المبحث الثاني: العناصر الأساس لفقه الواقع
قلنا إن فقه الواقع هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها. وهو مرهون إلى حد بعيد بالوقوف على اكتشاف ما أطلق عليه
الأستاذ عمر عبيد حسنة «قوانين الاجتماع والعمران» والإحاطة بالشروط والعوامل الفكرية المؤثرة فيها
>[1]
من هنا رأينا أن يشمل فقه الواقع:
- إدراك التأثيرات البيئية الطبيعية، باعتبارها محددا أساسيا وموجها رئيسا لحياة الناس.
- فقه الحركة الاجتماعية،على اختلاف أنواعها، باعتبارها الروابط التي تربط بين الناس.
[ ص: 45 ]
- سبر أغوار النفس البشرية، باعتبار الإنسان المحور والأساس في هذا الوجود.
1- إدراك التأثيرات البيئية الطبيعية
ونقصد بالبيئة الطبيعية كل ما يتعلق بالمنطقة التي يعيش فيها الإنسان، من تكوين، وموقع جغرافي، وتضاريس، وما يحيط بها من ظروف طبيعية ومناخية
>[2]
وقيدنا هذه التسمية بالطبيعية أو الجغرافية تمييزا لها عن البيئة الاجتماعية أوالسياسية...
وأما البيئة -على الإطلاق- فهي تمثل كل العوامل الخارجية التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر على الفرد
>[3]
وعلى مناشط الحياة، بل وتوجه هذه الحياة وفق خصائصها وميزاتها.
[ ص: 46 ]
وكانت رسالة
أبقراط (064 ق.م) أول رسالة في علم المناخ تصف طبيعة الأرض والمناخ.
ومن بعد أبقراط، كتب في نفس الموضوع كل من
أرسطو وبطليموس وجالينوس >[4] ، وجاء
ابن خلدون وكتب في مقدمته الشهيرة عن أثر الهواء في ألوان البشر وأحوالهم وأخلاقهم...
وبـعـد ابـن خـلـدون جـاء
مـونتـيـسـكـيـو ، فكـتب فـي ذلك De L`esprit des lois، إلا أنه لم يأت بجديد سوى أنه كرر -مع غيره- ما جاء به ابن خلدون.
ويرى ابن خلدون، ومونتيسكيو وغيرهما من علماء الاجتماع، أن البيئة الطبيعية أو الجغرافية هي التي تكسب الجماعات البشرية خصائصها ومقوماتها الذاتية، إلا أن هناك فريقا من العلماء يرى أن هذا التقدير مبالغ فيه
>[5]
غير أنه لا أحد من الفريقين ينكر تأثيرات البيئة الطبيعية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية وكذلك السياسية.. وهذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي:
[ ص: 47 ] أ- التأثيرات البيئية في الحياة الاجتماعية
تخضع الحياة الاجتماعية إلى حد كبير لتأثيرات البيئة الطبيعيـة، إذ هي التي تحـدد ملامـحها وتوجـه سيـرها وسير الناس عامة.
ففي المناطق المعتدلة مثلا، نجد الناس -كما يرى بعض الباحثين- أعدل الأجسام واللون والديانة... وأقدر على التعقل والتحلم والرزانة وكبت الانفعالات وضبط النفس... كما أن أصحاب المناطق المعتدلة أوفر إدراكا وقويو التفكير والتحليل والملاحظة.
أما في المناطق الحارة فإننا نجد الناس ذوي بنية نحيفة، وجسم صحيح، أقوياء الحس والإرادة، وذلك لنمط عيشهم القاسي... كما يغلب عليهم الخمول والكسل، وعلى خلقهم الطيش وكثرة الطرب، حتى إنهم ليوصفون بالحمق واللامبالاة... ويفضلون الزواج المبكر، ونسبة الخصوبة لديهم عالية.
وأما أهل المناطق الباردة فيمتازون بالصبر، والقدرة على مواجهة الظروف القاسية التي تفرضها عليهم منطقتهم
[ ص: 48 ] بخصائصها... طبعهم بارد وعاطفتهم راكدة.. ونظرا لانخفاض درجة الحرارة، فإن هؤلاء يلجئون إلى ممارسة رياضات شاقة لتنشيط الدورة الدموية... وإذا كان أهل المناطق الحارة يفضلون الزواج المبكر، فإن أهل المناطق الباردة يفضلون تأخيره، ونسبة الخصوبة لديهم منخفضة.
