ثامنا: الحضارة والكائن العضوي
>[1] هناك من يعتقد بأن الحضارة والمجتمعات الإنسانية كيانات (عضوية ) ، ومن هـذا المنطلق يرون أن التبدل والتغير، نشوءا واكتمالا وزوالا، تحكمه عوامل حتمية، كتلك التي تفعل في الكائنات العضوية. ويضربون مثلا بالإنسان فهو يولد طفلا، ثم يصير صبيا فشابا فرجلا، ثم يشيخ ويهرم ويموت، والحضارة كذلك.
ولعل
(أوزولد اشبنجلر ) أشهر المؤمنين بذلك، لكنه أحيانا يعدل عن هـذا التصور، فيشبه الحضارة بفصول السنة، ويرى ذلك من (الحتميات ) التي لا تشذ عنها حضارة، فهو يقول
>[2] : (إن لكل حضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، يعقب ذلك صيف تنضج فيـه، ثم خـريف حيـث يسودها التحليل العقلي، وشتاء تكـون فـيه
[ ص: 137 ] قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتتحول إلى الاحتمالات المـادية، والفتوحات الخارجية، وعندها تكون قد شارفت على الانحلال والانهيار ) .
الحتمية واضحة جدا، ولكن الحضارة -في أصلها- ليست كذلك، فهي خليط من ماديات وأفكار وعقائد وآداب وفنون، ومنشآت مادية، كل هـذا الكم يجتمع في زمان ومكان، مكونا حضارة معينة.
وهذا لا يشبه الإنسان أو الكائن العضوي المتماسك المترابط، والذي ما أن تؤثر على جزء فيه حتى يتأثر الباقي.
الحضارة قد تقع في أخطاء قاتلة، فتنجح في تجاوزها ومعالجتها، فتجدد حياتها وديمومتها، لكن الإنسان يعجز عن تجديد شبابه.
وبالجملة، فإن تصور الحضارة وكأنها كائن عضوي، أمر يصعب قبوله، وإن كان بعض مكوناتها يتأثر ببعض، فالعقيدة يمكن أن تؤثر تأثيرا كبيرا في الآداب، لكن تأثيرها على الصناعة مثلا، سيكون أقل.
بهذا الخصوص يمكن أن أذكر أن العرب حين باشروا الترجمة عن معارف اليونان، اختاروا الفلسفة والمنطق، لكنهم لم يترجموا الآداب اليونانية -مع جمالها- لأنها كانت وثنية، تعتقد بتعدد الآلهة، وهذا زهد المسلمين بها، وجعلهم يتحاشون ترجمتها.
[ ص: 138 ]