تاسع عشر: استخدام الأشياء الحقيقية
جاء في جملة من الأحاديث الشريفة أن الرسول استخدم الأشياء الحقيقية في تعليم أصحابه مثل الحرير والذهب والوبر ونحوها. ومن المسلم به تربويا أن التعليم باستخدام الأشياء الحقيقية أشد وضوحا وأبقى من التعليم اللفظي المجرد.
ومن ذلك الأحاديث الآتية:
75-
( عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال: خرج إلينا رسول الله، وفي إحدى يديه ثوب من حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم ) >[1]
ولا شك أن رفع الرسول للحرير والذهب في يديه الشريفتين، أقوى بيانا، وأعمق أثرا من القول: إن الذهب والحرير محرمان.
76-
( عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله يوم حنين إلى جنب بعير من المقاسم، ثم تناول شيئا [ ص: 123 ] من البعير، فأخذ منه قـردة، يعني وبـرة، فجعل بين إصبعيه، ثم قال: يا أيها الناس، إن هذا من غنائمكم، أدوا الخيط والمخيط فما فوق ذلك فما دون ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار ونار ) >[2]
فههنا نجد أن الرسول أراد أن يبين للمسلمين شناعة الغلول من الغنائم، مهما كان الشيء المغلول تافها. غير أنه لم يكتف بالكلام وحده، بل لجأ إلى استخدام الأشياء الحقيقية وسيلة لتوضيح المقصود، فأخذ بين إصبعيه وبرة من جلد البعير، مبلغا إياهم أن ذلك -رغم تفاهته - معدود من الغنائم. ولا شك أن ذلك أشد وضوحا، وأجلى بلاغا من الكلام وحده.
77- ومـثـلـه الحـديث الـذي أخـرجه النسائي
( عـن عبد الله بن عمرو أن رسول الله أتى بعيرا فأخذ من سنامه وبرة بين إصبعيه، ثم قال: إنه ليس لي من الفيء ولا هذه، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ) >[3] [ ص: 124 ]
78-
( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أن رسول الله مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذه بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت، فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم. ) >[4]
( كنفته ) وفي بعض النسخ ( كنفتيه ) يعني الأول جانبه، والثاني جانبيه.
( جدي أسك ) أي صغير الأذنين.
ويعلق القرضاوي على هذا الحديث بقوله: ( فانظر يا أخي القارئ كيف بين النبي المفهوم الذي أراد إيصاله إلى أصحابه مستخدما هذه الوسيلة العجيبة من الوسائل المعينة. إنها وسيلة يراها الناس، ويمرون بها كثيرا، ولكن النبي أراد أن يستخدمها أداة لتوضيح قيمة الدنيا التي يتهافت الناس، بل ويقتتلون عليها.
[ ص: 125 ]
إن هذا الدرس في تفاهة الدنيا عند الله -جوار الآخرة- لا يمكن أن يمحى من الذهن أو ينسى من الذاكرة، لارتباطه بالجدي الأسك الميت، وبمسلك النبي، وهو يأخذ بأذنه ويسألهم: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ويجيبون، ويسألهم حتى يقرر لهم الحقيقة المرادة في النهاية:
( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) >[5]
وهكذا نجد -من خلال استعراض الأحاديث النبوية الشريفة السابقة - أن النبي قد استخدم عددا كبيرا ومتنوعا من الوسائل التعليمية المناسبة، في مواقف تعليمية عديدة ومتنوعة، بما يراعي ظروف الموقف التعليمي، ويساعد على بلوغ الهدف المنشود منه، وبما يفضي إلى بقاء أثر التعلم في نفس الحاضرين، ويراعي الفروق الفردية بينهم، ويجذب انتباه المتعلمين، بشكل يلفت النظر ويثير الإعجاب.
ويعظم إعجابنا إذا تذكرنا أن البيئة في عهده لم تكن لتساعـد عـلى تـوفـيـر الوسائـل التـعـليـمـية، وأن الـرسـول صلى الله عليه وسلم أمـي
[ ص: 126 ] لا يقرأ ولا يكتب، وأنه لم يكن ليتكلف صنع تلك الوسائل، بل كان يوظف الإمكانات المتاحة في البيئة المحلية، لاستخدام وسائل تعليمية ناجحة، تحقق الغرض، وتخدم العملية التعليمية التربوية. وهي إلى ذلك تشكل ذخيرة تربوية قيمة للمربين المسلمين اليوم، حري بهم دراستها واستيعابها، وأن يتخذوا منها نبراسا يستنيرون به في جهودهم الرامية إلى تربية أجيال مسلمة قادرة على بناء حضارة إسلامية معاصرة.