المبحث الثالث: مكانة الواقع في سنن الراشدين
( .. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ) >[1] .، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع نهج الخلفاء الراشدين، فكان اختيارنا دراسة بعض مظاهر تقدير الواقع في سنة الراشدين، والعناية به في توجيهاتهم وسياستهم باعتبارهم أئمة الفقه وحكام الدولة.
وسيـكون الكـلام مركزا على اجتهادات
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أثيـر حولها من كلام وجدال وأفكار بعيـدة عما قصد إليه رضي الله عنه .
وفهم الواقع هو الذي أعان الصحابة رضوان الله عليهم على
[ ص: 133 ] معرفة مسئولياتهم وواجباتهم، وحدود أماناتهم، على أساس من إيمانهم وعلمهم بمنهاج الله، وهم يعدون لهذه الواجبات في مدرسة النبوة
>[2] .
فقد كانوا يعلمون أسباب التنزيل، ومقاصد الشريعة العامة، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها وأحوالها، ودخائل العدو الذي كانوا يجاهدونه، ومراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه
>[3] .
فهذا
معاذ بن جبـل رضي الله عنه أخـذ الثيـاب اليمنية بدل العين من زكاة الحبوب والثمار، " وقال: ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وخير
للمهاجرين بالمدينة "
>[4] .
انظر مدى اعتبار الواقع وظروف الناس. فالثياب أهون على أهل اليمن، لأنهم بها اشتهروا، وهي خير للمهاجرين بالمدينة لأنهم في حاجة إليها.
[ ص: 134 ] وهذا
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضمن الصناع ما يكون بأيديهم من أموال، إذا لم يقدموا بينة على أن ما هلك إنما هلك بغير سبب منهم، قائلا: " لا يصلح للناس إلا ذلك "
>[5] .
فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أمرين:
- إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق.
- وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين.
هذا معنى قوله: (لا يصلح الناس إلا ذلك )
>[6] .
انظر كيـف جعـلتهم المقـاصد يفعلون أمـورا لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معتبرين في ذلك مصلحة الأمة ومتطلبات واقعها... وهذا ما جعل
أبا بكر يستخلف
عمر ، ويحارب مانعي
[ ص: 135 ] الزكاة، ويجمع المصحف،
وعثمان يكتبه... رضي الله عنهم .
وتحدثنا كتب الفقه والسير والتـاريخ عن اجتهادات
عمر رضي الله عنه المأخوذة من واقع الناس والمكيفة معه.. ولكننا نجد كثيرين يجعلونها قدوتهم فيما يرون أن يجتهدوا طبقا للواقع.. من هنا ارتأينا الكلام عن أهم اجتهادات عمر رضي الله عنه
>[7] ، لنزيل -ما أمكننا ذلك- انتحال المبطلين وتأويل الغالين وخطأ الجاهلين وتعصب الجامدين.
1- عن
هشام بن عروة عن أبيه عن أبي حاطب، " أن غلمة
لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتي بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى
عبد الرحمن بن حاطب فجاء، فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يا
كثير بن الصلت ، اذهب فاقطع أيديهم. فلما ولى بهم ردهم عمر، ثم قال: أما والله أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وأيم الله، إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك، قال: بأربعمائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة "
>[8] .
[ ص: 136 ]
ونستفيد من هذه الواقعة:
- أن
عمر رضي الله عنه لم يبن حكمه على ظن أو احتمال، بل على علم، وهذا ما يستفاد من " قوله: أما والله أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم... " .
- أن الحالة التي تشخصها هذه الواقعة ليست من الأحوال العامة، وإنما هي حالة استثنائية، وهنا نطرح سؤالا على أولئك الذين يريدون أن تشمل ما لا تطيقه ويجعلونها عامة: هل وصل لنا أن عمر لم يقم حدا بعد هذه الواقعة؟
ومن له يسير علم بالأصول يستطيع أن يكتشف أن هذه الحالة استثناء من قوله:
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة: 38) ،
الذي خصصه
( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ادرءوا الحدود بالشبهات ) >[9] .
[ ص: 137 ]
والشبهة هنا تجويع الرقيق. وهذا لا يعني أبدا أن
عمر رضي الله عنه اجتهد مع وجود النص كما يتوهم بعضهم
>[10] .