وأهل مصر -يقول
ابن خلدون - غلب عليهم الفرح والخفة والغفـلة عن العواقب، حتى إنـهم لا يدخرون أقـوات سنـتـهم ولا شهرهم، وعامة مآكلهم من أسواقهم. ولما كانت
فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة، ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن، وكيف أفرطوا في نظر العواقب، حتى إن الرجل ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره
>[6]
وأهل المناطق الساحلية أو المجاورة لدول أخرى تقاليدهم وعاداتهم مختلفة عن تقاليد وعادات أهل الداخل أقرب إلى الدول المجاورة. ولعل هذا ملموس جدا عندما نقارن بين شمال المغرب وداخله أو جنوبه.
[ ص: 49 ] ب- التأثيرات البيئية الطبيعية في الحياة الاقتصادية
إذا كان للبيئة الطبيعية تأثيراتها في الحياة الاجتماعية، فإن تأثيراتها في الحياة الاقتصادية أشد وأقوى، إذ تختلف هذه الأخيرة تبعا للمواد الأولية وللجو وللموقع.
فحيث تكثر المناجم تكثر الصناعات، وحيث تقل المناجم يندر وجود الصناعة.
وقرب الأنهار والأودية تكثر الزراعة وتنشط، بينما ينتشر الرعي في المروج.
أما في الجبال فالموارد الاقتصادية قليلة لعدم صلاحية الجبال للإنبات من جهة، ولوعورتها من جهة أخرى، فيعم الفقر.
وأما في المناطق الساحلية فتتحرك التجارة وتنشط الصناعة، ويكثر نقل البضائع.
وفي المناطق الحارة تكثر صناعة الدخان، وأقواتهم من الذرة والعشب، بينما يرتكز اقتصاد المناطق الباردة على غزل الصوف والنسيج لمقتضيات منطقتهم ومتطلباتها.
جـ- التأثيرات البيئية الطبيعية في الحياة السياسية يحدثنا التاريخ كيف أن الجبال والصحاري كانت دائما عائقا
[ ص: 50 ] أمام المطامع الاستعمارية والنـوايا الاستغـلالية، وهذا ما يجعل أهل هذه الأماكن في أمان، عكس أهل السهول والأودية التي تغري بالتـوسـع والاستعمار، مما يجعلهم تحت تأثير القوى الأجنبية الغاشمة.
وليس هذا فقط، بل حتى المناطق التي تمتاز بالخيرات الطبيعية فهي دائما محط أطماع القوى الكبرى.
وقد سبقت الإشارة إلى أن الكسل والخمول صفة أهل المناطق الحارة، وهذا له تأثيره على الممارسة السياسية والدينية في البلاد.
ويعتقد أن للبيئة دورا في تلوين الحكم الذي تخضع له أية جماعة بشرية، فقيام الديمقراطية في بلاد اليونان يرجع أسبابه إلى سلاسل الجبال التي جعلت من البيئة أقساما صغيرة تستطيع أن تباشر حكم نفسها بنفسها. وحيث تمتد السهول والأودية تقوم نظم الحكم الملكي والإمبراطوري مثلما كان الحال قديما في
مصر والهند وبلاد فارس
>[7]
إلا أن هذ الرأي يحتاج إلى تمحيص ودلائل.
ويرى
ابن خلدون أن النبوات إنما تكون في المناطق الأكثر
[ ص: 51 ] اعتدالا، فهو يقول: «ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية، وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خـلقهم وأخلاقـهم،
قـال الله تعـالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) (آل عمران:110)
وذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله»
>[8]
غير أن
عبد الواحد إسماعيل القاضي يرى أن
ابن خلدون قد تجاوز الحدود بمقالته هذه، وذلك لسببين:
أولهما: أنه يجدد دعوة أرسطو العنصرية، تلك الدعوة التي زعم فيها
أرسطو أن تقسيم الناس إلى سادة وعبيد ليس فيه شيء من الظلم أو القسوة؛ لأنه نظام فطري أرادته الطبيعة وأمرت باتباعه.
