المصطلـح (خيار لغوي وسمة حضارية)

سعيد شبار

صفحة جزء
المبحث الثالث: نماذج من تبدل الألفاظ وأثره في العلوم

إنه التعامل الواعي مع اللغة باعتبارها وعاء الفكر ولسان الأمة المعبر عن هـويتها وحضارتها، لكن كان من قدر هـذه اللغة أو ذاك اللسان أن ينحط وينهار من ضمن ما انحط وانهار من مقومات الأمة، بل وأن يكون مدخلا رئيسا لهذا الانهيار؛ بما طرأ في خلف الأمة من سوء فهم كتاب ربها وسنة نبيها في العقائد والأحكام؛ بلي أعناق ألفاظ الآيات والأحاديث وتوجيهها بما يخدم أغراض هـذا المذهب أو تلك الفرقة، وبما شاع في القرون التالية من جمود في الفكر وتقليد وتحجر في الفهم والنظر، حتى إن كثيرا من العلوم التي أسست لتعين على حسن فهم النص وتحميه من الدجل والأغراض تحولت إلى عوائق وحواجز تحول دون ذلك الفهم الحسن، وتفتح من المنافذ والثغرات ما يجد منه أصحاب الأهواء بغيتهم، ويضلل حتى ذوي النيات الحسنة، بما بدل فيها من ألفاظ واشتملت عليه من قيود الزمان والمكان، فتحولت بذلك من (مفاتيح للعلوم) -حسب عبارة الخوارزمي - إلى (مغاليق) لهذه العلوم. ونشأت بذلك (سدود بين الأمة وبين نصوص الشريعة، ضخمت شيئا فشيئا إلى أن تنوسيت السنة، ووقع البعد من [ ص: 60 ] الكتاب بسبب ازدياد تأخر اللغة، وأصبحت الشريعة هـي نصوص الفقهاء وأقوالهم لا أقوال النبي الذي أرسل إليهم.) >[1] ولنستمع إلى واحد من أعلام الإسلام ومجدديه في القرن الخامس الهجري وهو يتحدث عن: (بيان ما بدل من ألفاظ العلوم) ، يقول أبو حامد الغزالي : (اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها، ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول) ، وذكر من ذلك خمسة ألفاظ هـي: الفقه، والعلم، والتوحيد، والذكر أو التذكير، والحكمة.

وقال بخصوص الفقه: فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها [ ص: 61 ] يقال: هـو الأفقه. ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلـى نعـيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب؛

ويدلك على ذلك قـولـه عـز وجل: ( ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) (التوبة:122) ، وما يحصل به الإنذار والتخويف هـو هـذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللـعان والسلم والإجـارة، فـذلك لا يحصل به إنذار أو تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له،

وقال تعالى: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) (الأعراف:179) ، وأراد به معاني الإيـمان دون الفتاوى... ولعمري إن الفقه والفهم في اللـغـة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديـما وحديثا.

