وعد فريد
أريد أن استطرد لذكر وعد فريد، يخص
النصارى ، جاء في كتاب الله، والقرآن الكريم ليس دأبه ذلك،
يقول تعالى:
( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم ) (آل عمران:55) .
في الآية الكريمة قضيتان: الأولى بقاء النصارى إلى يوم القيامة، والثانية أن يكونوا فوق الكفار كذلك.
البعض يجادل بأن النصارى حرفوا وبدلوا، فهم ليسوا أتباعا للسيد المسيح، بينما الوعد للذين اتبعوه. ومعلوم أن لا جديد في عقائد النصارى، إلا قلة قليلة جدا، والباقون كلهم يؤمنون بالتثليث والصليب...إلخ، ولا جديد عندهم، اللهم إلا ما تحاول اسرائيل من رفع نصوص في الأناجيل، ومن بعض الصلوات، ومن الدعاء على اليهود، وأما ما سوى ذلك فلا جديد فيه.
[ ص: 77 ] الموقف من حضارة الغرب
لا يخفى أن كل متكلم عن الحضارة، إذا أطـلق (الحضارة ) ، فهو يقصد الحضارة الغربية.
وابتداء، فإن الغرب يحتقر كافة الحضارات -باستثناء اليونانية والرومانيـة- ولا يقيم لها وزنـا، ويدرب أفـراده على التعـالي والتكبر، بل هـو يتطرف فيصم كل معتز بحضارته بأنه يعادي الغرب وحضارته، ولذا سأستشهد بنصوص لبعض الرموز الإسلامية وغيرهم:
أولا: شهادة سيد قطب
>[1] :
يقول
سيد قطب يرحمه الله:
(لقد غابت أمتنا المسلمة عن الوجود والشهود، دهرا طويلا، وقد تولت قيادة البشرية أمم أخرى، وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية في هـذه الفترة رصيدا ضخما من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته، غير مستعدة للتفريط فيه، ولا فيمن يمثله، وخاصة أن العالم الإسلامي يكاد يكون عاطلا عن كل هـذه الزينة ) .
إن هـذه الأمة لا تملك أن تقدم للبشرية تفوقا خارقا في الإبداع المادي، تحنى له الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية.. من هـذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هـذا المضمار، سبقا واسعا، وليس من
[ ص: 78 ] المنتظر خلال قرون على الأقل، التفوق المادي عليها، فلا بد من مؤهل آخر، مؤهل تفتقده هـذه الحضارة.
وهذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن ليس بوصفه المؤهل الذي نتقدم به قيادة العالم، في المرحلة الراهنة، وإنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا، وكذلك بوصفه واجبا يفرضه علينا التصور الإسلامي الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض، ويجعلها تحت شروط معينة عبادة لله تعالى، وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني..
لا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادي، ولن يكون سوى (العقيدة ) والمنهج، الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج عبقريتها المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج، من تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم) . وأحسب أنها شهادة واضحة متوازنة منصفة.
2- شهادة
د. رشدي فكار
د. فكار يرحمه الله، ابتدأ تعليمه في الأزهر وانتهى في الجامعات الغربية، فهو ابن الحضارة الغربية، وثمرة من ثمراتها، وراصد جيد لها ولما تموج به..عرف إيجابياتها، كما يعرف سلبياتها.
وهو يقول
>[2] : لن نستطيع أن نقدم للعالم طائرات أسرع، ولا طرقا
[ ص: 79 ] أنعم، ولا سيارات أجود، ولا صناعات أفضل، لكن بإمكان الإسلام أن يقول: سأعطيكم إنسانا أكثر توازنا واعتدالا، أكثر برا وإحسانا، إنسانا يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسانا يحترم الإنسان، ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب، واستنزاف الخيرات، في إطار من التحايل والمكر، والدهاء والكيد.
بمعنى آخر: صياغة وبناء الإنسان ليبني كل ما دمر... إن صياغة الإنسان ما تزال الأصعب، الإنسان صنع (الكمبيوتر ) ، وقد راح الأخير يصمم ويصنع العجائب، صنع الإنسان المركبات وأرسلها إلى أعماق الفلك، صنع الطائرات التي فاقت سرعتها سرعة الصوت، صنع الصواريخ عابرة القارات، لكنه يفشل في تربية طفل داخل البيت.