2- خرج عمر رضي الله عنه من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه فأرقـني ألا خليـل ألاعبـه فـوالله لولا الـله أني أراقبه
لحرك من هذا السـرير جوانبـه
فسأل عمر ابنته
حفصة : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، فقال: لا أحبس أحدا في الجيش أكثر من ذلك
>[11] .
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفعله هذا يريد أن يجنب نساء المسلمين الوقوع في الفاحشة، والجميل في هذا الأمر أنه لم يبرر وقوعها أو إمكانية وقوعها بحبس الرجال في الجيش، وهو أمر اقتضته مصلحة المسلمين العامة، ولكن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
[ ص: 138 ]
3- " وعن
وبرة الكلبي قال: أرسلني
خالد بن الوليد إلى
عمر رضي الله عنهم ، فأتيته وهو في المسجد معه
عثمان بن عفان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن الزبير رضي الله عنهم ، متكئ معهم في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك، وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر: هـم هؤلاء عندك فسلهم، فقال: علي رضي الله عنه : نراه إذا سكر هذي وإذا هذى افترى، وعلى المفتـري ثمانون. فقـال عمـر: أبـلغ صاحبك ما قال.. فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين. وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلد أربعين، ثم جلد عثمان ثمانين وأربعين "
>[12] .
إن العقوبة التي كانت محددة لشاربي الخمر لم تردع هؤلاء عن شربه، فرأى عمر مضاعفة العقوبة، بناء على رأي علي.
ولعله من المناسب القول هنا: إن تقدير الواقع ليس معناه تخفيف التكاليف أو إسقاط العقوبة فقط، بل مضاعفتها أيضا،
[ ص: 139 ] ولست أدري لماذا لا يورد الباحثون -العلمانيون- مثل هذه الـوقائع، أو ليـست مـن اجتـهـادات عمـر؟ أو ليست متكيـفة مـع الواقع؟
وأصاب
الشيخ علي حسب الله رحمه الله حين قال: (إن التدهور الروحي أو الانحدار الخلقي لا يصح أن يعد تطورا توضع القوانين على أساس الاعتراف به وحمايته، بل ينبغي أن توضع لحماية الإنسان وتوجيهه إلى الكمال الذي أعده الله له)
>[13] .
4- يقول الله عز وجل :
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) (التوبة:60) .
( وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي ) >[14] .
وقد أسلم وحسن إسلامه.
[ ص: 140 ]
وكان الناس يتألفون بجهات ثلاث:
- إحداها للكفار بدفع معرتهم، وكف أذيتهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين.
- والثانية لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام، ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات والإسلام، ونحو ذلك من الأمور.
- والثالثة إعطاء قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر، لئلا يرجعوا إلى الكفر
>[15] .
وقد فصل
الدكتور القرضاوي في أصناف المؤلفة قلوبهم، فجعلها سبعة أصناف
>[16] .
وتأليف القلوب استمر من عـهد النبـوة إلى عهـد
عـمر رضي الله عنه ، فأسقط سهم المؤلفة قلوبهم حيث إن الناس لم يعودوا في حاجة إلى تأليف.
[ ص: 141 ]
يقول
الشيخ القرضاوي : (فإن
عمر إنما حرم قوما من الزكاة كانوا يتألفون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم. ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع، فإن التأليف ليس وصفا ثابتا دائما، ولا كل من كان مؤلفا في عصر يظل مؤلفا في غيره من العصور. وإن تحديد الحاجة إلى التأليف، وتحديد الأشخاص المؤلفين، أمر يرجع إلى أولي الأمر، وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين)
>[17] .
فعدم الإعطاء ليس تعطيلا للنص كما يدعي بعضهم، وإنما هو تطبيق له بعمق ونظر، واجتهاد دقيق في مدلولاته وصوره، ووقوف على علته ومقصده وجودا وعدما
>[18] .
إن هذه الصور تؤكد لنا الهدف السامي للرسالة الإسلامية، ذلك الهدف الذي أعلن عنه القرآن الكريم:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ،
هذه الرحمة التي تبين لنا كيف يتعامل الإسلام مع واقع أتباعه بلطف وحكمة، ويقيم شرعه وأحكامه على ضوئه وبقدر ما يتحمل.
[ ص: 142 ]