ثانيهما: أنه يحصر البعثات الإلهية في سكان المناطق الأكثر اعتدالا...
وساق عبد الواحد القاضي مجموعة من الآيات التي تتكلم عن بعثة الرسل
>[9] [ ص: 52 ]
والأمر في نظري على جانب كبير من الصحة، ذلك أن الآيات التي استدل بها القاضي لا تنـاقض ما ذهب إليه
ابن خـلدون ، ثم إنني وجدت كلاما
للدكتور وهبة الزحيلي في تفسيره قريبا من رأي ابن خلدون، يقول: «الأنبياء من أهل المدن، ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية، لغلبة الجفـاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال
الحسن البصري : «لم يبعـث الله نبيا من أهل البـادية قـط، ولا من النساء ولا من الجن.. وقال العلماء: من شـرط الرسـول: أن يكون رجلا آدمـيا مدنيا: وإنما قـالـوا: آدمـيا تحـرزا من قـولـه:
( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) (الجن:6)
>[10] 2- فقه الحركة الاجتماعية
رأينا فيما سبق كيف تؤثر البيئة الطبيعية على الإنسان وعلى حياته في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة.. ونحاول هنا رصد أهم مكونات الحركة الاجتماعية باعتبارها عنصرا مهما في الواقع، ولا يتحقق فقه الواقع إلا بفقهها.
[ ص: 53 ]
والحركة الاجتماعية، ومبلغ نشاط الأمة في شتى فروع الحياة، كل ذلك ينعكس على الفرد، ويطبعه بطابعه، ويتجه بقواه الجسمية والعقلية وجهة خاصة، ويؤثر أيما تأثير في إدراكه وعواطفه ونزوعه ومبلغ طموحه ومواجهتـه لمشكلات الحياة، ويذلل الوسائل لرقي مواهبه واتساع مداركه، أو يضع العقبات في هذا السبيل
>[11]
وأقصد بالحركة الاجتماعية كل العلاقات التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، أيـا كان نوعها: دينية، اقتصادية، سياسية، عائلية، ثقافية...
والحركة الاجتماعية عامل أساس في نجاح أو فشل دعوة ما، ومحدد رئيس لوضع الكثير من التشريعات أو إلغاء أخرى، وتأجيل ما يمكن تأجيله أو تقرير التدرج في أمور.. وسنبين ذلك من خلال ما يلي:
أولا: إن الاجتماع الإنساني إنما جعله الله سبحانه وتعالى لعمارة الأرض وعبادته سبحانه،
يقول الله عز وجل
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البـقـرة:30) ..
[ ص: 54 ]
وهذا هو السر في جعل الإنسان مكرما من بين سائر المخلوقات والكائنات
يقول تعالى:
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) .
وهكذا فإن فقه الحركة الاجتماعية ينبغي أن يكون في إطار الهدف العام من خلق الإنسان، والغاية الكبرى من وجوده.
والمتأمل في المجتمعات الإسلامية يجد أن سيرها قد انحرف عن هذا الهدف، حتى أصبحت صورتها مشوهة، لا هي إسلامية صرفة، ولا هي غربية، وقد تكون في بعض الأحيان أقرب إلى الغربية منها إلى الإسلامية، ولعل هذا ليس محصورا في مجال دون آخر.
فالواقع الإسلامي اليوم موروث عن عصور الانحراف والبعد عن شريعة الله عز وجل ، لذا فإن فهمه بعيدا عن تاريخه لن يؤتي الثمار المرجوة، وقد يأتي بعكسها.
هذا الانحراف أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وبالتحولات التي ستطرأ على تاريخ الأمة الإسلامية في مجال السياسة والحكم خاصة،
[ ص: 55 ] ( يقول عليه الصلاة والسلام : لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة ) >[12] ( وقال صلى الله عليه وسلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة... ) >[13]
هذا الحديث الشريف يبين لنا المراحل التي تقطعها الأمة الإسلامية، وتحول الخلافة إلى ملك عاض ثم جبري.. فالمرحلة الأولى وهي مرحلة النبوة، كان النبي صلى الله عليه وسلم الحاكم والإمام.. والمرحلة الثانية، مرحلة الخلافة على منهاج النبوة، مرحلة الخلفاء الراشدين، ساروا على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ، أمرنا باقتفاء أثرهم..