إن التربية المتوازنة لإنسان متوازن ما زالت هـي الأصعب، المطلوب إنسـان تتـوزان أشـواقـه الروحية ونزعتـه العقليـة، وعـواطـفه وغرائـزه، مـع توجهاته الدنيـوية، وأشـواقـه الروحيـة، وتتصالح هـذه التوجهات ولا تتحارب، هـذا الإنسان هـو المطلوب اليوم وغدا، والحاجة له تفوق حاجتنا لصواريخ ذكية أو غبية، قبل أن يفلت الزمام، فتتحول الأرض كرة لهب، أو فرن ذري يشوي الكل.
3-
مالك بن نبي
تحوي الحضارة أفكارا وتشريعات، كما تحمل قيما ومنتجات مادية، والمقتبس بالدرجة الأولى، هـي المنتجات المادية، فالعالم اليوم كله يستعمل المنتجات الغربية فهل تحضر؟
[ ص: 80 ]
يقول
مالك بن نبي يرحمه الله
>[3] : لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجات حضارة ما، فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية، من قبل كافة دول العالم، لم يجعلها تكسب حضارة أو قيما، إذ الحضارة ليست تكديس منتجات، بل هـي فكر ومثل وقيم، لا بد من كسبها أو إنتاجها.
إذن فكل من يشتري منتجات حضارة، فهو مستهلك حضارة، وليس منتج حضارة.
ويحلو للبعض أن يقارن بيننا وبين
اليابان ، في الموقف من الحضارة، فيقول: كانت اليابان تلميذا نجيبا للغرب وحضارته، والتلميذ قد يتفوق على أستاذه ويتجاوزه، أما نحن فكنا مجرد زبائن، وما زلنا كذلك، فالزبون يأخذ البضاعة وينصرف، ويكرر ذلك كلما احتاج.
4- المستشرق الفرنسي
(جاك بيرك)
يتحدث بيرك عن أخذ الحضارة الغربية كلية -كما ينادي البعض- فيتساءل
>[4] : هـل النموذج الغربي ضروري وحتمي، بالنسبة لكافة الشعوب ؟
ويجيب: ليس بضروري ولا حتمي، بل يؤدي في أحيان كثيرة إلى أنواع من الفشل والقلق والتمرد.
[ ص: 81 ] 5- د.
رفيق حبيب
د. رفيق نصراني مصري، يردد كثيرا بأنه: نصراني ديانة، مسلم ثقافة وحضارة.. له عدة كتب منها (تفكيك الديمقراطية ) ، يظهر منهجه الفكري وما يؤمن به، والكتاب يستحق القراءة بل والدراسة، وسألخص بعض ما جاء فيه، بحسب ما يسمح البحث.
لقد عنونه (حكم الأقلية ) ، موضحا أن الحضارة العربية الإسلامية أصابها (الوهن ) ، مع نهاية القرن الثامن عشر، حيث حصل انقطاع تاريخي
>[5] ، ونعني به انقطاعات عن قيمنا ومبادئنا ومقدساتنا، وهو انقطاع عن التطور، وأيضا عن السيادة والسلطة...
أما قبل ذلك فكان للأمة كبوات تنهض بعدها، ولكن مع نهاية القرن الـ 18 كان السقوط الأكبر، وهنا ظهر الغرب بكل قوته وإنجازاته وسطوته.. وأمام هـذا التحدي (الحضاري ) لم تكن الأمة قادرة على الصمود، فاجتمع على الأمة التحدي الخارجي والضعف الداخلي.
فراح الغرب يفرض قيمه، وفي نفس الوقت يهمش قيم الأمة، ووجدت مجموعة فرصتها لتصل إلى الحكم، محمولة على أسنة رماح الغرب، فراحت تميل لقيم مخالفة لقيم الأمة.
(إن التدهور الحضاري -الذي عشناه- أخرج القيم المتنحية.. والقوة الغربية المهيمنة، حولت أصحاب هـذه القيم إلى مساحة للوكالة
[ ص: 82 ] عن الحضارة الغربية، وهكذا توحد الهامش الداخلي، مع الوافد المستورد، والمفروض من الخارج، ليصنعا (جماعة هـامشية، ومجتمع أقلية) ، تسوده قيم غريبة ووافدة وهامشية... لهذا فوكلاء الغرب الثقافيون، أصبحوا نخبة لا تبدع للأمة ولأجلها، بل أصبحوا قوة ناقلة لقيم الغرب، مؤكدة للقيم المتنحية من حضارتنا، مما أفقد الأمة الكثير من الفرص كي تنهض مرة أخرى )
>[6] .
