المبحث الثاني: ضوابط.. من مصادر التشريع
إن المصلـحة لا يمكن تقديرها إلا بالنـظر العميق في الواقـع، إلا أن هذه المصلحة -والمفسدة أيضا- لا يمكن اعتبارها إلا بشروط تطابقها مع ما رمى إليه الشرع من أهداف.. وقد حددت هذه الشروط في مصادر التشريع الإسلامي، وهي التي تضبط، إضافة إلى مقاصد الشريعة، العلاقة بين الدعوة والواقع.
وجميع مصادر التشريع الإسلامي مرتبطة أشد الارتباط بالواقع، ورأينا ذلك في القرآن الكريم والسنة الشريفة وسيرة
عمر رضي الله عنه ، حيث شكلت هذه المصادر ضوابط للعلاقة بين الدعوة الإسلامية والواقع، معالمها وحدودها.
واليـوم ما أحوجنـا إلى إعادة النظر في عدم اعتبار هذه المصادر العقلية أو التبعية، لما لها من قوة مؤثرة في سير الدعوة الإسلامية ونجاحها.
1- ضابط القياس
القياس -كما هو معلوم- عبارة عن إلحاق صورة مجهولة الحكم بصورة معلومة الحـكم، لأجل أمر جامع بينهما يقتضي
[ ص: 150 ] ذلك الحكم
>[1] .
والأمر الجامع بينهما هو العلة، وهي وصف في الأصل، بني عليه حكمه، ويعرف به وجوده في الفرع
>[2] .
ولنضرب مثلا لذلك:
وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة:90) .
فالصـورة المعلومة هي شـرب الخمر، وحكمها التحـريـم، والعلة الإسكار.
وإذا ما أردنا أن نعرف حكم شرب النبيذ نبحث عن العلة، هل هي أمر جامع بين الصورتين، علما أن الصورة المجهولة الحكم هي شرب النبيذ، فالعلة هي الإسكار، ويكون الحكم التحريم قياسا على شرب الخمر.
فالصورة المعلومة الحكم هي الأصل، والتحريم هو الحكم،
[ ص: 151 ] والإسكار هو العلة، والصورة المجهولة الحكم هي الفرع، وهذه هي أركان القياس.
ومن الجـهل والخطأ الفـظيع أن نلصـق حكما ما بكـل قضية أو واقعة تصادفنا جزافا، دون الإمعان في البحث عن العلة وفقه الواقعة أو محل الحكم.
وتظهر أهمـية القياس في ضبـط العـلاقة بين الدعوة والواقع، إذ به يبحث عن حكم واقعة طارئة ومستجدة معاصرة... باستخلاص العلة مناط الحكم.. والواقع هنا ذو أثرين:
- الأول: أنه يطلب حكما مناسبا له، ولن يتم هذا إلا باستيعابه وفهمه.
- والثاني: أنه يكشف لنا العلـة باعتبارها مدار الحكم وعليها يبنى.
2- ضابط الاستصلاح
الاستصـلاح هـو استنـباط الحكـم فـي واقـعة لا نـص فيـها ولا إجماع، بناء على مصلحة لا دليل من الشارع على اعتـبارها ولا على إلغائها
>[3] . وتسمى مصلحة مرسلة.
[ ص: 152 ]
والإرسال قد يراد به:
- أن يوكل أمر تقدير المصلحة إلى العقول البشرية، دون التقيد باعتبار الشارع أو عدم اعتباره لها.. والمقصود بالعقول البشرية، الاجتهاد البشري من خلال ما كسبه من معارف وعلوم وتجارب وفهم للواقع.
- ألا يتقيد المجتهد في حكمه على ما يستجد من الأحداث المختلفة بالقياس على أصل منصوص عليه، وإن تقيد بالمصالح والأهداف التي رمى إليها الشارع
>[4] .