[ ص: 56 ]
وأما المرحلة الثالثة، وهي فترة الملك العاض، انتهت الخلافة وغابت الشورى من ميدان الحكم والسياسة، ومن هنا بدأ الانحراف الذي استمر إلى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الملك الجبري الديكتاتوري، حيث دخلت العلمانية وانفصل الدين عن الدولة، وغيبت الشريعة الإسلامية من جل المجالات وأبدلت بنظم وقوانين غربية بعيدة عن ملامسة هموم الأمة وآمالها وآلامها. «فمن الفقه العميق لما حل بنا من انحطاط أمس البعيد والقريب يبدأ التغيير»
>[14]
ولكن رغم هذا الانحراف الكبير، فإنه لا زالت في الأمة الإسلامية بقايا الخير والعقيدة الصالحة جذوة كامنة، يقول
الدكتور عبد المجيد النجار : «وإذا كانت الحياة الاجتماعية في وجوهها السياسية والاقتصادية والقانونية العامة قد انسحب منها إلى حد كبير العامل الديني، فإن بقية من الإيقاع العام في التعامل الأخلاقي والسـلوك الثقافي، بقيـت محكـومة بهذا العامل، وهو ما يلمسه بوضوح من يقارن بين مجتمع إسلامي ومجتمع غربي، بناء على خبرة علمية ومعايشة فعلية»
>[15] [ ص: 57 ]
ثانيا: إن فقه الحركة الاجتماعية هو رصد للعلاقات الاجتماعية على مختلف الأصعد التي تضطلع فيها التنشئة الاجتماعية بدور أساس، وذلك لأن المعايير الاجتماعية تتكون من خلال تفاعل الجماعة، حيث يكتسبها الفرد ويتعلمها من خلال التنشئة الاجتماعية
>[16]
وعرفت التنشئة الاجتماعية بتعاريف عديدة، أورد منها
الشيخ محمد كامل عويضة تسعة تعريفات نختار منها:
- التنشئة الاجتماعية عملية تحويل الفرد من كونه كائنا بيولوجيا إلى كونه كائنا اجتماعيا.
- التنشئة الاجتماعية عملية تعلم اجتمـاعي يتعلم فيها الـفرد عن طريق التفاعل الاجتماعي أدواره الاجتماعية، ويكتسب المعايـير الاجتمـاعية، ويتعـلم كيف يتـصـرف بطريقة ترضى عنها الجماعة.
- وهي إكساب الإنسان صفة الإنسانية.
ولعل التعريف الثاني أوضح وأشمل، إلا أننا نرى تغيير عبارة «ترضى عنها الجماعة» بعبارة
[ ص: 58 ] «ترضي الله عز وجل »؛ لأن الجماعة قد تصاب بالانحراف وبالتالي فإن تقويم التنشئة الاجتماعية لن يخضع لمعيار أو مقياس.
وتتحكم في التنشئة الاجتماعية عوامل أربعة: الوراثة، التراث الاجتماعي، الدين، البيئة وقد سبق الكلام عنها.
أ- الوراثة
لا أحد ينكر ما للوراثة من أثر على الكائن البشري في اكتساب خصائصه ومميزاته وطبائعه وعلاقاته مع غيره، بل «إن العلم أثبت أن العيوب والنقائص التي تخلفها المعاصي تنتقل بفعل قوانين الوراثة إلى البنين والحفدة. ومن ثم لا يكون العبد العاصي مسئولا عن معصيته وحسب، بل يكون مسئولا عما قد يصيب بنيه وحفدته من عجز وقصور واستعداد للانحراف»
>[17] ب- التراث الاجتماعي
ونقصد بالتراث الاجتماعي ذلك الميراث الذي يرثه الفرد من مجتمعه عبر السنين، بل والقرون أيضا، ويضم:
[ ص: 59 ] - اللغة وهي مرآة صافية تعكس التاريخ الاجتماعي، فكلما تحضرت أمة وتعددت مظاهر حضارتها وسما تفكيرها نهضت لغتها وتنوعت فنونها ودقت مفرداتها وكثرت المصطلحات الفنية فيها، ولذلك نجد أن لغة الأمة التي تنهض فيها الصناعة والزراعة أغزر ثروة من لغة بلد ينهض على الزراعة وحدها. كذلك تتأثر اللغة، بالنظام الطبقي؛ لأن كل طبقة تعبر عن نفسها بأسلوب يختلف عن غيرها
>[18]
وهذا أمر ملاحظ ومعيش.
