أسباب الاختلاف :
من أسباب الاختلاف والارتباك عندنا، أن الغرب الذي ننقل عنه المصطلحات عنده مصطلحان: " Civilization، Culture " ، يقابلهما في لغتنا أربعة مصطلحات هـي: حضارة، ثقافة، مدنية، تقنية. من هـنا جاء الارتباك والاختلاف والتداخل.
ومن البدهيات أن أي مصطلح يبدأ غامضا وغير محدد بدقة، ولكن مع مضي الوقت، وكثرة الاستعمال، يذهب الغموض، ويتحدد المصطلح، ولما كان الغرب يختلف، بل يتوسع في الاختلاف، بحيث يضع للثقافة أكثر من (165) تعريفا، ومثلها الدولة والحضارة، جاء الاختلاف عندنا وشاع، كما هـو شائع في الغرب.
إن التناول الغربي لمصطلحي " Civilization، Culture " ، يجعل منهما مترادفين -كما لدى تايلور- وهناك من جعل " Civilization " قاصرا على التقدم المادي مثل الألمان.. وهناك من يجعله شاملا لكل أبعاد التقدم، مثل الفرنسيين.. فريق ثالث يحصر التقدم بما هـو خاص بالفرد، ورابع يجعله شاملا للفرد والجماعة.. وهناك فريق خامس، حاول أن يجعل من مصطلح " Civilization " مفهوما عالميا، أي هـناك حضارة
[ ص: 66 ] واحدة، تساهم المجتمعات فيها كل بنصيب، أما الثقافة فهي خاصة بكل شعب.. وهناك فريق سادس يعكس القضية فيجعل الثقافة عامة، والحضارة خاصة
>[1] هذا الاختلاف يصل إلينا، ونحن ما زلنا في دور المتلقي المترجم، ولسنا في دور المنتج المبدع. لذا وجدنا الاضطراب يسود كتاباتنا، فمن ترجم (Culture ) إلى ثقافة، جعل
( Civilization ) حضارة، ومن ترجم ( Culture ) إلى حضارة، جعل (Civilization ) مدنية. وهناك من يعتبر الثقافة هـي الجانب الفكري، ولذا يكثر الحديث عن الثقافات الخاصة، وأن كل أمة لها ثقافتها، وقد لا تكون لها حضارة، أما الحضارة فتشمل الجانب المادي
>[2] ، وقد ينعكس الأمر، لتكون المدنية تمثل الجانب المادي، والحضارة تمثل الجانب المعنوي.
ويعتقد
د. محمد حسين هـيكل ، ومثله
محمد عزيز الحبابي ، أن العالم تسوده حضارة واحدة، ساهم فيها الكل، وهي ملك للكل.
يقول
د. هـيكل : إن الحضارة تراث عالمي، لا يجوز شطره جزئين منفصلين، فلا وجود لحضارة شرقية، ولا حضارة غربية، وإنما هـناك حضارة عالمية واحدة، يجب الإيمان بها، والإخلاص لها.
>[3] ويقول
الحبابي :... والحضارة تراث مشترك يجمع بين جميع
[ ص: 67 ] الشعوب، قديمها وحديثها، وإنها إرث إنساني، في نمو لا ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج، وله روافد عديدة تصب فيه على الدوام، تلك الروافد هـي الثقافات القومية.
>[4] والذي لا شك فيه أن الحضارة حين تعطي كل ما لديها، تم تجف منابعها تسقط، فترثها حضارة أخرى تالية، لتبدأ من حيث انتهت سابقتها، وليس من الصفر، ولذا فهناك دوما (إرث حضاري ) ، لكن الحضارة التالية تضيف وتحذف، تستبعد أشياء، وتستحدث أشياء، ومن هـنا يأتي تميز الحضارات.
فإذا نظرنا للإرث، فهي واحدة، وإذا نظرنا للمستجدات فهي متعددة، وإن كان الغرب يريد أن ينكر هـذه الحقيقة، خصوصا على الحضارة الإسلامية، فلا يعترف لها بفضل، لكن يلاحظ أن أمثال
شبنجلر وتوينبي يرفض ذلك، كما تتعالى اليوم أصوات ترفض هـذه النظرة العنصرية وإنكار أي أثر للحضارات السابقة.