وعندما يـوكل أمـر تقـدير المصلحة إلى العقـول البشرية، أو لا يتقيد في حكمه على ما يستجد من الأحداث بالقياس على أصل منصوص، فإنه لا يعني طبعا إهدارا للنصوص، كما ذهب إلى ذلك بعض المتطرفين المهمومين بالواقع المنشغلين به، حتى قال بعضهم: (إن النص الذي يأمر بقطع يد السارق، فهم منه وجوب القطع بالنظر إلى الظروف التي نزل فيها، أما في هذا العصر الذي يمكن أن تحفظ فيه الأموال بغير القطع، والذي أصبح فيه القطع
[ ص: 153 ] يخالف مبدأ الكرامة الإنسانية، فينبغي أن يفهم فيه هذا النص على منع قطع يد السارق، ويلغى ذلك الفهم السابق منه. وهكذا الأمر بالنسبة لسائر النصوص القطعية في الحدود وفي كثير من المعاملات الاقتصادية والأسرية )
>[5] .
وقد اختلف في الأخذ بالمصالح المرسلة بين معتبر لها وغير معتبر، وقد يكون لمن قال بعدم الأخذ بها من الأسلاف عذره في ذلك الزمان. ولكن اليوم فإن الغفلة عنها تعني أن الشريعة عاجزة عن مواكبة المستجدات ومتقلبات الحياة، غير عابئة بمصالح الناس وخيرهم الذي هو أعلى مقصد للشريعة، وبالتالي يناقضون ميزة الشريعة الإسلامية، الكامنة في صلاحيتها لكل زمان ومكان. ثم كيف ننكر عملا قام به الصحابة رضي الله عنهم ،
كأبي بكر عندما قاتل المرتدين؟ والأمثلة كثيرة.
كما أن ضرورة الأخذ بالاستصلاح والعمل به تتضح أكثر عندما نرى الدواعي التي تدعو إلى سلوك هذا الطريق
>[6] وهي:
[ ص: 154 ] أولا: جلب المصالح ودرء المفاسد
وعندما نقول بجلب المصالح ودرء المفاسد، فإنه لا يكون اعتباطا، وإنما بدراسة شاملة وبحث مستفيض، وفهم عميق لهذه المصلحة أو المفسدة وللمجال أو الواقع المستهدف، لا اتباعا للهوى والأغراض النفسية، فهذا لا يتوافق مع ما جاءت من أجله الشريعة الإسلامية، والـتي (جـاءت لتـخرج المكلـفـين عـن دواعـي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت،
وقد قال ربنا سبحانه وتعالى :
( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) (المؤمنون:71)
>[7] .
وحتى يحقق الوصف مصلحة أو مفسدة، لا بد من:
- أن يكون النفع أو الضر محققا مطردا.
- أن يكون النفع أو الضر غالبا واضحا، تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء، بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل.
[ ص: 155 ]
- أن لا يمكن الاجتزاء عنه في تحصيل الصلاح وحصول الفساد.
- أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر، مع كونه مساويا لضده، معضودا بمرجع من جنسه
>[8] .
ورحم الله
الإمام الشاطبي الذي جعل المصالح والمفاسد المعتبرة إقامة الحياة الدنيا للحياة الأخرى، فقال: (المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية)
>[9] .
ثانيا: سد الذرائع
ويقصد بها منع ما يجوز إذا كان سيفضي إلى ما لا يجوز
>[10] .
ولا يكون إلا في المباحات، كالبصر، ولكن جاء الأمر بالغض منه مع الأجنبيات؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى الزنا.
والمنظور إليه في سد الذرائع ليس هو النية السيئة من الفاعل، بل مجرد كون الفـعل مما يفضي إلى النتيجة التي يأباها الشـرع،
[ ص: 156 ] ولو كان الفاعل حسن النية. ولذلك نهى القرآن الكريم عن سب أصنام المشركين، وإن كان الذي يسبها إيمانا بالله تعالى وانتصارا له
>[11] .
لذا قـيـد الشـارع كثـيـرا من المبـاحات وضيـق من مجالها. وهذا ما جعل
عمر رضي الله عنه يمنع الزواج من الكتابيات عندما رآه قد انتشر، حتى لا تكثر نسبة العنوسة في المجتمع المسلم.