إذن هـناك جدول أعمال (لتفكيك الأمة ) في نظر د. رفيق، يتمثل في فرض قيم وطرد قيم، فرض قيم مخالفة للأمة، وزرع قيم أخرى، لتصبح مع مرور الزمن قيما ثابتة، وليصبح وجود الأقلية وحكمها حالة مطلوبة ومستمرة، وليمدها الغرب بكل ما يملك من سند وإسناد.. ثم يطرح بعض النتائج فيقول
>[7] :
1- إن صح تصورنا السابق، فالجاري الآن -في قلب أمة العرب والمسلمين- هـو حكم أقلية، بنموذج قيم وافدة، وهو مفض في النهاية إلى إرساء قواعد مغايرة تماما لنا.
2- ما يحدث هـو فرض لقيم ليست من الأمة، وبالتالي لا تحقق إشباعا لها، كما لا تحقق لها اتفاقا ولا إجماعا.
3- ما يفرض هـو قيم يؤكد الشاهد التاريخي أنها غير محققة للتقدم
[ ص: 83 ] والازدهار في أوطاننا، وإن كانت محققة لهما في أوطان أخرى.
4- إن حكم (قيم الأقلية ) في حد ذاته، يعني سيطرة قيم (مرفوضة ) على قيم (مرغوبة ) ، وهو ما يعني اغتصابا للسلطة من الأمة، ونزع قيمها من حياتها.
5- إن قلب منظومة (القيم ) بهذا الشكل، يؤدي إلى تفكيك الأمة، وإدخالها في صراع حول القيم بين (مرفوض ومرغوب ) .
وهو يكرر التخوف من ذلك، بل يراه عملا منظما (لتفكيك الأمة ) ، كما يصبح (الانقطاع التاريخي ) عملا مقصودا ومخططا، وليس مجرد نتيجة لحالة تدهور تمر بها الأمة.
بعد ذلك يضع عنوانا: (حكم الأقلية الحضارية ) .
فيرى: أن الأمة تقع تحت حكم (الأقلية الحضارية ) ، ويفسر ذلك بأنه الوقوع تحت حكم (قيم حضارية مغايرة ) ، وفي تسبيب ذلك يذكر الاستعمار -بكل أشكاله- والسبب الثاني هـو: ضعف الأمة، وتدهور حالها. والسببان يتفاعلان، مثل الضعف والمرض، فالضعف في الجسم يسهل المرض، والمرض يضعف الجسم.. إن الاستعمار يتأكد بالقابلية له، والهيمنة الحضارية تعضدها القابلية للاستعمار.
والإشكالية الراهنة جاءت من سيادة النموذج الغربي، بدرجة جعلته الحاكم وصاحب السلطة، والمؤيد بالقانون، وعلى الرغم من أنه غريب ولا يعبر عن الأمة، لكنه صاحب السيادة، والخـروج منه صار أمرا
[ ص: 84 ] معقدا، لذا فإن تفكيكه والخروج من أسره، سيكون عملا نهضويا وثوريا في آن واحد.
>[8] .
والتحدي الحقيقي أمام الأمة يكمن في قدرتها على (إنهاض نمط حياتها الخاصة ) ، إلا أن العوائق كثيرة ومتشابكة، فتدفع بهذا التحدي للوصول إلى درجة خطيرة، كما يدفع بقوى الأمة إلى إعلان غضبها وتمردها، فحكم الأقلية الحضارية يعني -فيما يعنيه- أن أصحاب القيم الغريبة والمعارف غير السائدة في الأمة، هـم أصحاب القرار، وهم الذين يحتـلون موقـع النخـبة هـذا الوضـع نوع من عنـصرية جديدة، يمكن تسميتها بـ (العنصرية الاستعمارية ) فهذه القيم الغريبة وأصحابها يحتلون مكانة أهم بكثير من قيم الأمـة الأصلية، وهذه عنصرية لا شك فيها.
وهنا يقوم ويتحقق نوع جديد من (الاستيطان ) ، استيطان أفكار غريبة وافدة، مستقرة في عقول (وكلاء محليين ) ، وكل ذلك مما يجعل الصراع.
>[9] (فتنة بين أبناء الأمة ) .
وهي فتنة بحجم إحساس الأمة (وطليعتها الحقيقية ) بأن القيم الغريبة لها تلك المكانة، بينما القيم الأصلية مهمشة، وهذا ما يولد شعورا بالغبن، ويدفع بالتالي إلى الغضب أو اليأس.
[ ص: 85 ]
هـذا ويتحقق حكم الأقلية الحضارية، من خلال آليات كثيرة، تم زرعها في جسم الأمة، وما زال يزرع غيرها، كي تبقى (الأقلية الحضارية ) قوية فاعلة مسيطرة، بفعل وسائل منظمة، تنتج وتكسب أعضاء جددا لهذه الأقلية، كي تتجدد أولا، ولكي يضمن استمرارها.
