير من سبل التقارب وارتباط المصير طوعا أو كرها.
وخلاصة الكلام فيما يتعلق بجانب الموضوعية، أن ابن نبي كان يحلل ويتتبع هذه الخصائص في اتصالها ببعضها، وفي مآلاتها في الواقع، وفي أثرها في اتجاه الحضارة الغربية، كما أنه يتفق مع أكثر مؤرخي الأفكار ودارسي الحضارة الغربية من الغربيين أنفسهم، وهو في دراسته هذه مرتبط بإطاره التحليلي في معالجة الظاهرة ومدى تأثيرها في شبكة العلاقات الاجتماعية الغربية، التي هي ميدان الكشف عن مدى تأثير فكرة ما في سير المجتمع وتطوره.
[ ص: 198 ]