ثالثا: تغير الزمان
إن تغير الزمان والمـكان أو أحدهـما يعنـي تـغـيـر الـواقـع. ومـا يكـون محقـقا لمصلـحة في زمن ما قد لا يحققها في آخر، وما يحقق مفسدة في زمن ما قد لا يحققها في زمن آخر.. وقد رأينا من ذلك إسقاط عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم، عندما رأى أنه وبتغير الزمـان، لم يـعد يحـقق تـلك المصـلحة، ولم تعد هناك اجة إلى ذلك.
وإن النظر في الواقع والعلم بمكوناته، في الزمان والمكان، إليه يرجع في تقدير المصلحة وإنشاء الفتوى وتغير المواقف. وقد عقد لهذا
ابن القيم رحمه الله فصلا عنونه: (تغير الفتـوى بتغـير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والنيات) ، يقرر فيه أن الفتوى، بمـا بنيت عليه من مصلحة، تتغير بتغير العناصر المذكورة
>[12] .
[ ص: 157 ]
إن حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب (ما لا يتم الواجب إلا به) ، فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد
>[13] .
وقال
الشيخ خلاف : (إن الاستصلاح أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه، وفيه المتسع لمسايرة التشريع تطورات الناس، وتحقيق مصالحهم وحاجاتهم)
>[14] .
3- ضابط الاستحسان
عرف الاستحسان بتعريفات متعددة، كل حسب مذهبه واعتباره له، وأختار منها تعريف
ابن العربي المالكي الذي يقول: (الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته)
>[15] ... وهذا
[ ص: 158 ] الترك يكون إما للعرف، أو للمصلحة، أو لدفع الحرج
>[16] .
فهناك ظروف يستحيل معها العمل بمقتضى الدليل، لذا كان الاستثناء والترخيص، وكذلك التأجيل إلى حين توفر شروط العمل والتطبيق، فيحقق آنذاك الغرض والمقصد الذي شرع من أجله.
والاستثناء -كما يعرفه
الدكتور النجار - أن تستثنى واقعة أو فرد معين من بين وقائع وأفراد من ذات النوع، فلا يجري عليها الحكم الشرعي، لما يتبين من أن تلك الواقعة أو الفرد تحف بها ملابسات تؤدي إلى مفسدة لو أجري عليها حكم النوع
>[17] .
ومن ذلك عدم إقامة الحدود في الغزو، وغير ذلك مما مر معنا.
والتأجيل، أن يعلق الحكم عن التطبيق، وتجري الواقعة على خلاف ما تقتضيه أحكامها المجردة، لما في إجرائها على ذلك النحو من تحقيق مصلحة أو التخفيف من مفسدة، مقارنة بما سيئول إليه الأمر حين تطبيق الحكم المجرد عليها
>[18] .
وقد رأينا من ذلك وقف حد السرقة عام الرمادة وغير ذلك...
[ ص: 159 ] وقد اختلف العلماء في الأخذ بالاستحسان، كما في الاستصلاح، ولكنه اليوم أصبح ضروريا لأنه يلبي حاجيات الواقع المعقد، ويضبط لنا العلاقة بين الدعوة والواقع، ولا تجعله يطغى ويقدره ويعتبره. ويوضح هذا ما ذهب إليه
الدكتور النجار حين قال: (وإذا كان الواقع الإسلامي الراهن يحتاج في هدايته بالشريعة إلى اجتهاد واسع بمنهج الاستصلاح، بالنظر إلى كثرة نوازله الطارئة المستجدة على غير سوابق؛ فإنه يحتاج في ذلك أيضا إلى اجتهاد استحساني واسع، وذلك لأنه واقع متوتر، تتعدد فيه العوامل والأسباب، وتتناقض فيه المؤثرات بين استمرارية دينية، ورواسب تاريخية من الانحطاط، وغزو ثقافي من ثقافة الغرب وحضارته، وذلك كله من شأنه أن يكثر من شواذ العينات في تكوين الأفراد، وتوليد الوقائع والأحداث، وأن يفقد في الأمة وأوضاعها صفة التجانس أو يضعفها إلى حد كبير، فيكون العلاج بالشريعة حينئذ أحوج ما يكون إلى الاجتهاد الاستحساني، لاستيعاب التفاوت الحاصل بين العينات الواقعية، وهداية الشواذ الكثيرة بأحكام تتحقق فيها مقاصد الشريعة)
>[19] .