إن هـذه (الآليات ) تمثل المشكلة الرئيسة، والتي تجعل الصراع بين (الموروث والوافد ) يتمدد من المجال الحضاري إلى السياسي، حتى يصل إلى حياتنا اليومية.
وأكبر ميدان تثيره آليات (الأقلية الحضارية ) هـو التعليم، فهو غربي الروح، يروج للغرب، على كافة المستويات، (وهو يقدم رؤى معرفية ضمنية متحيزة للحضارة الغربية، كما تنتج تحيزات لحكم الأقلية الحضارية، بدلا من أن تنتج طلائع لنهضة الأمة )
>[10] ثم يستدرك فيقـول: ليس بالضـرورة أن يكون كل متعلم متـغربا، أو وكيلا للغرب، ولكن -على الأقل- معرضون للتشوه الثقافي، والتداخل المعرفي. ويرى د. رفيق أن مشكلاتنا تتفاقم تحت مظلة (العلم) ، إذ تتحول كل طاقاتنا العلمية باتجاه (إعادة إنتاج النمط الغربي) فيتأسس علمنا على الاقتباس، على حساب الإبداع، خاصة الإبداع الأصيل، النابع من ثقافة الأمة، وهكذا تتحول (آلة إنتاج المعرفة) إلى منتجة، ولكن بصورة مزيفة عن الأمة، صورة من شروطها
[ ص: 86 ] تأهيل الأمة (لعملية التغريب) ، يواكبها تشويه الصورة الأصلية للأمة.
هذه بعض طروحات د. رفيق في (تفكيك الديمقراطية ) ، وهي طروحات لا نعلم أنه سبق إليها، وهو يحمل من الشجاعة ما نحن بحاجة إليه.
6-
د. برهان غليون
د. غليون سوري الأصل، فرنسي الجنسية، يعمل أستاذا لعلم الاجتماع في السوربون، له أكثر من عشرة مؤلفات.
يدرس قضية النقل الحضاري، حيث يصورها (البعض ) أو يبسطها غاية التبـسيـط فيرى أن بإمكاننـا أن نقلد الغـرب لنكـون مثـله، فيـرد د. غليون
>[11] : (إن هـذا المأزق يتمثل بالاعتقاد بأننا لو أخذنا نفس مبادئ الأوروبيين لتقدمنا. إننا بهذا الاعتقاد ألغينا التاريخ، وألغينا العلاقات التاريخية، بيننا وبين الغرب، وألغينا أيضا كل صيرورة المسلسل التاريخي والاجتماعي، الذي أدى في أوروبا إلى ظهور الثورة الصناعية والثورة السياسية. "
هذا المعنى يكرره في كتبه، فالأمر معقد وإلا لأخذت أمم الأرض بذلك وتقدمت بيسر وسهولة.
القضية الثانية التي يكررها د. غليون خصوصا في كتابيه (حوارات من عصر الحرب الأهلية ) ، و (اغتيال العقل ) .. فهو يكرر كثيرا جدا أن
[ ص: 87 ] الحاجة ملحة إلى إحياء التراث، والأخذ من الحضارة الغربية، ويشترط عدم الاكتفاء بعنصر واحد.
يقول
د. غليون >[12] : (من الوهم أن تعتقد جماعة أنها تستطيع أن تندمج في الحضارة من دون أن تحيي تراثها، إن بالتغاضي أو بالتخلي عنه، فالنتيجة لن تكون إلا انتقاما أكبر للماضي من الحاضر، وتهديدا أعظم، لأي جهد تجديدي، كما أنه من الوهم أن تعتقد جماعة أيضا أن تراثها بمفرده -مهما كانت عظمته- يمكن أن يحفظ لها استقلالها وحريتها، ونجاعتها التاريخية ) .
إن اكتساب التراث الحضاري الجديد، لا يشكل شرطا أساسيا لدخول التاريخ المعاصر فحسب، ولكنه شرط أساسي أيضا، لإعادة الفاعلية والقيمة الجادة للتراث القديم.
إن مصير الأمم مرهون بمقدرتها على أن تجعل من تراثها -أي من ثمرة أجيالها الماضية وتراكماتها- رأس مال قابلا للتوظيف في عمليات التجديد والتحضر الكبرى.