ويحترز أبو حامد من تهمة تجريد الفقه عن الأحكام الفرعية العملية بقوله: (ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولا [ ص: 62 ] للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطـريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع، فكان إطلاقهم له على الآخرة أكثر، فبان من هـذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب، ووجدوا على ذلك معينا من الطبع.) >[2] وبخصوص اللفظ الثاني (العلم) يقول: (وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، حتى أنه " لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود : رحمه الله، لقد مات تسعة أعشار العلم. " فعرفه بالألف واللام، ثم فسره: العلم بالله سبحانه وتعالى. وقد تصرفوا فيه أيضا بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في الـمسائل الفقـهية وغيرها، فيقـال: هـو العالم علـى الحقيقة، وهو الفحل في العلم، ومن لا يمارس ذلك ويشتغل به يعد من جملة الضعفاء [ ص: 63 ] ولا يعدونه في زمرة أهل العلم، وهذا أيضا تصرف بالتخصيص، ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وأفعاله وصفاته، وقد صار الآن مطلقا على من لا يحيط بعلوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية.) >[3] وبخصوص اللفظ الثالث (التوحيد) يقول: (وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضة الخصوم، والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد... مع أن جميع ما هـو خاصة هـذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والممارات... وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل، رؤية تقطع [ ص: 64 ] التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله. >[4] ثم ذكر لفظ (الذكر أو التذكير) ، ومـا طـرأ عليه من نقل مجالس الذكر إلى أخبار القصاص والأشعار والشطح والطامات >[5] ، ولفظ (الحكمة) واسم الحكيم الذي نيط بغير أهله. >[6] هكذا يقدم لنا الغزالي بيانا عن ألفاظ العلوم، محاولا في ذلك رد اللفظ إلى معناه الأصلي الذي كان يدل عليه دلالة شاملة وعامة، ثم ذكر ما طرأ عليه بعد ذلك من معان في الاستعمالات المتأخرة عن طريق ما يسميه بـ: (التصرف بالتخصيص) ، وذلك عندما يعمد إلى إحدى الدلالات الجزئية للفظ فيحمل عليها دون سواها، وتصبح هـي المعبر الوحيد عن مضمونه ومعناه، وتتتالى على ذلك الاستعمالات حتى ينسى ويغيب المعنى الأصلي أو يكاد. إلا أن الغزالي على قوة ملحظه لم يسلم مما اعترض به على غيره كما في تعريفه للتوحيد وحمله له على نفي الأسباب والوسائط، وغير ذلك. [ ص: 65 ]

في عصر الغزالي نفسه وعلى الضفة الأخرى من العالم الإسلامي، نجد ابن حزم الأندلسي يحمل نفس الشعور، ويكاد يعبر نفس التعبير، يتحدث عن (الألفاظ الدائرة بين أهل النظر) فيقول: (هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني، وأوقع الأسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة، وخفيت الحقائق.) >[7] وقام بتعريف ما يربو على ثمانين لفظا قاصدا (معنى كل لفظة على حقيقتها) .

كان هـذا كلام علماء مصلحين ومجددين في القرن الخامس من تاريخ هـذه الأمة، وإذا استمعنا إلى كلام مصلحين أو مفكرين آخرين في القرن التاسع عشر أو العشرين من تاريخها الحديث والمعاصر نعلم أن مقياس الانحدار الفكري والثقافي، والنزيف النفسي في الأمة لم يتوقف، وأن الهوة بينها وبين المتح من معين، كتابها أضحت خرقا اتسع على رقع كل حركات التجديد والاجتهاد والإصلاح والإحياء والبعث والنهضة التي ظهرت، يبتلعها ليجعلها جزءا من كيان الأمة المعلول مهما أوتيت من قوة وإشعاع. [ ص: 66 ]

وإذا التمست لذلك أسبابا تجد من أبرزها وأهمها وأخطرها ما طرأ على لسان الأمة ومنهجها في الفهم ومرجعها في الاستمداد، أو قل: ما طرأ على نظام فكرها عموما من أخلال منهجية ومرجعية. ولا بأس من اختيار نص يحتوي نماذج تحدد منهجية التعامل مع اللفظ القرآني باعتباره أعلى مستويات التعامل، بل وأولها. وإلا فما هـو موجود في علم التفسير -مدخل التعامل مع النص القرآني- موجود في سائر العلوم. يقول محمد عبده : (إن كـثيرا من الألـفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد. من ذلك لفظ (التأويل) : اشـتهر بـمعنى التـفسير مـطـلقا أو علـى وجه مخصوص، لكنه جاء في القرآن بمعان أخرى؛

كقوله تعالى: ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) (الأعراف:53) ، فما هـذا التأويل؟

يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة؛ ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب، فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المدقق أن يفسر القرآن [ ص: 67 ] بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، وأن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه... ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه.) >[8] وأيضا (لا مناص من أن نعيد النظر في مفاهيم المصطلحات الحادثة في حياة الأمة؛ لنوازن بين آثارها السلبية والإيجابية، فنخرج من حياتنا تلك المصطلحات التي أدت مهماتها المرحلية ونعود إلى مشروعية الشمولية الإسلامية؛ حتى نربط الجزر الإسلامية الصغيرة >[9] المعزولة بعضها عن بعض في إطار خصائص الفكر الإسلامي الحديث... ليعود مفهوم الأمة الواحدة المتوازنة في عقائدها، المنطلقة إلى تحقيق أهدافها الضخمة، في إعادة صياغة الشخصية الإسلامية المتكاملة.) >[10] ومن أكثر المجالات احتياجا إلى ضبط الألفاظ والمصطلحات [ ص: 68 ] ومعانيها المجال الفقهي؛ لما يترتب على ذلك من فهم للأحكام وإصدار للفتاوى. ومن بين أبرز العلماء الفقهاء المنبهين على ذلك نجد ابن عبد السلام الذي عقد فصلا سماه: (فصل: فيمن أطلق لفظا لا يعرف معناه، لم يؤاخذ بمقتضاه) ، قال: (فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو إيمان أو طلاق أو عتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك؛ لأنه لـم يرده، فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون، وإن قصد العربي بنطق شيء من هـذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه...) فـ (اللفظ محمول على ما يدل عليه ظاهره في اللغة أو عرف الشرع أو عرف الاستعمال، ولا يحمل على الاحتمال الخفي ما لا يقصد أو يقترن به دليل.) >[11] وبشيء من التفصيل يتحدث ابن القيم عن (مسائل يرجع فيها المفتي إلى العرف) ، فيقول: (لا يجوز له (المفتي) أن يفتي في الإقرار والإيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هـو من تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها، [ ص: 69 ] فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل. فلفظ: الدينار، عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما، والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطينه إياها أو أصدقها امرأة لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.

وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق، فإذا قال أحدهم عن مملوكه: إنه حر. أو عن جاريته: إنها حرة. وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعا، وإن كان اللفظ صريحا عند من ألف استعماله في العتق.

وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح، بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره، فإذا قالت: (اسمح لي) ، فقال: (سمحت لك) ، فهذا صريح في الطلاق عندهم... بل لو قالت المرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية ولا يفهمها قل لي: أنت طالق ثلاثا. وهو لا يعلم موضوع هـذه الكلمة، فقال [ ص: 70 ] لها، لم تطلق قطعا في حكم الله تعالى ورسوله.) >[12] لا يحتاج هـذا الكلام إلى تعليق، فذكره بهذا التفصيل مغن عن ذلك، وإنما يحتاج إلى استلهام منهج في الفهم والتعامل الواقعي مع النوازل التي تجرد عنها الفقه عبر القرون أو كاد، ومدخل ذلك ضبط اللفظ ومعناه شرعا أو عرفا.

وهذا في العقائد وأصول الدين أعظم، وقد تحدث ابن جني عن: (باب: فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية) ، فقال: (اعلم أن هـذا الباب من أشرف أبواب هـذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية، وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هـذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها.) >[13] تتأكد من هـذا -ومن غيره- أهمية الرسالة الفكرية والمهمة الحضارية للمصطلح والقاموس، فهو الأداة الطبيعية لرؤية وفهم وتفسير تراث أمتنا، إن في الفكر النظري أو في التطبيقات التي [ ص: 71 ] مثلت واقع الأمة وتجربتها بهذا الميدان، ففيه المعاني المنضبطة لمصطلحات (الفكر) و (لواقع الحياة) ، وهو السبيل إلى وضع لبنة في صرح الاستقلال الحضاري لأمتنا عندما يضع وييسر للعقل العربي والمسلم سبل إدراك ما لحضارتنا من (خصوصية) في المعاني والمضامين والمفاهيم >[14] . تتأكد أيضا أهمية (منهج الدراسة المصطلحية [الذي] يتصدى أساسا لضبط المفاهيم المكونة لأي نسق. والدين في جانبه المعنوي التصوري نسق من المفاهيم، أصلها في كتاب الله عز وجل ، وبيانها في بيان السنة، ومن تمكن من تلك المفاهيم ومن نسقها العام تمكن من الصورة الصحيحة لهذا الدين، ومن تشوه لديه شيء منها أو منه تشوهت لديه الصورة العامة لهذا الدين.) >[15] . [ ص: 72 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية