الثاني عشر: الدافع الحضاري
قد تتوفر للإنسان إمكانات كبيرة، لكنه لا يتحرك ولا يستغل هـذه الإمكانات، وقد تكون الفرص قليلة، والإمكانات كذلك، ولكن قوة في نفس الإنسان تدفعه للعمل والتشبث، وقل مثل هـذا في الشعوب
[ ص: 146 ] والأمم، وقد توهم بعضهم فقال: إن التحضر هـو من نصيب شعوب بعينـها، وثمة شعوب أخـرى غير مستعدة لـذلك، وإن وافـتها الفـرص، إلا أن التاريخ يشهد بغير ذلك، فكل من واتته فرصة اهتبلها وأقام حضارة.
وما يصدق على الأفراد، يصدق على الشعوب والأمم، وهذه
اليابان ، قد تجاوزت شح البلاد، وقلة الخيرات؛ لأنها كانت مصممة على صعود سلم التحضر، وبأسرع وقت ممكن، بينما نجد بلادا فيها الكثير الكثير من الخيرات، وهي تراوح مكانها، أو تسير ولكن إلى الخلف، وإلى مؤخرة القافلة.
إن الأفكار حين تحل في النفوس حلولا إيمانيا، يكون حلولها دافعا نفسيا قويا للتحضر، والتغلب على المصاعب.
إن الأفكار قد تسيطر على نفوس أصحابها، فتدفع بهم إلى العمل الموحـد، مـع شـيء من إنكـار الـذات، والزهد في المغنـم.
وهنـا أتذكر ما يكرره
(مالك بن نبي ) يرحمه الله من أن الحضارة تبدأ روحية نشطة، يعمل أصحابها بجد وإخلاص، ونكران ذات، فتحقق إنجازات كبيرة، ثم يعقب ذلك مرحلة عقلانية، تفلسف المرحلة السابقة، يلي ذلك مرحلة ثالثة، تثور فيها الغرائز، فتتفسخ الحضارة وتسقط.
>[1] .
[ ص: 147 ]
وهذا التوصيف ينطبق انطباقا عاليا على الحضارة الإسلامية.
وإذا نظرنا لرواد الحضارة الغربية، وجدناهم في منتهى الجد والتفاني، فإذا نظرنا اليوم إلى مجتمعات (الإنشورنس )
>[2] نجدها تفتقد كل تلك الصفات الجيدة.
إن هـمها الأول اليوم أن تكسب، ولو بالتهرب من العمل، للحصول على (الضمان ) .. وفضائح الفساد تتوالى، من الكبار والصغار معا، لقد ذهب الرواد، وذهبت معهم التضحيات، ونكران الذات.
وكل حضارة تعرف جيدا الفرق الكبير بين الرواد المؤسسين وذلك النفر البائس المتكاسل، الذي يشهد سقوط الحضارة، وفي الأندلس عبرة لكل معتبر.
دخلناها بـ (000،12) مقاتل، وحكمناها قرونا، وأقمنا أروع حضارة، وخسرناها ونحن أكثر من أربعة ملايين مأزوم مهزوم، فلم تضرنا القلة، ولا رفعت عنا الكارثة الكثرة، لقد صرنا (غثاء ) ، والسيل متى جاء حمل معه ما خف وزنه، وقل نفعه، أما النافع فيبقى في أرضه، ولا يفلح السيل في جرفه.
وأوجه للقارئ الكريم سؤالا: هـل يزعجك ويغضبك تخلف أمتك، وهل لديك مشروع للتحضر والنهوض؟ أم شعارك: نفسي نفسي، ثم ليكن الطوفان؟!
[ ص: 148 ]