يمكن الزعـم بأن الأمـة يمكن أن تطيـر بجناحين: التراث والتحضر. إن د. غليون يعاود الفكرة مرارا ويقلبها على عـدة أوجـه، فيقـول: هـناك مشكلة مفادها
>[13] : (الاعتقاد بأن مجتمعنا لم يستطع أن
[ ص: 88 ] يستوعب الحضارة الحديثة ) لأن ثقافته وتراثه تقليديان، وهذا ينفي عن عملية الحضارة والتحضر كل طابعها الاجتماعي والتاريخي الصراعي. فهل لو طبقنا في بلادنا القوانين (اللبرالية) مثلا، أصبح لدينا بالضرورة صناعة حديثة؟
نحن نقول بالعكس، لو طبقنا نفس الحلول، التي طبقتها المجتمعات الغربـيـة، دون النظـر إلى تغير الظـروف التاريخية، وأهمها بالضبط تحول الغرب إلى (مركز للحضارة ) يتحكم بآلياتها ووسائلها، ويصارع ليبقى المحتكر الأول لها، لوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.. أي زيادة التأخر والتبعية...
لا يعني هـذا رفض (التحديث ) وإنما يعني ربطه بمعيار واضح، اجتماعي وقيمي أو أخلاقي. باختصار، لا لتدمير الهوية، لا لفصل العرب عن العالم، ولا لأي سياسة أو خطة تطمس أحد قطبي التناقض، لصالح القطب الآخر.
القضية أحسبها واضحة، فهناك في مجتمعنا من هـو زاهد في التراث، بل يرى فيه عقبة كبرى، ويسخر من الهوية، فالعالم صار قرية واحدة، ولا معنى للتشبث بالهوية الخاصة، ولذا فالحل في نظره سهل ميسور، نتجاهل التراث، ونهمل الهوية، ونندمج في حضارة اليوم.
[ ص: 89 ]
وقد وجدت د. غليون يطرح أسئلة فيقول
>[14] : (ماذا نريد من الحضارة، وماذا نريده كمجتمع، وما هـي أهدافنا؟ )
هل نحن نسعى إلى أن يكون لمجتمعنا (واجهة حديثة شكلية ) ، تجعـله يـبدو مشابها لغيـره من المجتـمعات الحديثـة، أم نريـد أن يكـون له وظائف إبداعية وإنتاجية مشابهة -وليست مماثلة- لما لدى هـذه الأخيرة؟
أي هـل المقصود تحديث القائم والتراث أو هـل أن تحديث التراث، يقدم حلولا مفيدة، أم أن الحلول قائمة خارجه، وعلينا نحن أن نبدعها؟.. أسئلة جيدة، تستحق التفكير.
د. غليون لا يمل طرح القضية، ومن زوايا متعددة، فهو يقول مثلا: إن التحديث العقلي لا يحل لنا مشكلة، لأنه يحذف الوعي، ويشرح ذلك فيقول
>[15] : (إنه يقوم على الاعتقاد بأنه إذا نجحنا في تبني مؤسسات مشابهة للمؤسسات العلمية والثقافية الغربية، وفي أن نصبغ أفكارنا وقيمنا وطريقة بحثنا بالصبغة العلمية، وصلنا إلى الحضارة، ودخلنا في المعاصرة، أي أصبح لدينا قيم وفكر وعلم مماثل لعلم الغرب وقيمه، وأصبحنا بالتالي متحضرين أو أصحاب حضارة، وخرجنا من دائرة الهامشية وانعدام الفعل. )
[ ص: 90 ]
ليست هـذه إلا مسألة (مصطنعة ) في نظرنا، وشكلية ولا قيمة لها، إذ النهضة الثقافية والفكرية، ليست مرتبطة بمماثلة أو مشاكلة الغرب، ولا تعـني التوصـل إلى تحقيـق نفس الوظائف الاجتـماعية أو الثقافية، بل نحن نعتقد أن هـذه (المماثلة ) هـي السبب في إخفاق العقل العربي الحديث، وفشل النهضة الثقافية.
يتحدث بعد ذلك عما يسميه الثقافة الحية والثقافة الميتة، الثقافة الحية تكون -عادة- قادرة على إيجاد وإبداع حلول جديدة لكل وضع جديد.
أما الثقافة التي تعجز عن ذلك فهي ميتة أو (تكرارية ) ، تشتغل بمشاكل غيرها، وتعجز عن القيام بواجباتها، فتضطر لتركها إلى غيرها.. وينهي موضوعه قائلا
>[16] : (وكلما تماثلت البنيات الثقافية العربية مع البنيات الثقافية الغربية وحاكتها، أصبحت -بالضرورة- أقل قدرة على إدراك خصوصيات مجتمعها، وفقدت بالتالي قدراتها الإبداعية، ومبرر وجودها) . فهل يقنع هـذا متغربينا؟