- العادات والتقاليد والعرف وتختلف من مجتمع إلى آخر، ومن تجمع سكني إلى آخر، وهي التي تحفظ للمجتمعات كيانها.
هذه العادات والتقاليد يكتسبها الإنسان تلقائيا في المجتمع دون حاجة إلى مدرسة أو تعليم، إذ هي تسكنه دون أن يشعر، وتصبح خاصية من خواصه، لذا يشاع: أن «العادة طبيعة ثانية»، ويقولون: «تزول الجبال عن قواعدها ولا تزول الناس عن عوائدها». وكذلك العرف، فهو بمثابة قانون خفي ينظم المجتمع في علاقاته وفي سيره. وسنعود لهذا في الفصل الثالث.
[ ص: 60 ]
يقول
الدكتور مصطفى الخشاب عن العادات والتقاليد والعرف: «إنها الدعائم الأولى التي قام عليها التراث في كل بيئة اجتماعية، وهي إلى هذا تعتبر القوى الموجهة لأعمال الأفراد والمؤثرة فيها»
>[19] - الثقافة كان
تايلور Tailor أول من قدم تعريفا للثقافة، وقال: إنها ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والعادات، وأي قدرات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو من المجتمع
>[20] وباعتبار هذا التعريف فإن ثقافتنا اليوم -نحن المسلمين- ثقافة بعيدة عن ديننا ومنهاج نبينا صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي لا يمكن أن تعبر عن هويتنا وأصالتنا، وهكذا فهي بحاجة إلى تمحيص وتنقية وتنقيح.
جـ- الدين
ويعتبر الضابط الأساس الذي به ينضبط المجتمع، أيا كان نوعه، وهو ذو سلطة وتأثير أبلغ من تأثير العادات والتقاليد والأعراف، ولا يشبهها.
[ ص: 61 ]
والدين هو الأصل الذي تستمد منه المعايير الاجتماعية وإليه ترجع، فإن كان هناك خلل في المعايير الاجتماعية فإن هناك بالتأكيد خللا في التدين وفي التعامل مع الدين.
3 - سبر أغوار النفس البشرية
إن الإنسان ببشريته هو المحور الذي عليه يدور الواقع، منه يبدأ وإليه ينتهي، ولا يمكن أن نتكلم عن واقع بدون إنسان أو إنسان بدون واقع، ذلك لعلاقة التحكم بين الطرفين ومن كليهما، فيتكيف الإنسان معه أو يكيفه طبقا لحاجياته ومقتضيات التشريع بما وهبه الله عز وجل من استعدادات فطرية تختلف من إنسان إلى آخر، كل حسب طبعه ومزاجه وخصائصه النفسية. لكن رغم هذا، هناك ما هو مشترك بين جميع البشر وإن اختلفت نسبته من إنسان إلى آخر، وذلك ما اصطلح على تسميته بـ «طبيعة الإنسان»
>[21]
وقد حددها
الدكتور زويد المطيري في أربع:
أ- الإنسان في أصله مخلوق من طين، ونفخ الله فيه من روحه،
قال تعالى:
( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه [ ص: 62 ] من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) (السجدة:7-9) .
وقد بينت هذه الآية ازدواج الطبيعة الإنسانية، فهو من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، ويعني هذا وجود نوازع الخير ونوازع الشر في نفسه. هذا، وإن كانت تعتريه نزعات الشجاعة والجبن، فهي غرائز كما أشار إلى ذلك
الإمام الشاطبي رحمه الله
>[22] . والقلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
ب- إن وجود نزعات الخير والشر في الإنسان، يعني وجود شيء آخر، وهو وجود الإرادة الحرة فيه، والقدرة على اتخاذ القرار. وقدرته على اتخاذ القرار لا تعني بحال من الأحوال أن الإنسان قادر على اقتلاع ما غرز في جبلته، أو تحسين ما قبح من خلقة في جسمه، أو تكميل ما نقص منها.
