ثانيا: العامل الجغرافي
الإنسان قديما كان يسكن ويعيش قريبـا من الماء، ليتزود منه ويسقي حيواناته وزرعه، أما اليـوم فلديه آلات تدفع بالماء بعيدا، ويبدو أن الواقع القديم حمل البعض من مفسري التاريخ، ومن الراصدين للتحضر، للربط بين التحضر والموقع الجغرافي، فجل الحضارات القديمة قامت في أحواض الأنهر، فجاء من يعتبر العامل الجغرافي ذا أثر بالغ في التحضر، ومن هـنا راح يدرس الأرض وتضاريسها، والموارد وحجمها. ثم عرج البعض على المناخ، ليصل في النهاية إلى أن هـذه العوامل تشق لأصحابها طريق التحضر، وسبل التـمـدن، وهي تفرض على أهـل القـطر السـير فـي مقدمـة الـقافلـة أو مؤخرتها، وبفضل هـذا العامل اختلفت الحضارات.
ولما كانت طبيعة الصحراء مثلا تختلف عن السهول، لذا فحضارتها تختلف كذلك.. وهكذا تختلف البلاد الجبلية عن الأرض السهلة فتختلف حضارتهما، كذلك تساهم وفرة المياه وشحها، حرارة الأرض وبرودتها، جفافها ورطوبتها...إلخ.
لقد ركزوا على العامل الجغرافي، لكنهم عادوا فاختلفوا، فمنهم [ ص: 124 ] من قدم المناخ، فجعله العامل الأول، ومنهم من قدم الأرض وجدبها وخصبها، ليأتي من يتعلق بالطرق والمسالك...
ولا يمكن إنكار أثر العامل الجغرافي في تكوين وتلوين الحضارة، لكن العيب الكبير يتمثل هـنا بتجاهل الإنسان، وهو صانع الحضارة، فالحضارة أولا جهد بشري، يستخدم فيه الإنسان المواد المتوفرة، لذا لم تقم الحضارة في جميع أحواض الأنهر، بل في بعضها دون بعض، كذلك نجد بلادا كثيرة الأمطار، غنية الموارد، الشمس مشرقة فيها طوال العام، ومع ذلك مازالت تنتظر دورها في الحضارة، والذي قد يطول قرونا.
هذه اليابان مساحتها بقدر مساحة بعض البلاد العربية، ثلاثة أرباع أرضها جبلية، مناخها قاري، حار صيفا، بارد شتاء، مواردها شحيحة، يعيش فيها أكثر من (125 ) مليون من البشر.. وبفضل الإنسان الياباني، فقد تخطى كل المصاعب، فكان هـذا البلد مثالا للإنسان الجاد المنتج المتغلب على المصاعب.
لقد عوض الإنسان الياباني كل نقص في موارد بلده، وهناك شعوب تملك كل الموارد، وتعيش تحت خط الفقر.. فالإنسان قبل الأرض، وقبـل المنـاخ؛ لأن الحضـارة صناعة بشـريـة، قبل أن تكون شيـئـا آخـر. [ ص: 125 ]
التالي
السابق