[ ص: 160 ]
وما أحوج أصول الفقه، اليوم، إلى دراسة وافية ودقيقة للقياس والاستصلاح والاستحسان لما بينهما من تداخل، مع أمثلة تطبيقية معاصرة لاستعمالاتها.
4- ضابط العرف
العرف هو ما يتعارفه الناس ويسيرون عليه غالبا من قول أو فعل
>[20] .. يقول
الأستاذ علال الفاسي رحمه الله: (ويطلق العرف في العصر الحديث على مجموعة القواعد التي تنشأ من مضي الناس عليها، يتوارثونها خلفا عن سلف، بشرط أن يكون لها جزاء قانوني كالتشريع سواء بسواء)
>[21] .
من هذين التعريفين نستخلص أن العرف سلوك لابن آدم، منه تتكون شخصيته، وتتشكل وتؤطر تصرفاته، ولا يستطيع أن ينفصل عنه.
يقول
الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء : (وللعادات والأعراف سلطان على النفوس وتحكم في العقول، فمتى رسخت العادة، اعتبرت من ضرورات الحياة، لأن العمل -كما يقول علماء النفس- بكثرة التكرار تألفه الأعصاب
>[22] .
[ ص: 161 ]
ولذا شاع من الأمثال:
- العادة طبيعة ثانية.
- الناس عبيد ما ألفوا.
- العادة محكمة.
- تزول الجبال عن قواعدها، ولا تزول الناس عن عوائدها.
ولعل هذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتخلى عن هدم الكعبة. فقد أخرج
البخاري ( عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض ) >[23] .
[ ص: 162 ]
وحتى المجتهدون الذين عاشوا في أقاليم
العراق والشام ومصر والمغرب ... تأثروا بعادات
الفرس والروم والفراعنة والبربر التي كانت تكون حضارتهم وقوانينهم. ومن هنا نرى اختلاف الفقهاء في استنباطهم للأحكام
>[24] .
وكان من شروط المفتي أن يكون عارفا بأعراف بلده وزمانه وعادات أهله، حتى إن
ابن عابدين قال: (من لم يكن عالما بعادات أهل زمانه فهو جاهل )
>[25] .
ولكن فيم يحتاج إلى العرف ؟
يقول
ابن دقيق العيد رحمه الله: (إن ما رتب عليه الشرع حكما ولم يجد فيه حدا يرجع فيه إلى العرف)
>[26] .
كما يراعى العرف في القضاء والفتوى.
والعرف الفاسد طبعا لا يراعى، وكذلك العرف الصالح إذا خالف نصا أو إجماعا، إلا ما كان منه تخصيص لعام أو تقييد لمطلق،
[ ص: 163 ] يقول
الشيخ خلاف : (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق.. وأما عرف يعطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام)
>[27] .
وهذا ما دفع بالعلماء إلى وضع شروط وقيود لاعتبار العرف، حددها
الدكتور عمر الجيدي في أربعة:
- الاطراد والغلبة.
- عدم مخالفته لنص شرعي.
- عدم معارضة العرف لتصريح يخالفه كالشرط مثلا.
- قدم العرف المراد تحكيمه
>[28] .
5- ضابط الاستصحاب
الاستصحاب هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل حتى يقـوم دليـل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره
>[29] .
[ ص: 164 ]
من ذلك، البراءة الأصلية، ومعناها أن الأصل في الأفعال النافعة الإباحة، ويوضح هذا قوله عز وجل :
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) (البـقـرة:29) ،
وقـوله سبحانه وتعالى :
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) (الجاثية:13) ، وعلى هذا، فالاستصحاب يشمل كل ما يحقق استخلاف الإنسان في الأرض أساسا.
ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة، إذا لم يكن فيها استرسال على فساد
>[30] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم وجد في قومه كثيرا من الأحوال والأفعال، فلم ينكرها عليهم ما دامت لا تعارض المقاصد العليا للإسلام، ولا تتناقض مع مبدأ الاستخلاف. من ذلك مثلا حلف الفضول.
والفكر الإسلامي اليوم، أحوج ما يكون إلى هذا الأصل، حتى يوسع من دائرة معاملاته ومجال حياة المسلمين، فيستوعب هذا الزخم العالمي المتطور في شتى المجالات، ذلك أن الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية التي لا تستطيع المجتـمعات الانفكـاك عـنها،
[ ص: 165 ] إذ لا تستطيع أن تقوم لها حياة، أو يستقيم حالها بدونها، فهو باب لحفظ مقاصد الشريعة.
وفي واقعنا المعاصر، كثيرة هي الأمور التي لم تكن حاضرة زمان نزول الوحي أو زمان الازدهار التشريعي، بل هي جديدة كل الجدة، نتيجة التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي والعلمي. وكما نعلم، فإن هذا التطور من صنع الغرب الكافر... فهل نصدر الحكم ابتداء، ونقول: حرام... كفر... لا يوافق الشرع؟ ما أنزل الله بهذا من سلطان؟
>[31] .
أظن أننا بالإجابة بنعم نكون قد حجرنا واسعـا وضيـقنـا من ديـن الله سبحانه وتعالى ،
وحرفـنا قوله عز وجل :
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) (البقرة:29) .
كما أن فتح الباب دون رقيب أو حسيب يؤدي إلى هدم الشريعة واندثار معالمها. من هنا، كان الاستصحاب ضابطا وموضحا ومحددا لعلاقة الواقع ودعوة الله عز وجل .
يقول
الدكتور يوسف القرضاوي : (لا ينبغي أن نجعل أكبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعا، ولا مطاردة كل غريب وإن كـان صـالحا، وإنما يجـب أن نفـرق بين ما يحسن اقتـباسـه وما لا يحـسن، وما يجـب مقاومتـه وما لا يجب، وأن نميـز بـين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور )
>[32] .
[ ص: 166 ]
وسبق أن تكلمنا في الفصل الأول عن العلوم الإنسانية، وعن مدى الأخذ بها، وهي من أصل غربي، ونؤكد هنا أن هذا الموضوع نفسه يدخل في دائرة الاستصحاب.
وقد تكلم
الدكتور عبد المجيد النجار عن الاجتهاد بخصوص استصحاب النظم والأوضاع فأحسن، ونرى من المفيد أن نورد هنا صورة هذا الاجتهاد، يقول: (الاجتهاد يتم بمرحلتين:
- المرحلة الأولى: قطع الصلة بين الواقع المستصحب وبين منبته الأصلي، وتنظيفه مما عسى أن يكون قد علق به من أوضاع أيديولوجية ظاهرة أو خفية، وقد يكون ذلك بتعديل في الصورة، باقتطاع من سياق أو بإعادة تركيب في العناصر، أو بغير ذلك من الأساليب التي من شأنها أن تبرئ من كل نسبة إلى التربة الثقافية العقدية التي نبتت فيها النظم والمعاملات الوافدة.
- والمرحلة الثانية: هي إدراج التراتيب والتنظيمات بعد تنظيفها في سياق الشريعة، لتحتل موضعا جديدا ضمن المنظومة الشرعية، بعد ما كانت في سياق ثقافي آخر، ولتصبح في موضعها الجديد أحكاما شرعية مثل سائر الأحكام المتعلقة بأوجه الحياة المختلفة)
>[33] .
[ ص: 167 ]
هكذا تنضبط العلاقة بين الاستصحاب والواقع، فلا تسيب ولا تحجير.