ويرى الإمام الشاطبي أن الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها على ضربين:
- أحدها ما كان نتيجة عمل كالعلم والحب.
[ ص: 63 ]
- والثـاني ما كـان فـطريا ولم يكن نتيجة عمل، كالشجاعة والجبن، والحلم والأناة المشهود بها في أشج عبد القيس، وما كان نحوها
>[23]
جـ- منح الله الإنسان القدرة على التعلم وطلب المعرفة، حيث ميزه بحواسه لتعينه على تكوين خاصية العقل والتفكير التي تمكنه من العلم وإدراك الحقائق الخارجية،
قال تعالى:
( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) (النحل:87) .
د- لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير ممن خلق، فقد كرمه بأن خلقه في أحسن تقويم، وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، وبها استأهل الخلافة في الأرض، وكرمه بتسخير القوى الكونية له، وأسجد له ملائكته، وبحلول اللعنة على إبليس الذي أبى واستكبر عن السجود
لآدم >[24]
هذا، وخصائص النفس البشرية وحاجياتها تختلف من حالة
[ ص: 64 ] إلى أخرى، ومن وضع إلى آخر. والإنسان يحاول أن يتكيف مع كل حالة ومع أي وضع بما تختزنه نفسه من طاقات، ويتعامل معها بها، إلا أنه قد يعجز في بعض الأحيان، وقد يفشل في إيجاد تصرف ملائم لأية حالة تعترضه. من هنا، كان ترصد الظاهرة الإنسانية في مختلف أحوالها ترصدا للواقع الإنساني، وفهما له على الوجه الصحيح.
في المنهج
بعد استعراضنا للعناصر الأساسية في فقه الواقع، يجد القارئ نفسه أمام مركب معقد مسمى الواقع، لا يحل ألغازه إلا علم الاجتماع وعلم النفس وباقي العلوم الإنسانية وغيرها. وهنا نصطدم بمشكل، وهو أن هذه العلوم -كما يقول
الأستاذ عمر عبيد حسنة - إنما نشأت في مناخ التبشير والاستعمار، وجاءت استجابة لحاجات مؤسسات التنصير ومراكز صنع القرار، وأن تطورها فيما بعد، إضافة إلى ذلك، كان لحاجات التجارة والتسويق والتحكم الثقافي
>[25]
من هنا، تبرز أهمية صياغة هذه العلوم، صياغة إسلامية،
[ ص: 65 ] يكون الإيمان بالله عز وجل محورها، وينظر إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض.
ولن يحصل هذا الفقه بدراسة الأنظمة والانغلاق في الحجرات على المكاتب والأوراق، ولكن «بالانخراط الفعلي في هذا الواقع، معايـشة للنـاس، وتعـامـلا معـهم في تصرفات الحياة المختلفة، ووقوفـا على مشـاكـلهم عن كثـب، ومسـاهمة واقعية في مناشطهم المتنوعة»
>[26]
وقد اقتـرح
الدكتـور عبـد المجيـد النجـار طريقـتـين متكاملـتين للبحث في واقـع المسـلمـين، نراهـما جديـرتـين بالبـحث والتحقـيق، هما:
- الأولى: تحليل جملي لواقع المسلمين في خطوطه الكبرى وعوامله الأساسية، وفي المسار العام لأحداثه، وفي طبيعة تفاعلاته الداخلية والخارجية، ليحصل من ذلك كله شبه الأصول العامة، والقواعد الكلية للتشخيص والفهم، تساعد بعد ذلك على دراسة الأوضاع والظواهر الجزئية.
[ ص: 66 ]
- والثانية: تحليل جزئي تفصيلي لمجالات الحياة الإسلامية بحسب أنواعها أولا، كالاقتصاد، والسياسة، والثقافة، ثم بحسب أفرادها ثانيا، كالظواهر والحوادث المعينة بظروفها الزمانية والمكانية، وينتهي هذا التحليل بالوقوف على مشخصات الظواهر والأحداث في حقيقتها، وأسبابها ومجالاتها التأثيرية، وغير ذلك مما يتعلق بكشف حقيقتها
>[27]